لم يقص الله تعالى ما مضى من السنن إلا لأخذ العبرة واقتناص الدروس لما يُستقبل ولمعالجة واقعنا على وفقها وضوئها، وهذا من معاني النور التي وصف تعالى بها كتابه.. ومن هنا نقدم هذه المعالجة لبيان سنته تعالى في الظالمين..

العبرة والتدبر

الحمدلله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أما بعد:

فقد أمرنا الله عز وجل في كتابه الكريم وفي أكثر من آية أن ننظر ونتدبر في سننه سبحانه التي لا تتبدل ولا تتحول كي نعتبر بها ونسير في ضوئها ونفسر بها ما يحل بنا من مصائب وأحداث ويهدينا الله بها إلى سبيل الخروج منها والسلامة من عواقبها ومآلاتها.

قال الله عز وجل ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ (آل عمران:137).

وقال سبحانه ﴿فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ (فاطر:43).

وإن من سنن الله عز وجل التي لا تتبدل ولا يُستثنى منها أحدٌ من خلقه: الآية التي اخترتها عنواناً لهذه المقالة؛ وهي قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الأنعام:129).

تناول المفسرين للآيات الكريمات

وقبل الدخول في تفسير بعض الأحداث المعاصرة في ضوء هذه الآية الكريمة والسنة العادلة الحكيمة أذكر هنا بعض أقوال المفسرين في بيانهم لمعنى هذه الآية المتضمنة لسنة من سنن الله العظيمة.
يقول القرطبي رحم الله تعالى:

وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع عن ظلمه سلط الله عليه ظالماً آخر، ويدخل في الآية جميع من يظلم نفسه أو يظلم الرعية أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق وغيرهم، وقال فضيل بن عياض: إذا رأيت ظالماً ينتقم من ظالم فقف وانظر فيه متعجباً.

وقال ابن عباس: إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم وإذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم، وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أعان ظالماً سلطه الله عليه) قال ابن عباس: تفسيرها “هو أن الله إذا أراد بقوم شرا ولى أمرهم شرارهم” يدل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾.(الشورى:30). (1تفسير القرطبي 7/ 76)

ويقول الرازي رحمه الله تعالى:

 المسألة الثانية: الآية تدل على أن الرعية متى كانوا ظالمين، فالله تعالى يسلط عليهم ظالماً مثلهم فإن أرادوا أن يتخلصوا من ذلك الأمير الظالم فليتركوا الظلم. (2تفسير الرازي 13 / 15)

ويقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى:

أي كذلك من سنتنا أن نولي كل ظالم ظالماً مثله يؤزه إلى الشر ويحثه عليه ويزهده في الخير وينفره عنه، وذلك من عقوبات الله العظيمة الشنيع أثرها، البليغ خطرها والذنب ذنب الظالم فهو الذي أدخل الضرر على نفسه، وعلى نفسه جَنَى، ﴿وما ربك بظلام للعبيد﴾.

ومن ذلك أن العباد إذا كثر ظلمهم وفسادهم ومنْعهم الحقوق الواجبة ولّى عليهم ظلمة يسومونهم سوء العذاب ويأخذون منهم بالظلم والجور أضعاف ما منعوا من حقوق الله وحقوق عباده على وجه غير مأجورين فيه ولا محتسبين.

كما أن العباد إذا صلحوا واستقاموا أصلح الله رعاتهم وجعلهم أئمة عدل وإنصاف لا ولاة ظلم واعتساف. (3تفسير السعدي صـ 273)

سنة الله الماضية

نخلص من أقوال المفسرين في شرحهم لمعنى الآية الكريمة أن من سنن الله عز وجل الماضية في عباده والتي لا تتبدل ولا تتحول أن الأمة إذا فشى فيها الظلم والمعاصي بين أفرادها ولا سيما المعاصى الظاهرة وقَلّ الإنكار لها فإن الله عز وجل يسلط عليهم ظالما أقوى منهم؛ يظلمهم ويضيق عليهم في عيشهم وأرزاقهم ويمنع عنهم حقهم ويضرب عليهم الضرائب والمكوس التي تسبب لهم المشقة والعناء والعنت في حياتهم.

ويشهد لهذا قوله تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير﴾ (الشورى:30) وقوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم:41).

الظالمون ليسوا برءاء

ولا يعني هذا تبرئة الظالم المتسلط على الناس من حاكم أو وال أو رئيس ومدير أو تبريرا لظلمه؛ فإنه ظالم آثم بمنعه الناس حقوقهم وبفرضه عليهم ما لم يفرضه الله عز وجل عليهم.

ولكن المراد تفسير ما يحدث وبيان سنة الله عز وجل في أن الظالمين لأنفسهم بالمعاصي وللناس بمنعهم حقوقهم إذا أصروا على ذلك فإن الله عز وجل يسلط عليهم من هو أظلم منهم جزاء معاصيهم وظلمهم لعلهم يتوبون ويرجعون ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (العنكبوت:40).

بل إن الله عز وجل وفي ضوء هذه السنة يسلط على الحاكم المستبد الذي يظلم رعيته وينشر فيهم الفساد ظالما أظلم منه وأقوى يستبيح البلاد ويدمر اقتصادها ويذلّ ولاتها.. وهكذا تعمل هذه السنة الإلهية في تسليط الظالمين بعضهم على بعض، وصدق الله العظيم ﴿وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾.

واقعنا في ضوء هذه السُنّة

إنه لا يخفى ما تعانيه اليوم الشعوب المسلمة في بلدانها من نقص في الأموال والثمرات وما يفرضه حكام هذه الشعوب عليهم من ضرائب ومكوس وتضييق عليها في أرزاقها ومعيشتها؛ فانتشرت البطالة والغلاء الفاحش في الأرزاق وأصبح الناس في ضيق من الحال وعاشوا حياة العنت في أرزاقهم ومعايشهم.

وانقسم الناس في مواقفهم من هذه المصائب ومواجهتهم لها إلى فريقين:

الفريق الأول: يشتكون ولا يتدبرون

وهم الأكثرون الذين نظروا إلى ما حلّ بهم من النقص في الأموال والأرزاق وغلاء المعيشة بأنه ظلم حل بهم من أصحاب القرار.

ولا شك أنه ظلم ولكن مصيبة هذا الفريق أنهم وقفوا عند الحديث عن مظلوميتهم وألقوا بالأسباب كلها على من ظلمهم ولم يسألوا أنفسهم لماذا حل بنا هذا الظلم وما هي أسبابه؟ وهل نحن جزء من هذه الأسباب؟

إن هذا البُعد قد غيبه هذا الفريق عن عقولهم ونظروا إلى أنفسهم وكأنهم أولياء لله صالحون ليس لهم من الذنوب مايعاقبون بسببها. وبسبب هذه النظرة المادية إلى مايحدث من المصائب تخلف العلاج الصحيح لهذه المصيبة وأخطأوا الطريق الصحيح الذي يرفع الله بها البلاء عن الناس.

المبالغة في جانب دون آخر

وكان من جراء ذلك أن بات الناس يدوكون ويخوضون في مجالسهم وفي مواقع التواصل الاجتماعي في ما حلّ بهم، ولماذا يكون كذا ولماذا لا يكون كذا، وأخطأ فلان وأصاب فلان، وطرف يتظلم وآخر يبرر، وظهر على الناس الهلع والخوف على الأرزاق وماذا يخفي المستقبل لهم وغير هذا من التخوفات والتحليلات.

وأكرر هنا ما ذكرته آنفاً من من أن هذا ليس مبرراً ولا تبرئة لظلم المتسلطين فهم جزء من أسباب المصيبة وليس كلها.

الفريق الثاني: والنظرة الربانية لجريان الأحداث

وهم الفريق الذي استضاءوا بنور القرآن الكريم وما فيه من كلام رب العالمين الذي هو الحق المبين وتدبروا سنته سبحانه التي قد خلت في عباده، وساروا في ضوئها وفسروا الأسباب والحوادث بمقتضاها..

ومن ذلك قوله سبحانه: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ وقوله سبحانه: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير﴾ ورأو أنه ما وقع بلاء إلا بذنب ولا رُفع إلا بتوبة.

وفي ضوء ذلك رأو أن الظلم الذي يسلَط على الناس من سلاطينهم لم يحصل عبثاً ولا لمجرد خطأ وظلم فحسب من أصحاب القرار؛ وإنما هي سنة الله عز وجل في تسليط الولاة على رعاياهم بأنواع من الظلم بسبب ما أحدثوه من المعاصي والبدع والمظالم بينهم جزاءً وفاقا، وذلك بسبب ظلمهم لأنفسهم ولغيرهم كما مر بنا آنفاً في أقوال المفسرين لآية الأنعام.

وإن هذه النظرة الشرعية الصحيحة من هذا الفريق تقودهم بإذن الله عز وجل إلى معرفة المخرج والطريق الذي يسلكونه ليرفع الله ماحل بهم من المصائب، ألا وهي التوبة إلى الله تعالى والإنابة إليه والإقلاع عن موجبات العقوبة والبلاء..

قال الله عز وجل ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (الأنعام:43-45).

أسباب رفع البلاء

لقد أرشدَنا الله عز وجل في هذه الآية التي تفزع منها قلوب المؤمنين إلى أسباب رفع البلاء إذا حل بالناس وذلك في قوله تعالى ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ أي هلّا تابوا وأقلعوا عن ذنوبهم التي كانت سبباً في نزول البلاء فإن الله عز وجل يرفع بالتوبة المحن والمصائب عن الناس كما قال علي رضي الله عنه: «مانزل بلاء إلا بذنب ولا رُفع إلا بتوبة»..

ثم حذرنا الله عز وجل من التمادي في الذنوب وعدم التوبة منها فإن هذا يدل على قسوة القلوب واستكبارها واتباع خطوات الشيطان وتزيينه؛ قال سبحانه ﴿وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.

ثم حذرنا الله عز وجل من مكره واستدراجه للناس في حال عدم تضرعهم وتوبتهم إلى الله عز وجل فقال ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.

الوعيد بفتنة السَرّاء..!

إن الله عز وجل في هذه الآيات يتوعد الذين لم تُرجعهم المصائب إلى الله عز وجل ـ فيتوبوا من ذنوبهم ـ بفتنة وبليّة أخرى هي أشد من فتنة الضراء؛ ألا وهي فتنة السراء وفتح أبواب الدنيا والنعم والترف عليهم حتى إذا فرحوا بها وظنوا أنهم قادرون عليها جاءتهم العقوبة الماحقة التي تهون عندها المصيبة الأولى، سواء في شدتها أو في كونها تأتي إلى الناس بغتة لم يحسبوا لها حساباً.. نسأل الله عز وجل السلامة والعافية.

تواطؤ القرآن على المعنى نفسه

ومثل هذه الآية في معناها قوله تعالى في سورة الأعراف ﴿وما أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف:94-96).

  والمتدبر لآيتي الأنعام والأعراف يرى في آية الأنعام أن الله عز وجل ذكر في فتنة السراء والاستدراج ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ولكن بدون بركة بينما في سورة الأعراف قال في نعمة التقوى وطاعة الله وثمرتها ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ فذكر البركة هنا..

فهلّا تدبرنا هذه الآيات ومثيلاتها التي تفزع منها قلوب الذين يخشون ربهم ويقفون مع سنته التي لا تتبدل ولا تتحول.

خاتمة .. الأمر حق؛ لا مبالغة

وقد يرى بعض الناس أن في هذا الكلام مبالغة في التخويف ومبالغة في ذكر الذنوب وكونها هي السبب فيما نعيشه من مصائب. والحقيقة أن ذلك هو الواقع، وهو قول رب العالمين الذي بيده الخلق والأمر وهو الحكيم العليم؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾.

…………………………………..

هوامش:

  1. تفسير القرطبي 7/ 76.
  2. تفسير الرازي 13 / 15.
  3. تفسير السعدي صـ 273.

لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:

اقرأ ايضا:

  1. الجزء الثاني من المقال
  2. اسم الله (القيوم) وآثاره في الأحداث المعاصرة
  3. من قيم الإيمان
  4. الحرب على التوحيد في مؤتمرات الضرار

التعليقات غير متاحة