العلاقة بالله تعالى علاقة مطَمئنة؛ يأمن عبيده أن يظلمهم ويطمعون في فضله. ولا حياة لقلوبهم في الدنيا ولا في الآخرة إلا بهدايته وقد دلنا على طريق الفوز بها؛ بسؤاله والضراعة اليه.
مقدمة
عن أبي ذر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظّالموا، يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم….». (1رواه مسلم)
وفي هذا الحديث عشرةُ نداءات من الله، تبارك وتعالى، يرويها النبي، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو حديث مشهور، وهو حديث قدسي، الذي يرويه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ربه عز وجل، فالألفاظ التي فيه نبوية، والمعاني ربانية. (2الخلاف معروف في الحديث القدسي هل هو كلام الله عز وجل لفظا ومعنى أم أن معناه من الله تعالى ولفظه من الرسول الملكي أو الرسول البشري والراجح والله أعلم أنه كلام الله عز وجل لفظا ومعنى لكن ليس له خصائص القرآن)
تحريم الظلم على الخالق والمخلوق
يقول الله تبارك وتعالى في أول هذا الحديث: «يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظّالموا».
وهذه الرواية رواية الإمام مسلم رحمه الله وهي أتم من غيرها، فأول العشرة النداءات هو هذا النداء وبهذا اللفظ: «يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي»، فالله تبارك وتعالى هو الذي حرم الظلم على نفسه، وإلا فإنه عز وجل لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، ولن يكون ظالماً، تبارك وتعالى، ولو فعل بخلقه ما فعل؛ وهو الخالق والرازق والمنعم والمدبر والمتصرف في ملكه كما يشاء، ومع ذلك فإنه ـ فضلاً منه تبارك وتعالى ـ حرم الظلم على نفسه، وكتب على نفسه الرحمة، كما أخبر تبارك وتعالى في الذكر الحكيم.
فإذا كان القوي العزيز الجبار المتكبر، القادر على كل شيء، الخالق المالك لكل شيء حرم الظلم على نفسه، فكيف يظلم العبد أخاه العبد..؟ وكيف يتظالم العباد..؟! «فلا تظّالموا»، هذا مع أن الله تبارك وتعالى، لا يجب عليه حقٌ لأحد، بل هو كما قال الشاعر رحمه الله:
ما للعباد عليه حقٌ واجبٌ .. كــلا ولا سعيٌ لديه ضــائعُ
إن عُذبوا فبعدله أو نعموا .. فبفضله وهو الكريم الواسعُ
فهو إن عذب الخلق، فلا يعذبهم إلا عدْلاً، وإن رحمهم فلا يرحمهم إلا فضلاً منه عز وجل وتكرماً، ولهذا جاءت هذه النداءات ـ وكلها تخاطب الإنسان الضعيف العاجز ـ من الله من الرب الرحيم، الودود سبحانه وتعالى.
فكيف يتظالم المخلوقون؟! وكيف يظلم بعض الناس بعضاً؟! والله تبارك وتعالى قال عن نفسه: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً﴾ [يونس:44]، وقال: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ﴾ [غافر:31]، فهو عز وجل لا يريد الظلم ولا يحبه، وقد حرَّمه على نفسه فلن يريده ولن يقبله من أحدٍ أبداً.
بل هو كما أخبر النبي، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في الحديث الصحيح: «إن الله يملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته»، وقال تعالى: ﴿وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ [الأعراف:183].
لكن الله إذا أخذ الظالم لم يفلته، قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود:102].
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فيما صح عنه: «الظلم ظلمات يوم القيامة». وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه» فالمسلم لا يظلم أحداً من الناس، بل ولو كانت دابةً من الدواب، والظلم هو “وضع الشيء في غير موضعه”، وكل وضع للشيء في غير موضعه فالله تبارك وتعالى منزه عنه.
كما يجب على العباد أن يتركوا ذلك الظلم، فديننا هو دين العدل في كل شيء، حتى الحذاء: «نهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينتعل الرجل في إحدى رجليه ويدع الأخرى»، لأنه دين العدل في كل شيء.
فمن الفوائد المأخوذة من هذا الحديث أن ديننا دين العدل، حتى بين رجليك؛ فتعدل بينهما. فإما أن تنتعل فيهما معاً، وإما أن تكونا حافيتين معاً، فلا ظلم ولا إجحاف.
ولقد بعث الله، تبارك وتعالى، محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والدنيا شرقاً وغرباً تعج بالمظالم، وبالعنصرية وبالطبقية وباستعباد خلق الله؛ فكما كان فرعون ظالماً كان كذلك فراعنة الفرس والروم، فيجعلون أقوامهم شيعاً ويستضعفون طوائف منهم.
فجاء محمد، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بدين العدل والحق والهدى، فتعلمت الإنسانية جميعاً كيف تعدل من هذا الدين، وعلمت لأول مرة في تاريخها؛ لا كلاماً وحِكماَ يقولها الفلاسفة، ويرددها الحكماء؛ بل رأت العدل واقعاً يسير أمامها، ويملأ شرق الدنيا وغربها، وذلك لأنهم عرفوا مما عرفوا مثل هذا النداء الرباني الكريم: «يا عبادي! إني حرّمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظّالموا».
طلب الهداية من الله وحده
بعد ذلك، تأتي نداءات تالية لتبين عجز هذا المخلوق الضعيف، وافتقاره إلى الله تبارك وتعالى: «يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم» أي: أُخرجُكم من الضلال الذي يسبب شقاء الدنيا والآخرة، والذي لا فلاح معه ولا نجاح، ولا خير فيه ولا سعادة.
فهذا الضلال «كلكم ضال إلا من هديته»، فكل خلق الله وكل عباد الله ضالون إلا من هدى اللهُ، فمنَّ تعالى عليه وتفضل بالهداية.
ومن هدايته لهم: أنه خلقهم على الفطرة القويمة، وأنه أرسل إليهم الرسل، وأنه أنزل عليهم الكتب، وأنه أعطاهم العقول ليفكروا بها وليتدبروا طريقهم بها، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً﴾ [النحل:78].
فهكذا الإنسان، أول ما يخرج لا يعلم شيئاً، ثم يمنُّ الله تبارك وتعالى عليه، بالعلم؛ بالسمع والبصر والفؤاد، ثم يبين له طريق الخير من طريق الشر، فمن وفقَّه الله تبارك وتعالى للهدى فلا مضل له، ولكن من خذله الله وحُرِمَ توفيق الله تبارك وتعالى للاهتداء إلى الطريق القويم، وركنه الله إلى نفسه وعقله ورأيه وتدبيره، فقد خاب وهلك.
فمن لم يوفقه الله، تبارك وتعالى، لسلوك طريق الحق فإنه ضال لا محالة، مهما بدت أمامه الحجج، فمع أنه مولودٌ على الفطرة، وأمامه الحجج والآيات البينات، والآيات المقروءة في كتاب الله، والآيات المنظورة في صفحات الكون، والآيات المرئية أيضاً من آثار الغابرين السابقين، فكلها أمام عينيه، ولكن إذا خذله الله، ولم يوفقه، فإنه لا يؤمن ولا يعرف طريق الحق أبداً.
فإذاً كلنا ضُلّال إلا من هدى الله، فماذا ينبغي لنا أن نفعل؟! «فاستهدوني أهدكم»، فما علينا إلا أن نطلب الهداية من الله، تبارك وتعالى، آناء الليل وآناء النهار، ولهذا أُمر المؤمنون أن يقرءوا في كل ركعة من صلاتهم أم الكتاب، وفيها يقولون: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة:6 – 7].
فعباد الله المؤمنون المصلون، العابدون، يطلبون الهداية من الله تبارك وتعالى في كل يوم بعدد ركعات صلاتهم، فريضةً كانت أم نافلة، ويعلنون أنهم إن لم يهدهم الله تبارك وتعالى، فقد ضلوا إما ذات اليمين أو ذات الشمال، فكانوا:
إما مع المغضوب عليهم، وهم الذين رأوا الآيات البينات، وعرفوا الحق، ولكنهم لم يتبعوه.
وإما مع الضالين، وهم: الذين عبدوا الله تبارك وتعالى على جهل، فلم يتبعوا ما أنزل الله وما شرَع، بل عبدوه بالبدع، لا بما شرع.
فيقول تعالى: «كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم» فاطلبوا هدايتي، وادعوني أن أهديكم، والإجابة من الله تبارك وتعالى متحققة: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً﴾ [النساء:122]، ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً﴾ [النساء:87].
فإذا أقبل العبد على الله وطلبه الهداية ورجاه، فإن الله تبارك وتعالى يهديه ولا يخيبه، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت:69] فمن جاهد في الله يريد وجه الله ويريد معرفة الحق، أوصله الله تبارك وتعالى إليه.
ألا ترون إلى قصة سلمان الفارسي، رضي الله تعالى عنه، كيف أنه خرج يطلب الدين الحق، وكيف عَبَدَ الله بـ “المجوسية” مدةً من الزمن، ثم انتقل من راهبٍ إلى راهب، وهذا يسلّمه إلى ذاك، وهذا يحوّله إلى ذاك، حتى مَنَّ الله تبارك وتعالى عليه بلقاء المصطفى، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فآمن بالله، وجاهد في الله، وطلب الهداية وسعى من أجلها، فلم يمُت إلا وقد قرت عينه بالإيمان، ورأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت:69].
أعظم الافتقار
إذاً الافتقار الأول هو الافتقار إلى الهداية، وهو أشد أنواع الافتقار بالنسبة للمخلوق، فالعبد المخلوق أفقر ما يكون إلى هداية الله، ولذلك قدمت الهداية على الطعام وعلى الكساء.
وذلك لأن أهم الأمور للإنسان هو أن يهتدي الإنسان إلى الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ﴾ [الرحمن:1 – 3].
فامتنَّ الله تبارك وتعالى بتعليم القرآن قبل خلق الإنسان، مع أن الإنسان لن يستطيع قراءة القرآن إلا إذا خُلق، ولكن أعظم من كونه مخلوقاً أن يكون عالماً بالقرآن، عاملاً به، مهتدياً إلى ربه، وإلا فكم من مخلوق لا يعرف ربه ولا يعرف القرآن، فحياته نقمة عليه، لأنه والدواب سواء، قال تعالى: ﴿إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ﴾ [الفرقان:44]، فهم أضل من الأنعام.
فالهداية هي أحوج ما يبحث عنه الإنسان، وأشد ما يفتقر إليه، ولذلك فإنها قدمت في هذا الحديث، على ما سيلحقها بعد ذلك.
خاتمة
العدل هو العلاقة المطمئنة للعبيد نحو ربهم؛ فهو لا يظلمهم، ولم يظلمهم ولن يظلمهم؛ فهو يؤمّن عباده من أن يلحقهم ظلم من قِبله تعالى؛ وعليه فالعلاقة بين العباد وربهم علاقة مطمئنة وهم بين عدله وفضله يتقلبون.
والهداية أعظم المطالب فبها تم النعم ويتحقق الخلود ويفوز بالقُرب ورفيع الدرجات، فإن فقد الهداية تحولت النعم في حقه الى شقاء؛ فافتقاد الهداية شوقة، وسبب للشقوة الكبرى.
وقد عرّفنا تعالى الطريق الى الفوز بها، وهو طريق الضراعة اليه والسؤال منه؛ سبحانه.
………………………………
الهوامش:
- رواه مسلم.
- الخلاف معروف في الحديث القدسي هل هو كلام الله عز وجل لفظا ومعنى أم أن معناه من الله تعالى ولفظه من الرسول الملكي أو الرسول البشري والراجح والله أعلم أنه كلام الله عز وجل لفظا ومعنى لكن ليس له خصائص القرآن.
المصدر:
- محاضرة مفرغة للدكتور/ سفر الحوالي بتصرف يسير، المكتبة الشاملة.