اختار الله لصحبة نبيه قلوبا بارة عميقة العلم وصحيحة الإرداة وجادة المأخذ، ورضي الله ورسوله فهمهم وعملهم، وجعل ما هم عليه قيدا لمن بعدهم لقطع الطريق على المبتدع والعلماني.

شبهة ومناقشتها

من المعلوم المستفيض أن مما يميِّز أهل السنة والجماعة عن غيرهم من أهل الأهواء والبدع قولهم في مرجعيتهم، ومنهج الاستدلال لديهم بأنه قائم على: كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وأن فهم الصحابة مقدَّم على فهم غيرهم فكل فهم يخالف ما فهموه فهو مردود على صاحبه.

وقد شرق بعض من تأثر بأهل الأهواء والبدع بهذا القيد وقالوا: إن الأصل في صحة المنهج الرجوع إلى الكتاب والسنة، ولا داعي لتقييده بفهم الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن هذا القيد محدث، ولم يكن معروفًا للصحابة ولا لغيرهم.

أثر الشبهة

يُخشى من هذه الشبهة أن تخرج من يقول بها الى الإبتداع، بل هذا هو الواقع.

والفرق الكلامية التي ابتدعت في دين الله تعالى كانت تصرح أن ما تقول به لم يقل به أصحاب رسول الله. ثم اعتذروا عن عدم قول الصحابة به على فرق واعتذارات واهنة وباردة؛ بل مكذوبة.

واليوم تعبتر هذه الشبهة تكئة لما هو أبعد؛ بحيث يحتج العلماني وغيره على ما يقول به من التغريب والتخلي عن أحكام الله تعالى في شتى المجالات بأن من حقه أن يفهم فهما مغايرا لما كان عليه الأولون؛ حتى يقلب الإسلام ويبدل أحكامه ولا يجد الناس بين أيديهم دين الله تعالى الذي تركه رسول الله وصحبه الكرام وبلّغوه للدنيا، وجاهدوا في سبيله وتوارثته الأمة قرونا وأجيالا.

وقد رأينا من ممارسات وكتابات هؤلاء الصادين عن سبيل الله سخافات وضلالات أضلوا بها من شاء الله. ولقطع الطريق على هذه الانحرافات والمخاطر نوضح أهمية ومأخذ هذه القاعدة النفيسة.

الجواب عن الشبهة

والجواب على هذه الشبهة أقول وبالله التوفيق:

إن الناظر للخط التاريخي لظهور البدع، وبداية نشأتها يلاحظ مرحلتين هامَّتين لا بد من تأملهما حتى يزول الإشكال المطروح، وتدحض الشبهة القائمة، وهاتان المرحلتان هما:

مرحلة المجتمع الواحد في الفكر والعقيدة

المرحلة الأولى: منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وحتى منتصف خلافة علي رضي الله عنه وبالتحديد سنة (37هـ)، وهذه الحِقبة الذهبية التي كانت كلمة المسلمين فيها مجتمعة على فهم الكتاب والسنة الفهمَ الصحيح التي تلقاها الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقاها عنهم من بعدهم.

وكان الصحابة رضي الله عنهم يسمعون القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ويفهمون معانيهما، ويؤمنون بهما، ويعملون بما فيهما. ونحن نعتقد أنهم كانوا يفهمون ما يخاطَبون به من العلميات والعمليات بما أعطاهم الله من صفاء الذهن والفصاحة والبيان، وما أشكل عليهم كانوا يسألون عنه ويتلقونه بالقبول والتسليم من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكانوا في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم على عقيدة واحدة ناصعة نقية؛ لأنهم كانوا ينهلون من معين الوحيين الصافيين.

ثم جاءت خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكان الأمر فيها كما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ المسلمون على عقيدة واحدة مرجعهم الكتاب والسنة.

ثم جاء عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكان الأمر على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق رضي الله عنه، إلا ما وقع من “صَبِيغِ بن عِسْلٍ” الذي كان يسأل عن متشابه القرآن فضربه عمر حتى تاب (1انظر تفاصيل القصة في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» (4/ 702))، ولم تعُد مثل هذه الحوادث في الظهور.

ثم جاء عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ولم يظهر شيء يذكر مما يخالف ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم في المعتقد، ثم كانت خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان المسلمون في صدرها على عقيدة واحدة، ولم يُعرف عنهم في هذه المدة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أن تنازعوا في مسائل العقيدة، إنما اختلفوا في بعض مسائل الأحكام مما يقبل الخلاف ويسعه الاجتهاد.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

“..وقد تنازع الصحابة رضي الله عنه في كثير من مسائل الأحكام وهم سادات المؤمنين، وأكمل الأمة إيمانًا؛ ولكنهم بحمد الله لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال..”. (2«إعلام الموقعين» (1/ 49))

هذا هو الواقع الذي عاشه الصحابة رضي الله عنهم في هذه المدة، فكان مجتمَعهم بصورته تلك سليمًا من كل انحراف يعكّر صفاءه أو يشوّه نقاءه، وكان منهجهم قائمًا على الكتاب والسنة ولم يكونوا بحاجة إلى تقييده بفهم الصحابة؛ لأنه مجتمع واحد متوحد في الفكر والعقيدة.

مرحلة بداية الاختلاف

المحلة الثانية وهي التي بدأت بعد فتنة التحكيم في منتصف خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبالتحديد سنة (37هـ)؛ حيث برزت أول البدع ظهورًا وهي بدعة الخوارج ثم ظهرت في مقابلها بدعة الشيعة والمرجئة ثم ظهرت القدرية.

وقد أنكر هذه البدع كل مَن أدركها من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوا الناس إلى تمسكهم بالكتاب والسنة حسب ما فهموه من النبي صلى الله عليه وسلم ومنذ ظهور البدع في تلك الحقبة إلى يومنا هذا، كان لزامًا لكل متبع لكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقيد فهمه لهما بفهم الصحابة، وسيبقى هذا القيد ما بقي لأهل الأهواء والبدع وجود، وهذا ما سار عليه السلف الصالح والتابعون لهم بإحسان في كتبهم ومجالسهم، ومناظراتهم.

وهنا يأتي الجواب على شبهة القائل: ما ضرورة هذا القيد، ولماذا لا يُكتفَى بالكتاب والسنة، فمن رجع إليهما في معتقده، فهو المتبِع ومن خالفهما فهو المبتدع..؟!

والجواب أن يقال: إن تقييد الرجوع إلى الكتاب والسنة بفهم الصحابة جاء لنفي البدع، وقطع الطريق على أفكارهم البدعية؛ وإلزام الأجيال التالية بفهم الأولين، وهو الفهم المستقيم الذي تركهم رسول الله عليه وقال «ما أنا عليه واصحابي».

أما قبْل ذلك فالناس كانوا على عقيدة واحدة، ومنهج واحد. ولكن بعد نشأة البدع، فكان لا بد من هذا القيد وذلك ليميز السائرون على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، عن غيرهم من المبتدعة المخالفين؛ لأن كل طائفة تدّعي أنها ترجع إلى الكتاب والسنة.

وكلٌ يدَّعي وصلًا بليلى وليلى لا تقرلهم بذاك، وإذا لم يوجد هذا القيد، ووُكل فهم الكتاب والسنة إلى عقول كل طائفة: اختلطت الأمور والْتبس على الناس أمر دينهم، وصارت كل طائفة تدّعي أن فهمها للنصوص هو الفهم الصحيح، وعندما يأتي المعارض بفهم آخر من عقله؛ فإن المخالف له لا يُسلّم له بفهمه واجتهاده؛ إذ ما الذي يجعل عقل غيره وفهمه أولى من عقله هو وفهمه، وعند ذلك تتمسك كل طائفة بفهمها للنصوص، ومن هنا نشأت الفرق البدعية.

أما أهل السنة والجماعة المستمسكون بما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقالوا للمخالفين: إنه لا يسوغ لنا ولا لكم أن نتعامل مع النصوص بفهمنا الخاص وعقولنا القاصرة، وإنما الفيصل بيننا وبينكم فَهْم الصحابة رضي الله عنهم للكتاب والسنة؛ فهو الفهم الذي يجب أن نرجع إليه، وأن يكون هو الحَكم على الجميع، وذلك لما حَبَا الله عز وجل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من قلوب ممتلئة نورًا وإيمانًا وحكمة وعلمًا ومعرفة وفهمًا عن الله عز وجل وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ونصيحة للأمة، وقلوبهم على قلب نبيهم، ولا واسطة بينهم وبينه، شاهَدوا التنزيل، ونقَلوا العلم والإيمان من مشكاة النبوة غضًّا طريًّا، فوق ما انفردوا به من توقُّد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم وحسن الإدراة وقلة المعارض أو عدمه». (3انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 187) وكذلك (1/ 187) (بتصرف))

هذه صفاتهم التي لا توجد مجتمعة فيمن بعدهم.

خاتمة

يجب أن يدرك المسلم أن الله تعالى كما اختار نبيه للرسالة اختيارا؛ فإنه تعالى اختار أصحابه لصحبته اختيارا؛ فخير القلوب قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وخير قلوب الناس بعده قلوب أصحابه؛ فعن حكمةٍ كان اختيارهم، وعن قصدٍ ربانيّ كان اصطفاؤهم. وقد وعوا الرسالة وقاموا بها عملا وبلاغا وجهادا. وقد رضي ربنا تعالى عنهم وارتضى سبيلهم؛ واشترط لمن جاء بعدهم أن يكون على منهاجهم ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 100)

ولهذا ففهمهم وطريقة عملهم ومنهجهم قيد لنا في العلم والعمل؛ عسى ربنا تعالى أن يبلّغنا ما بلّغهم من النجاة والخير.

…………………………………

هوامش:

  1. انظر تفاصيل القصة في «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» (4/ 702).
  2. «إعلام الموقعين» (1/ 49).
  3. انظر: «إعلام الموقعين» (4/ 187) وكذلك (1/ 187) (بتصرف).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة