للعمل البشري أثره فيما ينزل بالعبد؛ فالله تعالى عدل وحكيم ورحيم؛ فمما ينزل بالعبد من المصائب عقوبات، ومنها إيصال رسائل؛ فلا يخافن عبد إلا ذنبه؛ فلْيتب ولْيراجع.
مقدمة
ذكرنا في الجزء الأول أن هناك طريقتين للنظر الى الأحداث والتعامل معها وهما طريق من يشتكون ولا يتدبرون. وطريق ثانٍ وهو طريق من ينظرون للأحداث نظرة ربانية من خلال نور القرآن العظيم .. وهنا يوضح أمثلة لمنكرات معاصرة، والتخوف من آثارها..
أثر العمل البشري في النعم والمصائب
أسباب رفع البلاء
لقد أرشدَنا الله عز وجل في هذه الآية التي تفزع منها قلوب المؤمنين إلى أسباب رفع البلاء إذا حل بالناس وذلك في قوله تعالى ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا﴾ أي هلّا تابوا وأقلعوا عن ذنوبهم التي كانت سبباً في نزول البلاء فإن الله عز وجل يرفع بالتوبة المحن والمصائب عن الناس كما قال علي رضي الله عنه: «مانزل بلاء إلا بذنب ولا رُفع إلا بتوبة»..
ثم حذرنا الله عز وجل من التمادي في الذنوب وعدم التوبة منها فإن هذا يدل على قسوة القلوب واستكبارها واتباع خطوات الشيطان وتزيينه؛ قال سبحانه ﴿وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
ثم حذرنا الله عز وجل من مكره واستدراجه للناس في حال عدم تضرعهم وتوبتهم إلى الله عز وجل فقال ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
الوعيد بفتنة السَرّاء..!
إن الله عز وجل في هذه الآيات يتوعد الذين لم تُرجعهم المصائب إلى الله عز وجل ـ فيتوبوا من ذنوبهم ـ بفتنة وبليّة أخرى هي أشد من فتنة الضراء؛ ألا وهي فتنة السراء وفتح أبواب الدنيا والنعم والترف عليهم حتى إذا فرحوا بها وظنوا أنهم قادرون عليها جاءتهم العقوبة الماحقة التي تهون عندها المصيبة الأولى، سواء في شدتها أو في كونها تأتي إلى الناس بغتة لم يحسبوا لها حساباً..
نسأل الله عز وجل السلامة والعافية.
تواطؤ القرآن على المعنى نفسه
ومثل هذه الآية في معناها قوله تعالى في سورة الأعراف:
﴿وما أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف:94-96).
والمتدبر لآيتي الأنعام والأعراف يرى في آية الأنعام أن الله عز وجل ذكر في فتنة السراء والاستدراج ﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ولكن بدون بركة بينما في سورة الأعراف قال في نعمة التقوى وطاعة الله وثمرتها ﴿لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ فذكر البركة هنا..
فهلّا تدبرنا هذه الآيات ومثيلاتها التي تفزع منها قلوب الذين يخشون ربهم ويقفون مع سنته التي لا تتبدل ولا تتحول.
الأمر حق .. لا مبالغة
وقد يرى بعض الناس أن في هذا الكلام مبالغة في التخويف ومبالغة في ذكر الذنوب وكونها هي السبب فيما نعيشه من مصائب. والحقيقة أن ذلك هو الواقع، وهو قول رب العالمين الذي بيده الخلق والأمر وهو الحكيم العليم؛ قال تعالى: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾.
ولكي ندرك خطورة الأمر وكثرة المعاصي اليوم في مجتمعات المسلمين ..أذكر على سبيل المثال:
أمثلة للمعاصي والمنكرات الظاهرة
ألم ينتشر الشرك الأكبر والسحر والشعوذة في أكثر بلاد المسلمين..؟
ألم تنتشر البدع والمحاكم التي يتحاكم فيها الناس إلى قوانين البشر التي لم يأذن بها الله..؟
ألم يتساهل كثير من الناس بشأن الصلاة والزكاة وهما أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين؟؟؟
ألم يقع بعض المسلمين في عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام وظلم العباد؟
ألم يفْشُ الربا الخبيث في معاملات كثيرة بين المسلمين..؟
ألم يقع بعض المسلمين في تعاطي المسكرات والمخدرات وكثرة الغش في المعاملات ووجد من يبخس الناس حقوقهم ويأكل أموالهم بالباطل ويتعاطى الرشوة التي لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الساعي فيها ودافعها وآخذها..؟
ألم يكثر الفجور في الخصومات والزور في الشهادات..؟ ألم يتساهل كثير من النساء بالحجاب ويتبرجن بزينة الثياب..؟
ألم يوجد الزنا والخبث وكثرة وسائله الخبيثة الماكرة من قنوات ومجلات خليعة تدعوا إلى الفاحشة وتحببها للنفوس وتزينها وامتلأت بيوت المسلمين من الفضائيات التي تنشر العفن والفساد فقلت بذلك الغيرة على الدين والعرض ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..؟
ألم يظلم بعض الناس العمالة التي تحت أيديهم بتكليفهم ما لا يطاق أو بعدم الوفاء بعقودهم أو بمنعهم أجورهم ورواتبهم المستحقة لهم..؟
ومع كثرة هذه المنكرات فإن المنكر لها قليل.
مبدأ التغيير
لقد قضى الله سبحانه في كتابه سنة ثابتة هي قوله ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ (الرعد:11) فالتغيير يبدأ من داخل أنفسنا قبل أن نُسقط أسباب مصائبنا على غيرنا.
فالله عز وجل يخبرنا في هذه الآية أنه لا يغير النعم التي أنعم بها على العبد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه فيغير طاعة الله بمعصيته وشكره بكفره فإذا غير غُير عليه، جزاءً وفاقاً وما ربك بظلام للعبيد. فإن غيّر المعصية بالطاعة وتاب الى الله عز وجل غيّر الله العقوبة بالعافية والذل بالعز. (1انظر الجواب الكافي صـ105 باختصار وتصرف يسير)
ومن العجيب الغريب أننا نشاهد ذلك في أنفسنا وعلى غيرنا ومع ذلك لا نتعظ إلا من رحم الله تعالى.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
ومن العجيب عِلم العبد بذلك مشاهدةً في نفسه وغيره وسماعاً لما غاب عنه من أخبار مَن أزيلت نعم الله عنهم بمعاصيه، وهو مقيم على معصية الله كأنه مستثنى من هذه الجملة أو مخصوص من هذا العموم وكأن هذا الأمر جار على الناس لا عليه وواصل إلى الخلق لا إليه..
فأي جهل أبلغ من هذا؟ وأي ظلم للنفس فوق هذا؟ فالحكم لله العلي الكبير. (2الجواب الكافي صـ45)
تأملات لابن القيم في وقائع عقوبات الظالمين
ونعود بعد ذلك إلى مسألة تسليط الظالمين بعضهم على بعض بما كانوا يكسبون لأنقل هنا كلاماً نفيساً لابن القيم رحمه الله تعالى وكأنه يعيش واقعنا ومصائبنا.
يقول رحمه الله تعالى:
وتأمل حكمة الله عز وجل في حبس الغيث عن عباده وابتلائهم بالقحط إذا منعو الزكاة وحرموا المساكين؛ كيف جُوزوا على منع ما للمساكين قِبَلهم من القوت بمنع الله مادة القوت والرزق وحبسها عنهم، فقال لهم بلسان الحال منعتم الحق فمُنعتم الغيث فهلا استنزلتموه ببذل ما لله قِبَلكم؟
وتأمل حكمة الله تعالى في صرفه الهدى والإيمان عن قلوب الذين يصرفون الناس عنه فصدهم عنه كما صدوا عباده؛ صدا بصد ومنعا بمنع.
وتأمل حكمته تعالى في محْق أموال المرابين وتسليط المتلِفات عليها كما فعلوا بأموال الناس ومحقوها عليهم وأتلفوها بالربا جُوزوا إتلافا بإتلاف؛ فقَلَّ أن ترى مرابيا إلا وآخرته الى محقٍ وقِلةٍ وحاجة.
وتأمل حكمته تعالى في تسليط العدو على العباد إذا جار قويُهم على ضعيفهم ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه كيف يسلط عليهم من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواء بسواء وهذه سنة الله تعالى منذ قامت الدنيا إلى أن تطوى الأرض ويعيدها كما بدأها.
وتأمل حكمته تعالى في أن جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم؛ فإن استقاموا استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم، وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك.
وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق وبخلوا بها عليهم، وإن أخذوا ممن يستضعفونه ما لا يستحقونه في معاملتهم أخذت منهم الملوك ما لا يستحقونه وضربت عليهم المكوس والوظائف، وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة.
فأعمالهم ظهرت في صور عمالهم، وليس في الحكمة الالهية أن يولى على الأشرارِ الفجارِ إلا من يكون من جنسهم.
ولما كان الصدر الأول خيار القرون وأبرها كانت ولاتهم كذلك؛ فلما شابوا شابت لهم الولاة..
فحكمة الله تأبى أن يولي علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية وعمر بن عبدالعزيز فضلا عن مثل أبي بكر وعمر، بل ولاتنا على قدرنا وولاة من قبلنا على قدرهم، وكل من الأمرين موجَب الحكمة ومقتضاها.
ومن له فطنة إذا سافر بفكره في هذا الباب رأى الحكمة الالهية سائرة في القضاء والقدر ظاهرة وباطنة فيه كما في الخلق والأمر سواء فإياك أن تظن بظنك الفاسد أن شيئا من أقضيته وأقداره عار عن الحكمة البالغة بل جميع أقضيته تعالى وأقداره واقعة على أتم وجوه الحكمة والصواب. (3مفتاح دار السعاده 1/ 234،254)
وأنبه هنا وأكرر ما ذكرته في الأوراق السابقة من أن هذا التقرير من ابن القيم رحمه الله تعالى لا يعني تبرئة السلطان الظالم وتبرير ظلمه، كلا؛ فهو مشارك في الظلم.
وإنما المقصود التنبيه على أن لا يبرّئ الناس أنفسهم ويزكونها بل عليهم أن يعلموا أن المعاصي التي تظهر في حياتهم مع الإصرار والمجاهرة هي سبباً في تسليط الظالم عليهم.
محل الاهتمام بالدين في حياتنا
إن مما يؤسف له أن كثيرا منا يرى حرمات الله تنتهك وحدوده تضاع ومع ذلك لا نرى الغيرة على ذلك ولا نرى الهَمّ والتحرك لإنكارها، وكأن الأمر شأن لا يعنينا؛ بينما إذا مست أرزاقنا ودنيانا الفانية وطعام بطوننا فإن الأمر يتغير حيث نعلن حالة الطوارئ ويصيبنا الخوف والهلع ونبذل كل وسيلة ممكنة لتغيير ما أصابنا.. فماذا تدل عليه هذه المفارقات..؟؟
إنها تدل وبكل وضوح على أن اهتمامنا بديننا يأتي في آخر سلم الاهتمامات، هذا إن أتى؛ وإلا فاهتمامنا بدنيانا ومعاشنا ومآكلنا ومشاربنا هي في أول الاهتمامات وهذا من الذنوب.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب عنها وهو بارد القلب، ساكت اللسان، شيطان أخرس؟ كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق..
وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين؟
وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل وجدّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسْب وسعه.
وهؤلاء ـ مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم ـ قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتمّ كان غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل. (4اعلام الموقعين 2/ 177)
نُواحٌ على فوات الدنيا لا على مصيبة الدين
ويقول ابن عقيل رحمه الله تعالى:
“من عجيب ما نقدت من أحوال الناس كثرة ما ناحوا على خراب الديار، وموت الأقارب والأسلاف، والتحسر على الأرزاق بذم الزمان وأهله وذكر نكد العيش فيه، وقد رأوا من انهدام الإسلام، وشعث الأديان، وموت السنن، وظهور البدع، وارتكاب المعاصي وتقضي العمر في الفارغ الذي لا يجدي، والقبيح الذي يوبق ويؤذي، فلا أجد منهم من ناح على دينه، ولا بكى على فارط عمره، ولا آسى على فائت دهره.
وما أرى لذلك سببا إلا قلة مبالاتهم بالأديان وعظم الدنيا في عيونهم ضد ما كان عليه السلف الصالح يرضون بالبلاغ وينوحون على الدين”. (5الآداب الشرعية، لابن مفلح 2/ 345)
خاتمة
اللهم ارزقنا توبة نصوحاً ومغفرة من عندك ترفع بها مصائبنا في الدنيا وتدفع بها عنا عذابك يوم تبعث عبادك .. والحمدلله رب العالمين.
………………………..
هوامش:
- انظر الجواب الكافي صـ105 باختصار وتصرف يسير.
- الجواب الكافي صـ45.
- مفتاح دار السعاده 1/ 234،254.
- اعلام الموقعين 2/ 177.
- الآداب الشرعية، لابن مفلح 2/ 345.
لتحميل البحث كاملا على الرابط التالي:
اقرأ ايضا: