إن ما نراه اليوم من ظلم وفساد كبير؛ يحتم على أنصار الله عز وجل مواجهة ذلك، وتحصين الأمة من شره، وأن يستعيذوا بالله من العجز والكسل؛ فيبذلوا ما يستطيعون من الوسائل والأسباب الممكنة؛ والتي في مقدورهم فعلها، وما عجزوا عنه ولا قدرة لهم في دفعه فإن الله يتولاه بقوته وقهره وآياته…

العجز والكسل وعلاقتهما بجهاد البيان ومدافعة الفساد

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أما بعد:

فقد جاء هذا الدعاء جزءاً من حديث صحيح؛ رواه الإمام البخاري وهو من الأدعية النبوية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال) والذي يهمنا في هذا المقال الاستعاذة بالله من العجز والكسل؛ وعلاقة ذلك بجهاد البيان؛ ومدافعة الفساد.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: (العجز والكسل) وهما قرينان، فإنَّ تخلُّفَ كمال العبد وصلاحه عنه: إمَّا أن يكون لعدم قدرته عليه فهو عجزٌ، أو يكون قادرًا عليه لكن لا يريده فهو كسلٌ، وينشأ عن هاتين الصِّفتين فواتُ كلِّ خيرٍ، وحصولُ كلِّ شرٍّ، ….

كما أن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم لمَّا فعل الأسباب المأمور بها، ولم يَعجِزْ بتركها ولا تَرْكِ شيءٍ منها، ثمَّ غلبه عدوُّه وألقوه في النَّار، قال في تلك الحال: «حسبي الله ونعم الوكيل»، فوقعت الكلمة موقعها، واستقرَّت في مظانها، فأثَّرت أثرَها، وترتَّب عليها مقتضاها.

وكذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه يومَ أحدٍ، لمَّا قيل لهم بعد انصرافهم من أحدٍ: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)، فتجهَّزوا وخرجوا للقاء العدوّ، وأعطَوهم الكَيْسَ من نفوسهم، ثمَّ قالوا: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران: 173]، فأثَّرت الكلمة أثرَها، واقتضت مُوجَبَها، ولهذا قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق: 2 – 3]، فجعل التَّوكُّل بعد التَّقوى التي هي قيامٌ بالأسباب المأمور بها، فحينئذٍ إن توكَّل على اللَّه فهو حسبه… فالتَّوكُّل والحَسْب بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجزٌ محضٌ، وإن كان مَشُوبًا بنوعٍ من توكُّلٍ فهو توكُّل عجزٍ، فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكُّله عجزًا، ولا يجعل عجزه توكُّلًا، بل يجعل توكُّلَه من جملة الأسباب المأمور بها التي لا يتمُّ المقصود إلا بها كلِّها1(1) [زاد المعاد:2 /325]..

وقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ)، «قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» حِينَ قَالُوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا، وَقَالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ) [آل عمران: 173])2(2) المصدر السابق..

ضرورة الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى

ونستطيع أن نخرج من كلام ابن القيم الآنف الذكر حول هذا الحديث بالنتائج التالية:

  • أن على العبد أن يبذل ما في وسعه من الأخذ بالأسباب في دفع الشر، وجلب الخير، ولو قصر وكسل عن القيام بذلك؛ فإنه ملوم على ذلك، ولا ينفعه أن يقول: (حسبي الله ونعم الوكيل).
  • أن العبد إذا فعل ما يستطيعه من الأسباب ولم يكسل عن ذلك؛ ثم واجهه من العوائق القهرية مالا يستطيع دفعها؛ فإنه والحالة هذه ينفعه تفويضه أموره إلى الله عز وجل؛ وسؤاله أن يتولاه في الأمور التي عجز عنها وهنا ينفعه قوله حسبي الله ونعم الوكيل، ويستجيب الله له؛ لعلمه سبحانه بأنه بذل ما يستطيع؛ فكفاه الله مالا يستطيع، كما قال نوح عليه السلام: بعد جهاد ومجاهدة وفعله لأسباب هداية قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً؛ ثم لم يستطع أن يفعل بعد ذلك شيئا؛ (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) فجاءه الفتح والغوث فيما لم يقدر عليه، (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ) [القمر:11-14].

الأمر بالاحتياط والحزم في الأسباب

وفي الحديث التالي بيان لما سبق أوضح بيان، فعن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قضى بينَ رجُلَيْنِ فقالَ المقضيُّ عليهِ: حسبيَ اللَّهُ ونعمَ الوَكيلُ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (ردُّوا عليَّ الرَّجل، فقالَ: ما قلتَ؟) قالَ: قلتُ حسبيَ اللَّهُ ونعمَ الوَكيلُ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: (إنَّ اللَّهَ يلومُ على العَجزِ، ولَكِن عليكَ بالكَيسِ، وإذا غلبَكَ أمرٌ فقُل: حسبيَ اللَّهُ ونعمَ الوَكيلُ)3(3) [أخرجه النسائي في السنن الكبرى، وأبو داود، وأحمد، وصحح إسناده أحمد شاكر في عمدة التفسير:1/ 441]..

ومعنى هذا أن الإنسان مطلوب منه الحزم، ومطلوب منه الاحتياط، ومطلوب منه أنه يحافظ على أموره وشئونه، وأن يأخذ بالأسباب التي يكون فيها حفظ حقه، وإذا فاته شيء بعد ذلك فإنه يقول: حسبي الله ونعم الوكيل، أما أنه لا يأخذ بالأسباب ثم يقول: حسبي الله ونعم الوكيل مع عجزه وكسله، فهذا هو العجز الذي جاء في هذا الحديث4(4) [كتاب شرح سنن أبي داود للعباد ، شرح حديث: إن الله يلوم على العجز]..

(فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : إن الله تعالى يلوم على العجز : أي على التقصير والتهاون في الأمور (ولكن عليك بالكيس) ، بفتح فسكون ; أي بالاحتياط والحزم في الأسباب ، وحاصله أنه تعالى لا يرضى بالتقصير ، ولكن يحمد على التيقظ والحزم ، فلا تكن عاجزا وتقول: حسبي الله ، بل كن كيسا متيقظا حازما (فإذا غلبك أمر فقل: أي حينئذ (حسبي الله ونعم الوكيل)5(5) [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح “كتاب الإمارة والقضاء” باب الأقضية والشهادات]..

السنن الإلهية والمنهج الصحيح للتغيير

ويمكن أن نقف مما سبق على سنن إلهية عظيمة لها الأثر البالغ في تفسير ما نعيشه اليوم من تغيرات ومفاسد ومظالم، كما أن لها الأثر في معرفة المنهج الصحيح للتغيير. وعلى رأس هذه السنن قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11] وتفصيل ذلك في الأمور التالية:

  • إن نصر الله عز وجل لعباده المؤمنين سنة إلهية ووعد لا يتخلف قال تعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47]

  • إن نصر الله عز وجل لعباده المؤمنين يتحقق إذا توفرت شروطه وانتفت موانعه ومن شروطه تحقيق الإيمان وتغيير ما بالنفوس والواقع من تفرق وفساد وذنوب إلى توبة وإصلاح ما يمكن إصلاحه ويملك الناس القدرة على تغييره.

  • فإذا قام الناس ولاسيما الدعاة بتغيير ما بأنفسهم من الأمور التي تمنع نصر الله وبذلوا وسعهم في تغييرها ولاسيما التفرق بين الدعاة والتحزب والاختلاف وبذلوا وسعهم في جهاد البيان للناس مما هو في مقدورهم فإن الله عز وجل يغير ما بهم ويكفيهم ويتولى أمورهم فيما هم عاجزون عنه وتتدخل قوة الله وآياته في نصر أوليائه كما نصر أنبياءه.

  • إذا لم يبذل الدعاة جهدهم في تغيير ما بهم من موانع نصر الله وكسلوا عن ذلك وهم قادرون عليه فإن الله عز وجل لا يعينهم فيما لا يقدرون عليه ونتيجة ذلك أن يبقى الفساد والمفسدون ولا يغير الله ما بهم.

  • ولكن هل يعني هذا أن يبقى الفساد والظلم لا يدافع؟ كلا بل إن الله عز وجل ينفذ فيهم سنته التي لا تتخلف وهي سنة الاستبدال التي بينها الله عز وجل في قوله تعالى: (وإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38] حيث يأتي الله بقوم يدافعون الباطل بما في وسعهم وقدرتهم ويتولاهم الله فيما هو فوق طاقتهم وبهذا تستمر سنة المدافعة التي قال فيها سبحانه: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة:251].

واقعنا اليوم بين العجز والكسل

إن ما نراه اليوم من ظلم وفساد كبير؛ يحتم على أنصار الله عز وجل مواجهة ذلك، وتحصين الأمة من شره، وأن يستعيذوا بالله من العجز والكسل؛ فيبذلوا ما يستطيعون من الوسائل والأسباب الممكنة؛ والتي في مقدورهم فعلها، وما عجزوا عنه ولا قدرة لهم في دفعه فإن الله يتولاه بقوته وقهره وآياته، ولكن متى؟ إنه بعد أن يعلم الله عز وجل من أنصاره عدم كسلهم؛ وأنهم بذلوا وسعهم في ما يقدرون عليه من المدافعة، واستعانوا بالله عز وجل واستعاذوا به من الكسل. أما حين يكون في مقدور عباده المدافعة الممكنة لهم؛ ثم لم يبذلوها، وإنما كسلوا عنها؛ إيثارا للدنيا، أو مجرد أوهام وخوف غير متحقق، فإن الله عز وجل في هذه الحالة لا ينصرهم فيما عجزوا عنه من الأسباب القهرية، ولم يقدروا عليها. وواقعنا وواقع كثير من الدعاة اليوم إلا من رحم الله تعالى هو الكسل عن القيام بالمقدور لهم؛ بحجة أنهم عاجزون، لأنهم مقهورون لا خيار لهم، فبرروا كسلهم بالعجز القهري، والله عز وجل أعلم بما في قلوبهم.

وبقي نخبة ؛ أولوا بقية من عباد الله عز وجل؛ وأنصار دينه؛ فرقوا بين المقدور لهم وقاموا به؛ ولم يكسلوا عنه؛ واستعاذوا بالله من الكسل، وما عجزوا عنه ولا قدرة لهم عليه فوضوه إلى الله تعالى، وانتظروا نصره وقهره للفساد وأهله؛ بآيات من عنده؛ ينصر بها عباده فيما عجزوا عنه، واستعاذوا بالله من العجز.

وإنه لمن المحزن أن نجد من بعض العلماء والدعاة والمصلحين من إذا طالبته بالإصلاح؛ أظهر كسله في صورة عجز وعدم قدرة، وقال لك: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وليس باليد حيلة، مع أن في قدرته وسائل كثيرة، يمكن فعلها في تحصين الأمة من كيد أعدائها الذين يريدون تبديل دينها وطمس هويتها ومن أمثلة المقدور عليه: النشاط العائلي، وتحصين الأسرة، ودور إمام المسجد في مسجده، وخطبة الجمعة، ودور تحفيظ القرآن الكريم، والتعليم، ومنافذ كثيرة غير معجزة، بل اننا نملك من المواد والأدلة

من الكتاب والسنة ما نحق به الحق ونبطل به الباطل ولكنه الكسل وحب الدنيا فـ (اللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل).

والحمد لله رب العالمين.

الهوامش

(1) [زاد المعاد:2 /325].

(2) [المصدر السابق].

(3) [أخرجه النسائي في السنن الكبرى، وأبو داود، وأحمد، وصحح إسناده أحمد شاكر في عمدة التفسير:1/ 441].

(4) [كتاب شرح سنن أبي داود للعباد ، شرح حديث: إن الله يلوم على العجز].

(5) [مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح “كتاب الإمارة والقضاء” باب الأقضية والشهادات].

اقرأ أيضا

المفهوم الصحيح للتوكل والاستعانة

مظاهر الانحراف في مفهوم التوكل وتطبيقه

الأمة تفتقدكم .. فأين أنتم يا معشر العلماء

العلماء ومسؤولية البلاغ

التعليقات غير متاحة