دل كتاب الله تعالى على العقيدة، وعلى قضية التشريع، وعالجها وبيّنها أوضح بيان؛ ومن نظر الى كتاب الله وتدبره وجدا الأمر كالشمس، لا يماري فيه إلا مبطل داحض الحجة.
بين الأعلى والأدنى
بعد إيضاح خطورة الشرك في الدارين، ومعانيه التي يتم التلبيس في شأنها وإخفاؤها وهو شرك التشريع وشرك الولاء.. في الجزء الأول.
وبعد إيضاح معنى “الطاعة والاتباع” في اللغة، وبيان أن شرك الطاعة والاتباع هو أحد نواع شرك العبادة، والفرق بين طاعة الله ورسوله وطاعة غيرهما، والفرق بين شرك الطاعة وشرك التأله، مع بيان آيات كريمات توضيح شرك التشريع، وأقوال المفسرين في شرحها.. في الجزء الثاني.
يستكمل الكاتب في هذا الجزء بيان الآيات الكريمات الدالة على شرك التشريع، وأنه يعني العبادة لغير الله، ومعني الاستيعاض بالأدنى من زبالات البشر بدلا من الأعلى مما أنزل الله تعالى.
ذكر الآيات الواردة في بيان شرك الطاعة والاتباع والتحذير منه
قد أوضح الله تعالى في كتابه أصول هذا الدين وقواعده، وصرّف تعالى الآيات وكررها لعباده ليعقلوا ما أنزله اليهم.
ومن هذا البيان هذه الآيات الكريمة..
الآية الثالثة
قوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (التوبة:31).
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى عند هذه الآية:
هذه الآية جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فسرها لعدي بن حاتم رضي الله عنه لما سأله عنها..
فقد أخرج الترمذي وغيره عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقه صليب من ذهب، فقال له صلى الله عليه وسلم: «اطرح هذا الوثن من عنقك» وسمعه يقرأ ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ﴾ وكان عدي في الجاهلية نصرانياً ـ فقال عديّ: ما كنا نعبدهم من دون الله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «ألم يُحلوا لكم ما حرم الله، ويحرموا عليكم ما أحل الله فتتبعوهم؟» قال: بلى، قال: «ذلك عبادتهم». (1السنن الكبرى للبيهقي (20847) والترمذي (3095) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (3293))
“وهو معنى اتخاذهم أرباباً”.
وهذا التفسير النبوي المقتضِي أن كل من يتبع مشرِّعاً فيما أحل وحرّم مخالفاً لتشريع الله أنه عابد له، متخذه رباً، مشرك به، كافر بالله؛ هو تفسير صحيح لا شك في صحته، والآيات القرآنية الشاهدة لصحته لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم..
وسنبين ـ إن شاء الله ـ طرفاً من ذلك:
إعلموا أيها الإخوان أن الإشراك بالله في حكمه والإشراك به في عبادته كلاهما بمعنى واحد، لا فرق بينهما البتة.
فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله، وتشريعاً غير ما شرعه الله، وقانوناً مخالفاً لشرع الله من وضع البشر، مُعرضاً عن نور السماء الذي أنزل الله على لسان رسوله، من كان يفعل هذا هو ومن يعبد الصنم ويسجد للوثن لا فرق بينهما البتة بوجه من الوجوه.
فهما واحد، فكلاهما مشرك بالله، هذا أشرك به في عبادته، وهذا أشرك به في حكمه، والإشراك به في عبادته، والإشراك به في حكمه كلاهما سواء.
وقد قال الله جل وعلا في الإشراك به في عبادته: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف :110).
وقال في الإشراك به في حكمه أيضاً: ﴿لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا﴾ (الكهف:26) وفي قراءة ابن عامر من السبعة: ﴿ولا تشرك في حكمه أحدا﴾ بصيغة النهي المطابقة لقوله: ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ (الكهف:110).
“فكلاهما إشراك بالله“.
ولذا بيّن النبي لعدي بن حاتم أنهم لمّا اتبعوا نظامهم في التحليل والتحريم وشرعَهم المخالف لشرع الله كانوا عبدة لهم، متخذيهم أرباباً، والآيات القرآنية في المصحف الكريم المُصرحة بهذا المعنى لا تكاد تحصيها.
مناظرة حسمها الله تعالى
ومن أصرحها المناظرة التي أشرنا لها في المقالات السابقة، ووعدنا بإيضاح مبحثها، وهي المناظرة التي وقعت بين حزب الرحمن وحزب الشيطان في حكم تحليل لحم الميتة وتحريمه، فحزب الشيطان يقولون: إن الميتة حلال، ويستدلون بوحي من وحي الشيطان، وهو أن الشيطان أوحى إلى أصحابه وتلامذته في مكة أن اسألوا محمداً عن الشاة تصبح ميتة من هو الذي قتلها؟
فلما قال: الله قتلها. احتجوا على النبي وأصحابه في تحريم الميتة بفلسفة من وحي الشيطان وقالوا: ما ذبحتموه وذكيتموه بأيديكم حلال، وما ذبحه الله بيده الكريمة بسكين من ذهب تقولون حرام!! فأنتم أحسن من الله إذا..!!
فهذه فلسفة الشيطان ووحي إبليس استدل بها كفار مكة على اتباع نظام الشيطان وتشريعه وقانونه بدعوى أن ما ذبحه الله أحل مما ذبحه الناس، وأن تذكية الله أطهر من تذكية الخلق.
واستدل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على تحريم الميتة بوحي الرحمن في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ (المائدة:3) ﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ﴾ (البقرة:173).
فأدلى هؤلاء بنص من نصوص السماء، وأدلى هؤلاء بفلسفة من وحي الشيطان، ووقع بينهم جدال وخصام، فتولى رب السماوات والأرض الفتيا في ذلك بنفسه فأنزل قرآناً يتلى في سورة الأنعام معلّماً بها خلقه، أن كل من يتبع نظاماً وتشريعاً وقانوناً مخالفاً لما شرعه الله على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مشرك بالله كافر متخذ ذلك المتبوع رباً.
فأنزل الله ذلك في قوله: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾ منه الميتة أي: وإن قالوا: إنها ذكاة الله، وأنها أطهر ثم قال ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ أي: إن الأكل من الميتة لفسق؛ أي: لَخروج عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ﴾ من الكفرة ككفار مكة ﴿لِيُجَادِلُوكُمْ﴾ لأجل أن يجادلوكم بوحي الشيطان، ما ذبحتموه حلال، وما ذبحه الله حرام، فأنتم أحسن من الله ثم قال ـ وهو محل الشاهد: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ﴾ أي: إن اتبعتموهم في ذلك النظام الذي وضعه الشيطان لأتباعه وأقام دليلاً من وحيه عليه: ﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ بالله متخذون من اتبعتم تشريعه ربا غير الله.
وهذا الشرك في قوله ﴿إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ هو الشرك الأكبر المخرج عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين.
حكم من أراد التحاكم الى الطاغوت، ولو زعم الإيمان
إن كل من تحاكم إلى غير ما أنزل الله فهو متحاكم إلى الطاغوت، وهؤلاء قوم أرادوا التحاكم إلى الطاغوت وزعموا أنهم مؤمنون بالله؛ فعجّبَ الله نبيَّه من كذب هؤلاء وعدم حيائهم في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ﴾ يعجّبه منهم ﴿يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ﴾ الذي شرع لهم تلك النظم والأوضاع التي يسيرون عليها ﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ (النساء:60).
وأقسم الله (جلّ وعلا) إقساماً سماوياً من رب العالمين على أنه لا إيمان لمن لم يحكّم رسول الله فيما جاء به عن الله خالصاً من قلبه في باطنه وسره في قوله: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء:65).
موجِبات إفراد الله بالحكم والتشريع
وبيّن الله جل وعلا في آيات كثيرة من كتابه أن الحكم له وحده لا شريك له في حكمه، وكلما ذكر اختصاصه بالحكم أوضح العلامات التي يُعرف بها من يستحق أن يحكم ويأمر وينهى ويشرع ويحلل ويحرم، وبين من ليس له شيء من ذلك، قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ (يوسف:40) ﴿لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ﴾ (القصص:70).
وسنبين لكم أمثلة من ذلك.
الموضع الأول
من ذلك قوله في سورة الشورى: ﴿ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ (الشورى:10) ثم إن الله كأنه قال: هذا الذي يكون المرجع إليه والقول قوله والكلمة كلمته، حتى يُردّ إليه كل شيء اختُلف فيه؛ ما صفاته التي يتميز بها عن غيره؟ قال: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾.
ثم بيّن صفات من يستحق الحكم والتشريع، والتحليل والتحريم، والأمر والنهي؛ فقال: ﴿ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (الشورى 10-12).
هذه صفات من له أن يحكم ويحلل ويحرم ويأمر وينهى، أفترون أيها الإخوان أن واحداً من هؤلاء القردة الخنازير والكلاب أبناء الكلاب الذين يضعون القوانين الوضعية فيهم واحد يستحق هذه الصفات التي هي صفات من له أن يحكم ويحلل ويحرم ويأمر وينهى؟!!
الموضع الثاني
ومن الآيات الدالة على هذا النوع قوله تعالى في سورة القصص: ﴿وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ وَالْآخِرَةِ ۖ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
ثم بيّن صفات من له أن يحكم فقال: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (القصص:70-73).
هل في الكفرة القردة الخنازير؛ الذين يضعون النظم ويزعمون أنهم يرتّبون بها علاقات الإنسان ويضبطون بها شؤونه، هل في هؤلاء من يستحق أن يوصف بهذه الصفات التي هي صفات من له أن يحكم ويأمر وينهى ويحلل ويحرم؟!
الموضع الثالث
ومن ذلك قوله تعالى في أخريات القصص: ﴿وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ ۘ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ۚ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (القصص:88).
والآيات القرآنية في مثل هذا كثيرة جداً.
ما تدور عليه الأدلة
والحاصل أن التشريع لا يكون إلا للأعلى الذي لا يمكن أن يكون فوقه آمرٌ ولا ناهٍ ولا متصرف، فهو للسلطة العليا، أما المخلوق الجاهل الكافر المسكين فليس له أن يحلل ويحرم.
والعجب كل العجب من قوم كان عندهم كتاب الله ورثوا الإسلام عن آبائهم، وعندهم هذا القرآن العظيم، والنور المبين، وسنة خير الخلق صلى الله عليه وسلم ، يبين الله ورسوله كل شيء؛ ومع ذلك يُعرضون عن هذا زاعمين أنه لا يحسن القيام بشؤون الدنيا بعد تطوراتها الراهنة، يطلبون الصواب في زبالات أذهان كفرة خنازير، لا يعلمون شيئاً!!
ولكن الخفافيش يعميها نور القرآن العظيم، فالقرآن العظيم نور عظيم، والخفاش لا يكاد أن يرى النور:
خفافيش أعماها النهار بضوئه فوافقها قطع من الليل مظلمُ
فهذا القرآن العظيم ينصرفون عنه، وترى الواحد الذي هو مسؤول عنهم يعلن في غير حياء من الله ولا حياء من الناس ـ بوجه لا ماء فيه ـ بكل وقاحة؛ أنه يحكم في نفسه وفي الناس الذين هم رعيته، وهو مسؤول عنهم؛ يحكّم في أديانهم، وفي أنفسهم وفي عقولهم، وفي أنسابهم وفي أموالهم وفي أعراضهم، قانوناً أرضياً وضعه خنازير كفرة جهلة أنتن من الكلاب والخنازير، وأجهل خلق الله، مُعرضاً عن نور السماء الذي وضعه الله (جل وعلا) على لسان خلقه، فهذا من طمْس البصائر لا يصدق به إلا من رآه ـ والعياذ بالله ـ اللهم لا تطمس بصائرنا ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
واعلموا أيها الإخوان أن كل من يتعالم أمام الخالق (جل وعلا) بلا حياء في وجهه؛ أنه يُعرض عما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، مدّعياً أنه لا يقدر أن يقوم بتنظيم علاقات الدنيا، يطلب النور والهدى في زبالات أذهان خنازير كفرة فجرة، جهلة في غاية الجهل؛ أنه هو وفرعون وهامان وقارون في الكفر سواء؛ لأنه لا يعرض عن الله، وعن تشريع الله، ويفضل عليه تشريع الشيطان ونظام إبليس الذي شرعه على ألسنة أوليائه إلا من لا نصيب له في الإيمان بوجه من الوجوه، كما رأيتم الآيات الكثيرة الدالة على ذلك، وتعجيب الله نبيه من ادعاء مثلُه الإيمان.
فعلى المسلمين جميعاً أن يعلموا ويعتقدوا ـ ونحن نقول: لا شك يجب على كل مسلم كائناً من كان أن يعلم ـ أنه لا حلال إلا ما أحله الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله، فمن سوى الله لا تحليل له ولا تحريم؛ لأنه عبد مسكين ضعيف مربوب، عليه أن يعمل بما يأمر به ربه، فيتبع ما يشرعه ربه. (2العذب المنير من مجالس الشنقيطي في التفسير 3 /441-447 باختصار)
وجاء في تفسير الطبري عن حذيفة ابن اليمان وابن عباس رضي الله عنهما قولهم في تفسير آية التوبة: «أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا». (3تفسير الطبري 14/ 212)
الآية الرابعة
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ۖ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ﴾ (يس:60).
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى:
هذا تقريع من الله للكفرة من بني آدم الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو مبين، وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم ولهذا قال: ﴿وَأَنِ اعْبُدُونِي ۚ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ﴾ أي قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان وأمرتكم بعبادتي وهذا هو الصراط المستقيم فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به. (4عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير تحقيق شاكر 3/ 131)
والشاهد من هذه الآية تسمية طاعة الشيطان بكونها عبادة له وإن لم يسجدوا ويركعوا وينذروا له. وأمثال هذه الآية التي تفسر عبادة الشيطان بأنها طاعته كثيرة في القرآن.
الآية الخامسة
قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ﴾ (الشورى: 21).
يقول ابن كثير رحمه الله تعالى عن هذه الآية:
أي: هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم؛ بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وتحليل الميتة والقمار، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالة الباطلة التي كانوا قد اخترعوها في جاهليتهم من التحليل والتحريم والعبادات الباطلة والأقوال الفاسدة. (5نفس المصدر 3/ 253)
الآية السادسة
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ۙ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ ۖ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ (محمد:25- 26).
والآيات في ذكر شرك الطاعة والاتباع كثيرة جدا، وقد ذكر جانباً منها الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير آية التوبة ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا…الآية﴾ الذي سبق ذكره؛ فليرجع إليه.
بيان قاطع
هذا بيان رب العالمين، مما أنزله على رسوله. أوضح فيه أصالة قضية التشريع وارتباطها بالعقيدة والعبادة، وفحش جريمة الانحراف عنها. فكن تدبر كتاب ربه وجد الطريق، ووجد بطلان المذاهب المناقضة كالعلمانية وفروعها الساقطة.
الهوامش:
- السنن الكبرى للبيهقي (20847) والترمذي (3095) وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (3293).
- العذب المنير من مجالس الشنقيطي في التفسير 3 /441-447 باختصار.
- تفسير الطبري 14/ 212.
- عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير تحقيق شاكر 3/ 131.
- نفس المصدر 3/ 253.
اقرأ أيضًا:
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (1) خطر الشرك
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (2) بين الطاعة والتأله
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (4) التلازم بين المحبة والتشريع
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (5) نظرة الى الواقع
وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (6) بين الصبر والإنكار