طريق السعادة في الدارين اتباع القرآن والسنة الصحيحة بفهم الصحابة وأخذ الدين بقوة وجد.
السعادة كل السعادة لمن اهتدى بالقرآن والسنة الصحيحة
الحمدلله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أما بعد:
فيا سعد من جعل القرآن والسنة الصحيحة مصدر هدايته وشفاء قلبه ونور بصيرته وموازينه، وياسعادته بالحق إذا اشتبهت الأمور والتبس الحق بالباطل على الناس، ويا شقاء وضلال من أعرض عن نصوص الوحيين، واستعاض عنهما بعقول البشر ونحاتات أفكارهم وزبالات أذهانهم وفلسفاتهم؛ فلا تسأل عن حيرته وضلاله وتخبطه: قال الله عز وجل: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَاۤءَتۡكُم مَّوۡعِظةُ مِّن رَّبِّكُم وشِفَآءٌ لِّمَا فِی ٱلصُّدُورِ وهدىً وَرَحۡمَةٌ لِّلۡمُؤۡمِنِینَ (57)قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَ ٰلِكَ فَلۡیَفۡرَحُوا۟ هُوَ خيرمِّمَّا یَجۡمَعُونَ) [يونس:57 – 58]
وقال عن المعرضين اللاعبين بدينهم : (ٱلَّذِینَ هُمۡ فِی خَوۡضٍ یَلۡعَبُونَ) [الطور – 12 ]، (مَا یَأۡتِیهِم مِّن ذِكْرٍمِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ یَلۡعَبُونَ) [الأنبياء- 2]
قصة أصحاب السبت موعظة للمتقين
ومن هذه المواعظ والقصص القرآنية التي قصها الله عز وجل علينا لنأخذ منها العبر ونتدبرها: قصة اعتداء اليهود في يوم السبت الذي حرم الله عليهم فيه جميع الأعمال، وقد ذكرها سبحانه في أكثر من موطن في كتابه العزيز: فصلها في سورة الأعراف، وأجملها في سورة البقرة بقوله تعالى: (وَلَقَدۡ عَلِمۡتُمُ ٱلَّذِینَ ٱعۡتَدَوۡا۟ مِنكُمۡ فِی ٱلسَّبۡتِ فَقُلۡنَا لَهُمۡ كُونُوا۟ قِرَدَةً خَـٰسِـِٔینَ * فَجَعَلۡنَـٰهَا نَكَـٰلًا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهَا وَمَا خَلۡفَهَا وَمَوۡعِظَةً لِّلۡمُتَّقِینَ) [البقرة 65-66] حيث تحايلوا على حدود الله تعالى فألقو شباكهم يوم الجمعة وأخذوها يوم الأحد وقالوا: إنا لم نصطد في السبت شيئا، ولم نعتد في هذا اليوم بل عظمناه، لقد ختم الله عز وجل هذه الآيات بقوله (وَمَوۡعِظَةً لِّلۡمُتَّقِینَ) فما هي الموعظة التي نخرج بها من هذا الحدث؟
الإيمان الحق أخذ الدين بالجد وتعظيم حدوده وأهله
إن في هذه القصة من المواعظ والدروس الشيء الكثير ومن أهمها:
أولا: اليقين بأن دين الله الحق قول فصل وما هو بالهزل، بل هو جد كله، وعقائده وأحكامه كلها جد وخير؛ مبرأة من النقص والهزل واللعب، ولذا فلا يصدق على العبد أنه مؤمن حقا حتى يكون جاداً معظماً محباً للدين وحدوده وأهله، وأن يأخذ هذا كله بالجد والقوة والعزم والفرح؛ قال تعالى: (یَـٰیَحۡیَىٰ خُذِ ٱلۡكِتَـٰبَ بِقُوَّة)(مريم-12)، وقال سبحانه: (خُذُوا۟ مَاۤ ءَاتَیۡنَـٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱذۡكُرُوا۟ مَا فِیهِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ) [البقرة – 63]، وقال لنبيه موسى صلى الله عليه وسلم : (فَخُذۡهَا بِقُوَّةٍ وَأۡمُرۡ قَوۡمَكَ یَأۡخُذُوا۟ بِأَحۡسَنِهَاۚ سَأُو۟رِیكُمۡ دَارَ ٱلۡفَـٰسِقِینَ) [الأعراف- 145] هذا هو دين الله، وهذا ما ينبغي للعباد أن يتعاملوا به مع الدین؛ فلا مكان للاعبين اللاهين الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا؛ لا مكان لهم في هذا الدين، ولا مكان للدين في قلوبهم.
ثانيا: أن من لم يعظم نصوص الوحيين ولم يعظم حدود الله عز وجل ويأخذها بقوة فإنه لا يخفى على الله ما في قلبه من المرض فهو مكشوف أمام ربه مهما حاول أن يظهر أنه معظم للدين عامل بالنصوص حسب فهمه ولعبه وتحايله..
التحايل على أحكام الله توجب مكر الله
ثالثا: أن من ذهب يتحايل على أحكام الله بتأويلات فاسدة، أو بجرأة منه على فهم النصوص وليَّها وتحريفها بعقله الفاسد فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يحيق المكر السيئ الا بأهله؛ قال ابن عباس رضي الله عنه: (مَن يخادِعِ اللَّهَ يخدعْهُ)
وقال بعض السلف: (ثلاث من كن فيه كن عليه: المكر، والبغي، والنكث)، وقال تعالى : (یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَـٰدِعُهُمۡ) [النساء – 142]، وقال سبحانه: (یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ) [البقرة – 9]، وقد تكفل الله تعالى بفضحه وفضح مذهبه وأخذه أخذ عزيز مقتدر. يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (والله تعالى ذم أهل الخداع والمكر ومن يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وأخبر أن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم، وأخبر عنهم بمخالفة ظواهرهم لبواطنهم، وسرائرهم لعلانيتهم، وأقوالهم لأفعالهم وهذا شأن أرباب الحيل المحرمة، وهذه الأوصاف منطبقة عليهم؛ فإن المخادعة هي الاحتيال والمراوغة بإظهار أمر جائز ليتوصل به إلى أمر محرم يبطنه، وقال أيوب السختياني في أهل الحيل: (يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان، فلو أتوا الأمر عيانا كان أهون علي) 1[إعلام الموقعين ۳/ ۱۹۰ وما بعدها] وأعظم من تلاعب بالدين ممن نسب نفسه إلى الإسلام هم الباطنيون القرامطة الذين من نسلهم الرافضة الشيعة والإسماعيلية وغيرهم من الفرق الباطنية؛ حيث تلاعبوا بالدين عقيدة وأحكاما، وأوّلوا نصوصه حسب عقولهم ومذاهبهم الفاسدة فأركسهم الله عز وجل وفضحهم بها ويليهم في التأويلات الفاسدة والتلاعب بالدين فرق المبتدعة من خوارج ومعتزلة ومرجئة وصوفية وغيرهم.
عقوبة أصحاب السبت من جنس جُرمهم
رابعا: أن جرم وإثم المحتال على شرع الله تعالى في تحليل الحرام أو تحريم الحلال أشد وأغلظ ممن يرتكب الحرام وهو معتقدا لحرمته معترفا بذنبه وقد يتوب في يوم من الأيام منه. ولعل هذا يفسر لنا تلك العقوبة الشديدة التي أنزلها الله بالمعتدين في السبت؛ حيث مسخهم قردة خاسئين لتحايلهم وخداعهم، ولم يُعامل بمثل هذه العقوبة من أكل الربا وأموال الناس بالباطل، واليهود معروفون بأكلهم الربا، لكن لأنهم يعتقدون حرمته ويقرون بأنهم قد ارتكبوا ذنبا بذلك فلم يعاقبهم الله عليه مثل عقوبة المعتدين في السبت، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (قال شيخنا: فهؤلاء لم يكفروا بالتوراة وبموسى، وإنما فعلوا ذلك تأويلا واحتيالاظاهره ظاهر الاتقاء وحقيقته حقيقة الاعتداء، ولهذا – والله أعلم- مسخوا قردة لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان، وفي بعض ما ذكر من أوصافه شبه منه، وهو مخالف له في الحد والحقيقة، فلما مسخ أولئك المعتدون دين الله مسخهم الله قردة تشبه الإنسان في بعض ظاهره دون الحقيقة جزاء وفاقا. ويقوي ذلك أن بني إسرائيل أكلوا الربا وأموال الناس بالباطل، وهو أعظم من أكل الصيد في يوم بعينه، ولم يعاقب أولئك بالمسخ کما عوقب به من استحل الحرام بالحيلة؛ لأن هؤلاء لما كانوا أعظم جرما كانت عقوبتهم أعظم؛ فإنهم بمنزلة المنافقين يفعلون ما يفعلون ولا يعترفون بالذنب، بل قد فسدت عقيدتهم وأعمالهم، بخلاف من أكل الربا وأموال الناس بالباطل والصيد المحرم عالما بتحريمه، فإنه يعترف بمعصيته اعترافه بالتحريم وخشيته الله واستغفاره وتوبته يوما ما، خلاف الماكر المخادع المحتال على قلب دين الله، ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من ارتكاب الحيل فقال: «لا تَرتكِبوا ما ارتكبَ اليهودُ فتَستحِلوا محارمَ اللهِ بأدْنى الحيلِ »2(ابن تيمية (ت ٧٢٨)، القواعد النورانية ١٧٤ )، وقد أخبر الله تعالى أنه جعل هذه القرية أو هذه الفعلة التي فعلها بأهلها نکالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين، فحقيق بمن اتقي الله وخاف نکاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكرا وخديعة من الأقوال والأفعال، وأن يعلم أن لله يوماً تكع فيه الرجال، وتنسف فيه الجبال، وتترادف فيه الأهوال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، وتبلى فيه السرائر وتظهر فيه الضمائر، ويصير الباطن فيه ظاهرا والسر علانية والمستور مكشوفا والمجهول معروفا، ويحصل ويبدو ما في الصدور كما يبعثر ويخرج ما في القبور، وتجري أحكام الرب تعالى هناك على القصود والنيات، هنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبون (وَمَا یَمۡكُرُونَ إِلَّا بِأَنفُسِهِمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ) 3[أعلام الموقعين ۳/ ۱۹۲- 164]
اللعب والهزل والمزاح في حقوق الله تعالى غير جائز
خامسا: وفي ضوء ما سبق بيانه نصل في هذه الفقرة إلى بيان وفضح بعض الصور المعاصرة التي ظهرت على لسان وأقلام وأفعال نابتة من بني جلدتنا خرجت عن الصراط المستقيم وأصبحت تعبث بالدين وتتلاعب بأصوله وأحكامه، فهم في خوضهم يلعبون وفي ريبهم يترددون. وقبل ذكر هذه الصور أنقل كلاما نفيسا للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى وكأنه يرى ما نراه اليوم من التلاعب بالدين؛ يقول رحمه الله تعالى: (إذ ليس للعبد أن يهزل مع ربه، ولا يستهزئ بآياته، ولا يتلاعب بحدوده)، وفي حديث أبي موسى في سنن ابن ماجة، (ما بال أقوام يلعبون بحدود الله ويستهزئون بآياته) وذلك في الهازلين يعني والله أعلم يقولونها لعباً غير ملتزمين لأحكامها، وحكمها لازم لهم، وحاصل الأمر أن اللعب والهزل والمزاح في حقوق الله تعالى غير جائز لكون جد القول وهزله سواء) 4[أعلام الموقعين ۳/ ۱۲۰] وقد بين الله سبحانه لنا شأن المتلاعبين بالدين والموقف منهم في أكثر من آية في كتابه، فقال سبحانه: (وَذَرِ ٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ دِینَهُمۡ لعِباً وَلَهۡواً وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۚ..)[الأنعام- 70] – وقال تعالى عن أهل النار وموجب عذابهم : (ٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ دِینَهُمۡ لَهۡواً وَلَعِباً وَغَرَّتۡهُمُ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۚ فَٱلۡیَوۡمَ نَنسَىٰهُمۡ كَمَا نَسُوا۟ لِقَاۤءَ یَوۡمِهِمۡ هَـٰذَا وَمَا كَانُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَا یَجۡحَدُونَ) [الأعراف- 51] – وقال سبحانه عنهم : (مَا یَأۡتِیهِم مِّن ذِكْرمِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ یَلۡعَبُونَ) [الأنبياء- 2].
– وقال أيضا عنهم : (بَلۡ هُمۡ فِی شَكࣲّ یَلۡعَبُونَ) [الدخان- 9].
الصور المعاصرة من صور التلاعب بالدين وأحكامه
وبعد هذه المقدمة السريعة عن ما يفعله المبطلون الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهوآ نتعرف الآن على بعض الصور المعاصرة من صور التلاعب بالدين وأحكامه من قبل من غرتهم الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
الصورة الأولى:
ما يقوم به أهل الأهواء والنفاق اليوم من علمانيين ولبراليين ومن تأثر بهم؛ حيث يجعلون نصوص الوحيين حمی مستباحا لكل رويبضة؛ يأخذ من الدين ما وافق هواه ويترك ما خالف هواه ويؤّول النصوص التي تخالف هواه لتوافق فهمه الفاسد، وقد فضح الله عز وجل في كتابه الكريم أمثال هؤلاء من إخوانهم المنافقين في قوله تعالى: (وَیَقُولُونَ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعۡنَا ثُمَّ یَتَوَلَّىٰ فَرِیقٌ مِّنۡهُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَۚ وَمَاۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ * وَإِذَا دُعُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِیَحۡكُمَ بَیۡنَهُمۡ إِذَا فَرِیقٌ مِّنۡهُم مُّعۡرِضُونَ * وَإِن یَكُن لَّهُمُ ٱلۡحَقُّ یَأۡتُوۤا۟ إِلَیۡهِ مُذۡعِنِینَ * أَفِی قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ٱرۡتَابُوۤا۟ أَمۡ یَخَافُونَ أَن یَحِیفَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمۡ وَرَسُولُهُۥۚ بَلۡ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ) [النور: 47 – 50].
الصورة الثانية:
وهي أخطر من سابقتها ألا وهي ادعاء من تلاعب بالدين أن فهم نصوص الوحيين ليست حكرا على العلماء وشبهوهم بكهنوت النصارى، ويقولون: إن لكل أحد الحق في الرجوع إلى النص الشرعي وإعادة فهمه في ضوء المتغيرات المعاصرة دون الرجوع إلى العلماء ومدوناتهم ويرددون أن النص المقطوع بصحته هو القرآن والمتواتر من السنة، وما سوى ذلك فهو آحاد لا يلزم الأخذ به ولو أجمع أهل العلم على تصحيحه كالبخاري ومسلم، ثم يذهبون إلى أبعد من ذلك في لعبهم بالدين وتبديله، فيقولون بأن نصوص القرآن والمتواتر من الأحاديث يعتريها الاختلاف في فهمها فقد يفهمها شخص ما بفهم معين والآخر يفهمها بفهم آخر ولا يستطيع طرف أن يلزم الآخر بفهمه. فما أعظمها من فتنة وطامة عظيمة هذا والله هو التلاعب الذي يؤدي إلى تبديل الدين وطمس الهوية وجعل الناس في حيص بيص لا انقياد ولا تسليم ولا تعظيم لأوامر الله ونواهيه في الوقت الذي تعظم فيه أقوال البشر ونظمهم وقوانينهم الجائرة الجاهلة المدمرة للدين والأخلاق والعقول والفطر، وليس المقام هنا مقام رد هذه الشبهة والحجة الداحضة، ولكن أود الاشارة هنا فقط إلى بعض المسلمات التي قد تفيد في بيان عوار وتهافت هذا التلاعب.
صفة أصحاب النبي ووجوب الاستنان بهم
فأقول وبالله التوفيق: لقد كان الصحابة رضي الله عنهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ينهلون من الكتاب والسنة في عقائدهم وأحكامهم مباشرة، معظمين لهما متبعين لنبيهم عليه الصلاة والسلام فهماً وسلوكاً، ثم جاء الخليفة الراشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه فسار على منهاج الكتاب والسنة غير مبدل ولا مغير، ثم خلفه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسار على ما سار عليه سلفه بالتزام نصوص الكتاب والسنة وتعظيمها، ثم جاء عهد الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه فكان المرجع في عهده الكتاب والسنة إلى يوم مقتله رضي الله عنه، ولم تتخلل تلك العهود بدع ولا فرق وإنما الاتباع النقي للكتاب والسنة. ثم حصلت الفتنة العظيمة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وبعدها أطلت البدع بقرونها ونشأت الفرق المبتدعة وشرعت في دين الله ما لم يأذن به الله، ولم يعد الكتاب والسنة بفهم الصحابة هو المنهج، بل صارت كل فرقة تدعي أن فهمها للكتاب والسنة هو الفهم الصحيح بعد أن زهدوا في فهم الصحابة رضي الله عنهم لنصوص الكتاب والسنة الذين وصفهم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه بصفات لن ولم تكن لمن بعدهم فقال: ( من كان مستنا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا؛ قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا حقهم وتمسكوا بهديهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) 5[أعلام الموقعين ۲۱۳/۲ ] وفصل ابن القيم رحمه الله تعالى قول ابن مسعود رضي الله عنه في وصفه للصحابة رضي الله عنهم فقال: (لا ريب أنهم كانوا أبر قلوبا وأعمق علما وأقل تكلفا وأقرب إلى أن يوفقوا فيها لما لم نوفق له نحن؛ لما خصهم الله تعالى به من توقد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلة المعارض أو عدمه، وحسن القصد و تقوى الرب تعالى، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم، ولا حاجة لهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح والتعديل، ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين، بل قد غنوا عن ذلك كله، فليس في حقهم إلا أمران: أحدهما: قال الله تعالى كذا وقال رسوله صلى الله عليه وسلم كذا، والثاني: معناه كذا وكذا. وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين وأحظى الأمة بهما، فقواهم متوفرة مجتمعة عليهما، وأما المتأخرون فقواهم متفرقة وهممهم متشعبة. والمقصود أن الصحابة رضي الله عنهم أغناهم الله تعالى عن ذلك كله فاجتمعت قواهم على تينك المقدمتين فقط، هذا إلى ما خصوا به من قوى الأذهان وصفائها وصحتها، وقوة إدراكها وكمالها، وكثرة المعاون وقلة الصارف وقرب العهد بنور النبوة والتلقي من تلك المشكاة النبوية فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميزوا به علينا وما شاركناهم فيه فكيف نكون نحن أو شيوخنا أو شيوخهم أو من قلدناه أسعد بالصواب منهم في مسألة من المسائل، ومن حدث نفسه بهذا فليعزلها من الدين والعلم والله المستعان) 6[اعلام الموقعين 4/148-150{
مؤهلات الصحابة لفهم القرآن والسنة
والمقصود أن فهم الصحابة رضي الله عنهم لنصوص الوحيين هو الفهم الصحيح الذي يقدم على فهم غيرهم؛ للصفات التي خصهم الله عز وجل بها، ولذا فبعد أن ظهرت البدع بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وجاءت كل فرقة منهم تدعي أنها على الحق في فهمها وتفسيرها لنصوص الوحيين حينها قالت كل فرقة للأخرى: ما الذي جعل فهمك المباشر للكتاب والسنة أولى من فهمنا؟ وما الذي يجعل عقولكم أذکی من عقولنا؟ وحينها يأتي الجواب من المتبعين للكتاب والسنة وسلف الأمة ليقولو: إنه لا فهمنا ولا فهمكم ولا فهم آخرين يأتوا من بعد هو الأسعد بالفهم الصحيح، وإنما تفهم الكتاب والسنة بفهم الصحابة رضوان الله عليهم؛ لما انفردوا به عنا من الصفات السابق ذكرها، ولذا تقرر عند المتبعين للحق تقييد الرجوع إلى الكتاب والسنة بعد مقتل عثمان رضي الله عنه و خروج البدع بفهم الصحابة؛ لتنضبط الأمور ولا تنفلت حسب أهواء الناس وعقولهم الفاسدة. فنقول: مصدر الاستدلال الصحيح: الكتاب والسنة بفهم الصحابة.
فساد مقولة هم رجال ونحن رجال وجنايتها على الدين
وفي زماننا اليوم نسمع ونرى من يتجرأ على نصوص الوحيين ويقول: الصحابة رجال ونحن رجال، وفهم الكتاب والسنة ليس حكرا على علماء الدين – زعموا- وانما يمكن لكل شخص فهم نصوص الكتاب والسنة مباشرة بعقله ويعيد تفسير نصوصها بما يناسب العصر ومستجداته. وهنا الطامة الكبرى والباقعة العظمى التي يؤول إليها كلامهم هذا بجعل حمي الدين مستباحا لكل جاهل وصاحب هوى، يبدل، فيه ما يبدل ويقلب الحقائق ويأتي بدين جديد.
وإذا كان ابن القيم رحمه الله تعالى في كلامه السابق يقول بعد أن وصف أحوال الصحابة وعقولهم وما تميزوا به عنا فكيف نكون نحن أو شيوخنا أو شيوخ شيوخنا أو من قلناه أسعد بالصواب منهم)، إذا كان هذا كلام إمام عظیم من أئمة الدين فكيف بجهلة لا يفقهون من الدين شيئا ثم هم في خوضهم يلعبون
الصورة الثالثة من صور التحايل على الدين واللعب بأحكامه:
أولئك الذين جعلوا الدين مطية للدنيا يتزلفون به إلى الظلمة، ويبررون بتأويلاتهم الفاسدة ظلمهم وافسادهم، ويبيعون دينهم بعرض زائل من الدنيا فبئس ما يشترون. وأكتفي من هذه الصورة بقوله تعالى في وصف هذا الصنف من المنتسبين إلى العلم بقوله سبحانه: (فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفٌ وَرِثُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ یَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَیَقُولُونَ سَیُغۡفَرُ لَنَا وَإِن یَأۡتِهِمۡ عَرَضٌ مِّثۡلُهُۥ یَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ یُؤۡخَذۡ عَلَیۡهِم مِّیثَـٰقُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن لَّا یَقُولُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُوا۟ مَا فِیهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡرٌ لِّلَّذِینَ یَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ) [الأعراف- 169] فذكر سبحانه أن من أسباب ذلك أخذهم عرض الأدنى من الدنيا ورکونهم إليها ونسيانهم للآخرة وما بها من الثواب والعقاب، فقال: (وَٱلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡرٌ لِّلَّذِینَ یَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ) ومما يحسن ذكره في هذا المقام: حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي شرحه الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى في رسالة مستقلة؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: « ما ذئبان جائعا ن أرسلا في غنم، بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه» 7[رواه الترمذي وقال حسن صحيح).
التلاعب بقواعد الشريعة هدم للدين
الصورة الرابعة:
أولئك الذين يتلاعبون بقواعد الشريعة وفهمها ويوظفون ذلك في تمرير برامج الفساد والتحلل من أحكام الشريعة؛
حيث إنهم يستدلون بقواعد فقهية هي في الأصل صحيحة ولكنهم ينزلونها حسب أهوائهم دون معرفة أو مراعاة لضوابطها وشروطها، فتراهم يستخدمون قاعدة: (الضرورة تبيح المحرم) دون معرفة للأمر ومتى يكون ضرورة ودون تطبيق الضوابط وشروط العمل بالضرورة. ومثل ذلك تلاعبهم بقاعدة: (المشقة تجلب التيسير)، ويجعلون فهمهم هو الفهم الصحيح للمشقة والتيسير، والشريعة لم تنزل حسب أهواء الناس وتفسيراتهم، وإنما هي من لدن حکیم علیم، هو الذي يحدد لنا متى يكون الأمر مشقة ويعطينا الميزان الصحيح لمفهوم التيسير، لأن التيسير هو ما يراه الله عز وجل تيسيراً لا ما يراه البشر الجاهل القاصر الظالم. ومثل ذلك في (المصلحة الشرعية) وقاعدة: (ما تعم به البلوى)، وتغير الفتوى بتغير المكان والزمان والأحوال والمقاصد)، كل هذه القواعد صحيحة في أصلها لكن الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا يخوضون ويتلاعبون بالدين ويأخذونها ليتحايلوا بها في إبطال أحكام الله وتقرير ما يرون من الفساد و تبديل الدين، ودليلنا على وصفهم بذلك أنهم لا يفهمون هذه القواعد کا فهمها سلف الأمة، وإن فهموها أنزلوها في غير مناطها دون مراعاة لشروطها وضوابطها التي ضبطها الشرع بها.
نسأل الله عز وجل أن يهدينا للحق علما وانقيادا، وأن يبصرنا بالباطل علما واجتنابا، وأن يجعلنا من المعظمين لربنا سبحانه، المعظمين لحرماته، المعظمين لكلامه و کلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يبطل كيد الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا، فبئس ما يشترون. والحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
- إعلام الموقعين ۳/ ۱۹۰ وما بعدها.
- ابن تيمية (ت ٧٢٨)، القواعد النورانية ١٧٤.
- أعلام الموقعين ۳/ ۱۹۲- 164.
- أعلام الموقعين ۳/ ۱۲۰.
- أعلام الموقعين ۲۱۳/۲.
- اعلام الموقعين 4/148-150.
- رواه الترمذي وقال حسن صحيح.