عندما يأمر الله تعالى عباده بأمر يبرز للشيطان آفات، جعلها الله تعالى فتنة لعباده. يجب على المؤمن الحذر منها وعدم الانجرار اليها، والقيام بالعبودية كما أمره الله بها؛ ومنها عبودية “التوكل”.

مقدمة

بعد أن اتضحت حقيقة التوكل والفهم الصحيح له ومراتب الناس فيه راجع “المفهوم الصحيح للتوكل والاستعانة“، فيجدر بنا أن نتعرف على بعض مظاهر وصور الانحراف التي طرأت على هذا العمل العظيم من أعمال القلوب، وما كان لهذا الانحراف من أثر سيء على بعض أبناء الأمة في عجزهم، أو تعلقهم بغيرهم، أو تركهم لما يجب الأخذ به.. وما إلى ذلك من الآثار السيئة والنتائج الوخيمة.

هذا، ولقد كان للفكر الصوفي المنحرف، وظهور الفِرَق أكبر الأثر في انتشار هذه المظاهر من الانحراف.

يضاف إلى ذلك ما ساهم به الغزو الفكري لهذه الأمة من نشر للمذاهب المادية، التي لا تربط النتائج إلا بالمادة المحسوسة، وتُلغي جانب الغيب والإيمان بالله عز وجل وقضائه وقدَره وملكه وقهره وعظمته.

وما كان لهذه الأفكار كلها أن تؤثر لو كان العلم وفهم العقيدة الصحيحة منتشراً بين الأمة، ولكن لمّا وافق هذا جهلاً عند بعض المسلمين بحقيقة هذا الدين وأصوله نشأ من ذلك بعض المفاهيم المغلوطة للتوكل كما نشأ الضعف في التطبيق لهذه العبادة العظيمة.

وفي الفقرات التالية أستعرض بعض صور الانحراف والضعف في هذا الجانب المهم من جوانب العقيدة، لعلنا نتفقده في أنفسنا أو عند غيرنا؛ حتى نتجنبه، ونحذر منه.

بعض صور الانحراف بسبب المفاهيم المغلوطة للتوكل

ومن أهم مظاهر الانحراف في ذلك ما يلي:

الانحراف الى “التواكل”

النظر إلى التوكل على أنه تواكل وترك للأسباب، والذين وقعوا في هذا الانحراف على صنفين:

الأول: صنف يعلم أن التوكل لا ينافي فعل الأسباب والأمر واضح عنده بلا شبهة، ولكنه ينطلق من هذا الفهم المنحرف في تبرير عجزه وكسله وتفريطه، فهذا عجزه توكل، وتوكله عجز، وهذا الصنف من الناس لا ينقصه إلا أن يتقي الله عز وجل، ولا يبرر شهوته بشبهة، وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:

“وكثيراً ما يشتبه في هذا الباب: المحمودُ الكامل بالمذموم الناقص.

ومنه اشتباه التوكل بالراحة، وإلقاء حمل الكَلِّ فيظن صاحبه أنه متوكل… وإنما هو عامل على عدم الراحة..”. (1مدارج السالكين، 2/ 123، 124)

والثاني: فقد أُتي من جهله بحقيقة التوكل على الله عز وجل وجهله بسنن الله سبحانه في ارتباط المسبَبات بالأسباب، وأن الأخذ بالأسباب بضوابطها الموضحة سابقاً لا ينافي التوكل، بل إن تركها قدح في حكمة الله عز وجل، ونقص في العقل، وما علم صاحب هذا الفهم أن التوكل عليه سبحانه هو أقوى الأسباب في حصول المطلوب ودفع المكروه، يقول الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى:

“واعلم أن تحقيق التوكل لا يُنافي السعي في الأسباب التي قدّر الله سبحانه المقدورات بها، وجرَت سنته في خلقه بذلك، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكّل، فالسّعيُ في الأسباب بالجوارح طاعةٌ له، والتوكل بالقلب عليه إيمانٌ به، كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ﴾ [النساء: 71]“. (2جامع العلوم والحكم، ص 498)

ويتحدث ابن القيم رحمه الله تعالى عن توكل الرسول وصحابته الكرام مع أخذهم بالأسباب، فيقول:

“.. وكان يدخر لأهله قوت سنة وهو سيد المتوكلين، وكان إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد والمزاد، وجميعُ أصحابه، وهم أولو التوكل حقّاً…

فكانت هممهم رضي الله عنهم أعلى وأجَلَّ من أن يصرف أحدهم قوة توكله واعتماده على الله في شيء يحصل بأدنى حيلة وسعي؛ فيجعله نصب عينيه، ويحمل عليه قوى توكله”. (3مدارج السالكين، 2/ 134، 135، بتصرف)

الإفراط في التعلق بالأسباب

ويقابل الانحرافَ السابق انحرافٌ في الجانب المقابل، ألا وهو الإفراط في فعل الأسباب والتعلق بها محبةً وخوفاً ورجاء، ومعلوم ما في هذا الانحراف من خطر شديد على التوحيد، فهو إما شرك أكبر: إذا اعتقد فاعل الأسباب أنها تؤثر استقلالاً، وإما شرك أصغر: إذا لم يعتقد ذلك، ولكنه تعلق بها وحابَى من أجلها، وجعل أكثر اعتماده عليها في حصول المطلوب وزوال المكروه.

وما أكثر من يقع منا في هذا الضعف القادح في التوكل على الله عز وجل، ولكن ما بين مُقِلٍّ ومُكثر، وإن وُجد من يحقق التوكل على الله عز وجل في أمور الدنيا فإن المحققين له في العبادة وأمور الآخرة أقلّ وأقلّ، وفي ذلك يقول الشيخ محمد ابن عثيمين رحمه الله:

“ولكن الغالب عندنا ضعف التوكل، وأننا لا نشعر حين نقوم بالعبادة أو العادة بالتوكل على الله والاعتماد عليه في أن ننال هذا الفعل، بل نعتمد في الغالب على الأسباب الظاهرة، وننسى ما وراء ذلك، فيفوتنا ثواب عظيم وهو ثواب التوكل”. (4شرح كتاب التوحيد، للشيخ ابن عثيمين، 2/ 190)

التقليل من شأن التوكل

وهو ما ينقل عن بعض غلاة المتصوفة من أن التوكل من مقامات العامة، لا من مقامات الخاصة. ومنشأ هذا الانحراف أتى من ظنهم أن التوكل لا يُطلَب به إلا حظوظ الدنيا، كما هو شأن عامة الناس. وهذا غلط؛ فإن أعظم ما يُتوكل على الله فيه الأمور الدينية، وحفظ الإيمان، وجهاد أعداء الله عز وجل ، ورجاء ثوابه سبحانه.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:

“.. وعلى هذا فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا يُطلب به إلا حظوظ الدنيا، وهو غلط؛ بل التوكل في الأمور الدينية…أعظم”. (5مجموع الفتاوي، 10/ 18 – 20، باختصار)

جبن القلب والخوف من المخلوق

إن مما ينافي حقيقة التوكل الخوفُ من المخلوق خوفاً يدفع إلى ترك ما يجب أو فعل ما يحرم، محاباةً للمخلوق أو خوفاً من شره. ومثل ذلك يكون أيضاً في الطمع والرغبة، فالطمع في نفع المخلوق أو الخوف من شرِّه إذا أدى إلى ضعف التعلق بالله عز وجل وضعف الثقة به سبحانه؛ فإن هذا يقدح في التوكل، ويُضعفه إن لم يذهبْه، ومن تعلق بشيء وُكِلَ إليه، ومن وكل إلى غير الله عز وجل ضاع وهلك، وخاب وخسر.

أمثلة معاصرة

ومما يصلح التمثيل به في عصرنا اليوم على هذا الضعف ما يعتري بعض الدعاة وهو في دعوته إلى الله عز وجل من خوف على نفسه أو رزقه أو منصبه، الأمر الذي يؤدي ببعضهم إلى ترك ما هم عليه من تعليم للعلم أو دعوة إلى الله عز وجل، والإحجام عن مجالات الخير ونفع الناس، بحجة الحذر والبعد عن الفتن.. والله سبحانه أعلم بما في قلوب العالمين.

وكأننا لم نسمع ولم نعِ قوله تعالى: ﴿إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 175].

يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى:

“والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل وأن يتضخم الشر، وأن يتبدّى قويّاً قادراً قاهراً بطّاشاً جباراً، لا تقف في وجهه معارضة، ولا يصمد له مُدافِع، ولا يغلبه غالب، الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا؛ فَتَحْت ستار الخوف والرهبة، وفي ظل الإرهاب والبطش يفعل أولياؤه في الأرض ما يقرّ عينَه، يقْلبون المعروف منكراً، والمنكر معروفا، وينشرون الفساد والباطل والضلال، ويُخفتون صوت الحق والرشد والعدل..

والشيطان ماكر خادع غادر يختفي وراء أوليائه، وينشر الخوف منهم في صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته..

ومن هنا يكشفه الله ويوقفه عارياً، لا يستره ثوب من كيده ومكره، ويُعرِّف المؤمنين الحقيقة؛ حقيقة مكره ووسوسته؛ ليكونوا على حذر، فلا يَرهبوا أولياء الشيطان، ولا يخافوهم، فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ويستند إلى قوته”. (6طريق الدعوة في ظلال القرآن، 2/ 151)

خاتمة

للشيطان وللنفوس آفات تُلقى في طريق المأمور؛ ولذا يجب النظر في حقيقة امتثال ما أمر الله فعليه اهتمام المسلم في تحقيق العبودية والامتثال، وفي تجنب مزالق الطريق.

………………………………..

الهوامش:

  1. مدارج السالكين، 2/ 123، 124.
  2. جامع العلوم والحكم، ص 498.
  3. مدارج السالكين، 2/ 134، 135، بتصرف.
  4. شرح كتاب التوحيد، للشيخ ابن عثيمين، 2/ 190.
  5. مجموع الفتاوي، 10/ 18 20، باختصار.
  6. طريق الدعوة في ظلال القرآن، 2/ 151.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة