يمر العمر، ويحمل الزمن خبرات وتجارب، وتنكشف الأمور بعد مباشرتها في النفس وفي الآخرين، ويرى المؤمن مصداق الآيات الكريمات في الأنفس وفي الافاق.. ويرى واجبا عليه أن يوصي بما رآه ليعرف القادم الى الطريق معالمَه..
مقدمة للوصايا
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه، أما بعد:
أولادي وأحبائي .. هذه بعض الوصايا والنصائح الأبوية من قلب مشفق عليكم، يكتبها إليكم والدكم الذي دخل معترك المنايا، واستحصد زرعه، ومالت شمس عمره إلى الغروب..
أكتبها إليكم وقد دخلت معترك المنايا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «أعمار أمتي بين الستين والسبعين، وقليل منهم من يجوز ذلك»، وأصبح لزامًا عليّ أن أنصح لكم، وأكتب لكم عصارة عمري وتجاربي وعلمي القليل، قبل مباغتة الأجل ونزول الموت.
فهكذا كان شأن السلف مع أولادهم في نصحهم وشفقتهم عليهم، لا سيما إذا أحسوا دنوّ الأجل وفراق الدنيا وأهلها.
أسأل الله عز وجل أن تجد عندكم آذانًا صاغية، وقلوبًا واعية، واستجابة عاجلة، وأن يحسن الله عز وجل لي ولكم الختام، والله خليفتي عليكم.
جملة الوصايا
الوصية الأولى:
التوحيد وترك الشرك
تعلمون أن الله عز وجل قد خلقنا لغاية عظيمة؛ وهي عبادته وحده لا شريك له، وسخر لنا ما في السموات والأرض؛ ليعيننا بذلك على تحقيق هذه الغاية؛ فمن الغبن والخسران أن نغفل عن هذه الغاية، وأن يحل محلها هذه الدنيا الفانية؛ بحيث تصبح غاية علمنا وأكبر همنا؛ فوصيتي إليكم أن تكون الدنيا مملوكة لا مالكة لنا، وأن تكون خادمة ومسخرة لعبادة ربنا لا مخدومة.
وأوصيكم بتحقيق التوحيد في عبادة ربنا، والحذر من الوقوع في الشرك بأنواعه: الأكبر، والأصغر. وأن نحقق في توحيدنا عقيدة الولاء والبراء؛ فنوالي أولياء الله، ونعادي أعداءه.
الوصية الثانية:
اتّباع رسول الله، وسنته وهدْيه
أوصيكم باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، واقتفاء سنته وسنة أصحابه الكرام، وألا نتقدم بين يديه ببدعة أو رأي؛ لأن هذا شرط من شروط قبول العمل والعبادة؛ لقوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ (آل عمران:31)
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». (1أخرجه البخاري (2697) بنحوه، ومسلم (1718) واللفظ له)
وهذا يقتضي الانقياد للحق إذا تبين دليله، والإذعان له.
الوصية الثالثة:
التسليم لله
أوصيكم بتحقيق التسليم التام لله عز وجل؛ فلا يعارَض خبره بشبهة، ولا يعارض أمره وشرعه بشهوة، ولا تعارض أقداره بتسخط وجزع؛ لأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على ظهر التسليم، وهذا من ثمار تعظيمه سبحانه، والتعبد له بأسمائه الحسنى، وهذه هي حقيقة العبودية.
الوصية الرابعة:
تحقيق الاخلاص
أوصيكم بتحقيق الإخلاص في جميع أعمالكم، وأن تبتغوا بها وجه الله عز وجل، وليس رئاء الناس، وابتغاء الدنيا، ومديح الخلق، والاشتهار بينهم؛ لأن هذا هو الشرط الثاني لقبول العمل؛ قال الله عز وجل: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾ (الإسراء:19).
واحذروا العجب بالنفس والغرور بها، كما أوصيكم بإصلاح السريرة، وتفقّد أعمال القلوب من خوف، ورجاء، ومحبة، وإخلاص، ونعمة؛ فأساس قبول الأعمال عند الله عز وجل على ما يقوم في القلب من هذه الأعمال.
الوصية الخامسة:
تحقيق الولاء والبراء
أوصيكم بتحقيق عقيدة الولاء والبراء في حياتكم؛ بحيث يكون حبكم لبعضكم، وولاؤكم، وعداؤكم ـ كله لله وفي الله؛ توالون التوحيد وأهله وتعادون وتتبرءون من الشرك وأهله.
أوصيكم بهذه الوصية في هذا الزمان؛ الذي تعددت فيه الولاءات، وأصبح حب أكثر الناس وبغضهم من أجل الدنيا، أو من أجل رايات وشعارات جاهلية، كونوا في صف المؤمنين محبةً ونصرةً وولاءً وتبرءوا من الكافرين والمنافقين، واحذروا أن تكونوا في صفهم محبة أو نصرة أو مداهنة.
الوصية السادسة:
بر الوالدين
أوصيكم ببر والديكم، ولا سيّما أمّكم؛ التي حملتكم كرهًا، ووضعتكم كرهًا، وهنًا على وهن، وحملكم وفصالكم ثلاثون شهرًا، ومهما قدمتم لها من خدمة ومعروف؛ فلن تلحقوا جزاءها.
وبر الوالدين فيه طاعة وعبادة لله عز وجل؛ لأن الله أوصى بهما في مواضع كثيرة في كتابه الكريم، وجعل حقهما بعد حقه سبحانه.
كما أن برهما دليل على الوفاء والنبل والمروءة، وإهمال حقهما دليل على اللؤم ونكران الجميل، فضلاً عن استجلاب سخط الله عز وجل، وبرّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم، وكما تدين تدان.
الوصية السابعة:
صلة الأرحام
أوصيكم بصلة أرحامكم من الإخوان والأخوات، والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، ثم الأقرب فالأقرب؛ فلقد أمر الله عز وجل بصلة الأرحام، وأحل لعنته على قاطعيها.
وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها، ابتغاء مرضات الله والدار الآخرة.
والصلة تكون بالزيارات لهم، ومدّ يد العون للمحتاج منهم، ومشاركتهم في أفراحهم وأتراحهم، والعفو عن مسيئهم، وقبول اعتذارهم، وإقالة عثراتهم، ومناصحة المخطئ منهم فرديًا.
الوصية الثامنة:
الصلاة الصلاة
الصلاة الصلاة مع جماعة المسلمين في المساجد؛ فهي علامة على الإيمان، وأوصيكم بالتبكير لها، والمحافظة على نوافلها، والخشوع فيها، وسننها الراتبة، وفي ذلك السعادة في الدنيا والآخرة.
كما أوصيكم بالمحافظة على سنة الوتر قبل النوم، أو آخر الليل؛ ففي صلاة آخر الليل وقت النزول الإلهي إجابة الدعاء، والأنس، وجنة الدنيا.
الوصية التاسعة:
معالي الأمور والأخلاق وترك سفاسفها
أوصيكم بمعالي الأمور والأخلاق، والنفور من سفاسف الأخلاق ودناءتها، وأوصيكم بأن تكونوا عوامل بناء لأمتكم.
وأن يكون شأن الإسلام وعلوه من أول اهتماماتكم؛ بتربية أنفسكم وأولادكم على تعاليمه وأخلاقه، وبالدعوة إليه أمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، وجهادًا في سبيله، إذا بانت رايةٌ نقية، أهلُها على الحق، وجهادُهم في سبيل الله عز وجل، واحذروا راية لم يتبين لكم أمرها.
الوصية العاشرة:
البعد عن مواطن الفتن
أوصيكم بالبعد عن مواطن الفتن وأهلها، واحذروا العجلة والتسرع في اتخاذ المواقف والأحكام أمام الفتن؛ فالتؤدة كلها خير، ولا يندم صاحبها، وأكثروا من الاستخارة، واستشارة أهل العلم الراسخين المتقين، وأهل الخبرة والتجارب.
الوصية الحادية عشرة:
احذروا فتنة النساء
احذروا فتنة النساء، والوسائل المؤدية إلى ذلك، من إطلاق البصر، والنظر في المجلات، والأفلام، والمواقع السيئة.
وفكروا بعقولكم، وفرقوا بين لذة في لحظة تنتهي ويعقبها الحسرات والعقوبات، وبين صبر لحظة عن معاصي الله، يعقبها الأفراح والمسرات برضوان الله عز وجل وجنته، فأي الحالين يختار العاقل اللبيب؟
ولقد سهل الوصل إلى المعاصي في زماننا اليوم، وهذا ابتلاء من الله عز وجل لعباده ﴿لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ﴾ (المائدة:94)
الوصية الثانية عشرة:
كونوا قدوة
كونوا قدوات لأولادكم، وربوهم على أخلاق الإسلام، والشهامة، والرجولة، وبغْض الفساد وأهله، وهيئوا لهم الرفقة الصالحة؛ تجدون ثمرة ذلك في الدنيا بقرّة العين، وفي الآخرة باجتماع الشمل في جنات النعيم.
الوصية الثالثة عشر:
إياكم وظلم العباد
إياكم وظلم العباد، ولا سيما الأقربين من أزواج، وأولاد، ووالدين، وإخوان، فالظلم ظلمات يوم القيامة.
وظلم الناس يكون في أديانهم؛ بأن يتسبب الإنسان في إضلال شخص؛ سواء في عقيدته أو سلوكه، ويكون العدوان على أنفسهم بضرب أو عدوان بغير حق، ويكون بأكل أموالهم بغير حق، ويكون في أعراضهم بالغيبة والنميمة، أو قذفهم، أو سبّهم، أو السخرية منهم.
فاللهَ اللهَ في ترك ذلك كله، وردّ الحقوق إلى أهلها قبل الموت، وقبل ألا يكون دينار ولا درهم، وإنما الحسنات والسيئات .. ويا سعد من خرج من الدنيا خميص البطن من أموالهم، خفيف الظهر من دمائهم وأعراضهم.
الوصية الرابعة عشر:
تذكروا الموت ولا تنسوه
تذكروا الموت ولا تنسوه، تذكروا تلك الساعة العصيبة، والهول القادم علينا؛ هول المطلع، وغمرات الموت؛ تلك الساعة التي لا مفر منها لأحد، والتي لا تنفع عندها الحسرات، ولا «يا ليت»، و«لعل».
وتذكروا تلك الوحشة التي تهون عندها الوحشات المخيفة؛ وحشة الموت التي ترتجف لها القلوب والأجساد، ولا يضرب سوى مرة واحدة حاسمة قاضية؛ تنفصل فيها الروح عن الجسد، فإذا بالجسد الغض الطري، الذي يتحرك ويسمع ويبصر؛ جثة هامدة؛ تعطل كل شيء فيه، وتسارع أهله إلى دفنه، وتسابق إليه الدود والعفن؛ ليرجع ترابًا.
لن يبقى لكم بعد الموت عين تبصر الأنوار، والأشجار، والأمطار، والليل والنهار، ولن يبقى لكم أذن تسمع بها الأصوات، وأحداث الدنيا وضجيجها؛ فلا نهار ولا ليل، ولا يقظة ولا نوم، ولا شروق ولا غروب، ولا صيف ولا شتاء، ولا أكل ولا شرب، لا والد ولا ولد، ولا زوجة، ولا مال، ليس لكم من القبر إلا نعيم أو عذاب لا يدركه الأحياء.
إن هول المطلع شديد يا أولادي؛ فأعدّوا له عدة، ولا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور، كم نحن غافلون عن هذه الحقائق المرعبة في وجودنا والآتية إلينا لا محالة؛ لقد أشغلتنا سكرة الحياة الدنيا وملذّاتها عن عبرة الموت وسكراته، لاهين عابثين كأننا لن نموت، ها هو الموت يقرب إلينا كلما تقدم بنا العمر.
إن كل ثانية تنصرم من أعمارنا تقربنا إلى الموت، ولا تعود مرة أخرى، إن هذا الشعور ينتابني الآن وأنا أكتب هذه الوصايا قبل أن يدركني الأجل، ولا أتمكن من إكمالها، إنني أسابق الأجل خوفًا من أن يدركني فتموت جوارحي، وتذبل أصابعي، ويموت دماغي قبل أن أتم هذه الوصايا لكم، وقبل أن أكمل بعض كتاباتي للمسلمين.
إن وحشة الموت ليست محصورة في أنه ساحقٌ مُنْهٍ للحياة؛ بل إن وحشته تتجاوز ذلك إلى أنه ضيف مفاجئ؛ لا يستأذن، ولا يعترف بالمواعيد والارتباطات، ولا بالسفر ولا بالحضر، إنه صاعقة تضرب في لمح البصر، غير قابل للتأجيل ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ (المؤمنون99-100).
لقد أطلت الكلام عن الموت والقبر وأهواله؛ لأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: «القبر أول منازل الآخرة، فإن ينج منه فما بعده أيسر، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه». (2رواه الترمذي [2308]، وابن ماجه [4267])
الوصية الخامسة عشر:
حب الخير للمسلمين وسلامة الصدر لهم
أوصيكم بحب الخير لكل مسلم ومسلمة، وسلامة الصدر نحوهم، واسعوا في إعانة محتاجهم، وإغاثة ملهوفهم، والتنفيس عن مكروبهم، وزيارة مرضاهم، وتشييع جنائزهم.
وجاهدوا أنفسكم في تنقيتها من الحسد والحقد للمسلمين، ولا تمُنّوا على الناس بعطاياكم وإعاناتكم، إن كنتم أردتم ابتغاء ثواب الله عز وجل.
الوصية السادسة عشر:
جمع الكلمة ونبذ الفرقة
احرصوا على جمع الكلمة، ونبذ الفرقة، بداية فيما بينكم من إخوة وأخوات، وإصلاح ذات البين وجمع القلوب، وبذل الجهد في جمع كلمة الدعاة، والحذر من التفريق بينهم.
واحذروا من الدخول في الفتن التي تحصل بين المسلمين؛ سواء باللسان أو اليد والقتال، وفِرّوا منها واعتزلوها، ووفروا أنفسكم للجهاد في سبيل الله عز وجل مع الكفار، تحت راية نقية.
والمسلم ليس له إلا نفس وروح واحدة؛ فليجتهد ألا يضحي بها إلا في طريق يعتقد أنه في سبيل الله عز وجل، وفي مرضاته، وليس ذلك إلا في قتال أعداء الله الكافرين.
الوصية السابعة عشر:
أنفقوا في سبيل الله
أنفقوا في سبيل الله عز وجل، ولا سيما الزكاة المفروضة، وقدموا لأنفسكم ما تستطيعون من مال، وجاه، وعلم؛ تجدونه عند الله عز وجل “فمالُ أحدكم ما قدم”.
وعوِّدوا أنفسكم على السخاء والكرم، والإيثار والجود، ولا يغرنكم الشيطان بتخويفه إياكم الفقر؛ لمنعكم من النفقة في سبيل الله عز وجل ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ۖ وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة:268).
الوصية الثامنة عشرة:
الصحبة الصالحة
احرصوا على الصحبة الصالحة، وتجنبوا جلساء السوء؛ فإن المرء على دين خليله، وتذكروا قوله تعالى: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ (الزخرف:67) وقوله صلى الله عليه وسلم: «مثَل الجليس الصالح وجليس السوء، كبائع المسك ونافخ الكير…» الحديث. (3رواه البخاري ومسلم)
فتجنبوا أهل الشبهات والشهوات، واهجروا كتبهم ومواقعهم؛ فخطرهم على الدين والأخلاق عظيم، وتجنبوا مواقع اللهو، والمعازف، والخنا، والأفلام الفاسدة؛ فإنها ـ على حرمتها ـ لا تليق بأهل المروءة، والشهامة، وعزّة النفس.
الوصية التاسعة عشر:
النشاط وترك الكسل
احرصوا على النشاط وترك الكسل، وابذلوا الأسباب في إعفاف أنفسكم وأولادكم بالرزق الحلال؛ فإنه عزيز اليوم، واحذروا الكسب الحرام؛ من ربا، وبيوع محرمة، وغش، ورشوة، ولا تكونوا عالة على الناس وأعطياتهم «فإن اليد العليا خير من اليد السفلى». (4رواه البخاري ومسلم)
الوصية العشرون:
الصبر عند المصيبة والشكر عند النعمة
اعلموا أن هذه الحياة الدنيا دار ابتلاء، ولا تبقى على حال واحدة، والمسلم فيها يتقلب بين السراء والضراء، فكونوا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير؛ إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له…» الحديث. (5رواه مسلم)
فلا تجزعوا عند المصيبة ولا تبطروا عند النعمة، واحتسبوا في صبركم وشكركم الأجر عند الله عز وجل، واعلموا أن في كثير من المكاره والضراء خيرًا في عاقبتها، يريده الله عز وجل بعبده المؤمن ﴿فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (النساء:19).
الوصية الحادية والعشرون:
تجنبوا الكذب والفُجور والخيانة
تعلمون أن من صفات المنافق: «إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر»، فما أقبحها من صفات فاحذروها، واصدُقوا في أقوالكم وأعمالكم، ووفّوا وعودكم وعهودكم، وأدّوا الأمانات إلى أهلها، ولا تفجروا في الخصومة بقول أو فعل.
الوصية الثانية والعشرون:
احذروا المعصية ولا تحقروها
احذروا المعاصي، ولا تحقروا منها شيئًا؛ فإنها توشك إذا كثرت أن تكون سببًا في الطبع على القلب وانتكاسته، وبادروا بالتوبة النصوح من الذنوب إذا صدرت منكم.
الوصية الثالثة والعشرون:
اجتنبوا الإسراف والترف
اجتنبوا الإسراف والترف بجميع أشكاله؛ في المآكل، والمشارب، والمساكن، والمراكب وغيرها، واقتصدوا في ذلك كله، وخذوا منه ما يكفيكم، وما زاد عن ذلك فقدموه للمحتاج؛ ممن لا يملك الحد الأدنى من هذه الضروريات.
إن الترف والإسراف لم يذكر في القرآن إلا على وجه الذم والتحذير؛ بل إن الله عز وجل جعله من صفات أهل النار، في قوله سبحانه: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ*فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ*وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ*لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ* إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَٰلِكَ مُتْرَفِينَ﴾ (الواقعة:41-45).
الوصية الرابعة والعشرون:
أولادكم وأهلوكم أمانة
أولادكم وأهلوكم أمانة في أعناقكم؛ فربّوهم على التقوى، والخوف من الله عز وجل، والأخلاق الفاضلة، ونظفوا بيوتكم من وسائل الفساد، وأجهزته التي تبث الأفلام المحرمة، والموسيقى، والغناء والمجون؛ فإن الله سائلكم عمن استرعاكم، وأي إهمال للأسرة، وجلب أجهزة الفساد إليها؛ هو غش وخيانة لها، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية، ثم يموت يوم يموت، وهو غاش لرعيته؛ إلا حرم الله عليه الجنة». (6رواه البخاري ومسلم)
الوصية الخامسة والعشرون:
احذروا ديون الناس
احذروا من تحميل ظهوركم ديون الناس، ولا تستهينوا بذلك؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُصلّ على أحد الصحابة بسبب دين عليه، حتى تحمل أحد الصحابة ذلك عنه، فاجتنبوا ذلك ما استطعتم، ولا تلجؤوا إليه إلا في أضيق الظروف، وعند الضرورة القصوى، وليس لمجرد كماليات، أو حاجات يمكن الاستغناء عنها.
الوصية السادسة والعشرون:
الاقتداء بالسلف ومجانبة الكفار والفساق
عليكم بالاقتداء بالسلف الصالح في هديهم وسمتهم، واجتنبوا التشبه بالكفار، والفساق، والنساء، اعفوا لحاكم، ولا تُسْبلوا ثيابكم، وأظهروا العزة لدينكم وشريعة ربكم، ولا تستحوا في ذلك ولا تحرّجوا؛ فإن هذا من تزيين الشيطان وتلبيسه.
الوصية السابعة والعشرون:
الحفاظ على آداب هذا الدين وأخلاقه
لقد شرع الله عز وجل لنا في دينه آدابًا وأخلاقًا عظيمة، شاملة لجميع أحوالنا؛ فلنحافظ على هذه الآداب في كلامنا، وأسماعنا، وأبصارنا، ومآكلنا، ومشاربنا، وحِلّنا، وترحالنا، ومصاحبتنا لجلسائنا، ومعاشرتنا لأهلينا وأولادنا، وغيرها من الآداب.
الوصية الثامنة والعشرون:
ذكر الله كثيرا
أوصيكم بكثرة ذكر الله عز وجل في أحوال اليوم والليلة؛ فذكر الله عز وجل هو الحصن الحصين من شر شياطين الجن والإنس، وفيه الحسنات العظيمة، وترقيق القلب وخشوعه وذهاب قسوته، ومحبة الله عز وجل للذاكرين له والذاكرات.
وكتب الأذكار كثيرة اليوم ومطبوعة لمن لا يحفظها، والحمد لله، وأعظم الذكر قراءة القرآن، وتدبره، ومدارسته؛ فلا تهجروه يا أولادي؛ فهو بركة في الدنيا والأخرة، احفظوا منه ما استطعتم، وتدبروه واعملوا به، وعلموه للناس، وقوموا به آناء الليل وأطراف النهار.
الوصية التاسعة والعشرون:
اللجأ الى الله والتضرع لوقاية الفتن
أوصيكم في أيام الفتن والنوازل باللجوء إلى الله عز وجل، والتضرع بين يديه بأن يقيكم شرها، وأن يهديكم للحق والصواب، واحذروا الاستعجال، وعليكم بالتأنّي والتؤدة، وكثرة الاستخارة، ومشاورة من تثقون في علمه ودينه، ومن سبقكم بالتجارب والعمر، ولَأن تخطئوا في التأني والتؤدة؛ خير من أن تخطئوا في التسرع والعجلة.
الوصية الثلاثون:
عليكم بالاستخارة
إذا أردتم الدخول في أمر تجهلون عواقبه؛ فعليكم باستخارة علام الغيوب؛ الذي يعلم ولا نعلم، ويقْدر ولا نقْدر، واحرصوا على حفظ دعاء الاستخارة، وعلموه أولادكم.
الوصية الحادية والثلاثون:
الحذر من الجزع واليأس من رحمة الله
إذا أصابكم هم أو حزن أو غم؛ فلا تجزعوا ولا تيأسوا من رحمة الله تعالى؛ فإن فرج الله قريب، وعليكم باللجوء إلى الله عز وجل، ودعائه، وسؤاله بالأدعية الواردة في كشف الهَمّ والحزَن.
ومن أشهرها قوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني عبدك، ابن عبدك، ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك…» الحديث.(7رواه أحمد والطبراني والحاكم، وحسنه ابن حجر، وصححه الألباني) فلقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم الحث على حفظ هذا الدعاء، والدعاء به عند الهَمّ والحزن.
واحتسبوا هذه الهموم عند الله عز وجل؛ فإنها مكفرة للذنوب والسيئات؛ لأن في تذكر هذا الأمر تخفيفًا للمصيبة؛ قال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يصيبه هم ولا غم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفر الله بها من خطاياه». (8رواه البخاري)
الوصية الثانية والثلاثون:
تواضعوا لعباد الله
تواضعوا لعباد الله عز وجل، ولا تتكبروا عليهم، ولِينوا لهم، وقابلوهم بالبِشْر وطلاقة الوجه؛ فإن المؤمن يألف ويؤلَف.
الوصية الثالثة والثلاثون:
تعلموا العلم
تعلموا العلم، ولا سيما العلم الذي لا يعذر أحد بجهله؛ وهو العلم الذي لا يصح إسلام العبد ولا تصح العبادات إلا به: كالعلم بالشهادتين والتوحيد، وما يضاده من الشرك والرياء.
والعلم بأركان الإسلام الأخرى: الصلاة، وكيفيتها، وأركانها، وواجباتها، وسننها، والزكاة، وأنصبتها، وشروطها، والصيام، وأحكامه، والحج، وأحكامه.
وأما فقه المعاملات؛ من بيع وشراء، ونكاح وطلاق، وشركات… إلخ؛ فهي فرض كفاية، إلا على من يباشرها؛ فإنها تصبح فرض عليه تعلمها.
الوصية الرابعة والثلاثون:
إعمار العمر وعدم تضييعه
أعماركم أمانة في أعناقكم، والدقيقة من العمر لا تعدلها الدنيا ثمنًا، فاللهَ اللهَ في حفظ أوقاتكم؛ لا تبذلوها إلا فيما يعود منها بالنفع لكم في دنياكم وأخراكم.
اعمروها بطاعة الله عز وجل، والدعوة إليه، واجتنبوا اللهو واللعب، وضياع العمر فيما لا ينفعكم، فضلاً عما يضرّكم؛ فإن الحسرة تكون شديدة عند الموت ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ*لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ﴾ (المؤمون 99-100).
ولا يعني هذا ألا تروّحوا عن أنفسكم وأولادكم؛ فلا بأس بهذا في حدوده الشرعية، من غير إسراف وإفراط، مع بذل الجهد في استحضار النية في الترفيه، وذلك بنية الاستعانة على طاعة الله عز وجل.
الوصية الخامسة والثلاثون:
إياكم وسوء الظن
إياكم وسوء الظن بالمسلمين، ولا سيما طلاب العلم، والمصلحين منهم، واحملوهم على محمل الخير.
وإذا وصلكم عن أحد من المسلمين أنه ارتكب خطأ في فكره أو سلوكه؛ فعليكم أولاً بالتثبت من ذلك؛ فقد يكون كذبًا عليه.
وعند ثبوت ذلك عنه؛ فعليكم التثبت من الظروف التي ارتكب فيها هذا الخطأ؛ فلعل له عذرًا، وأنتم لا تعلمون.
وبعد معرفتها وأنه ليس له عذر من ذلك؛ فإن كان له بلاء حسن في الإسلام؛ فإن مِن بخْسه أن تنسى حسناته، لارتكابه خطأ أو خطأين، مع الحرص على مناصحته على انفراد، والحذر من: غيبته، والفرح بخطئه، واشاعته بين الناس.
الوصية السادسة والثلاثون:
الرفق في الأمر كله
عليكم بالرفق في أموركم كلها؛ فإن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه، وما لا تستطيعون أن تحصلوا عليه بالرفق؛ فلن تحصلوا عليه بالعنف.
وختامــا
يا أولادي .. فهذه وصيتي إليكم، أرجو أن تجد لديكم قلوبًا مفتوحة لها، ودعاء لمُسْديها إليكم؛ فوالله لن تجدوا يا أولادي من يحب لكم الخير، والنجاة من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة؛ مثل والديكم، فتذكروا هذا فإني لا أريد من هذه الوصايا جزاء ولا شكورًا، إلا مرضاة الله عز وجل، وطمعًا في أن تكون سببًا، إن أنتم أخذتم بها؛ في نجاتكم من عذاب النار، وأن يمن الله عز وجل علينا، ويجمع شملنا في جنات النعيم؛ ذلك الاجتماع الذي لا فراق بعده.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
…………………………………
هوامش:
- أخرجه البخاري (2697) بنحوه، ومسلم (1718) واللفظ له.
- رواه الترمذي [2308]، وابن ماجه [4267].
- رواه البخاري ومسلم.
- رواه البخاري ومسلم.
- رواه مسلم.
- رواه البخاري ومسلم.
- رواه أحمد والطبراني والحاكم، وحسنه ابن حجر، وصححه الألباني.
- رواه البخاري.
اقرأ أيضا: