ما بين إلغاء الهوية، وإيجاد مصالح ضيقة على حساب العقيدة، وبروز قيم محدَثة مناقضة لقيم الاسلام، وبروز حدود دموية وخلق عداءات مع المسلمين وولاء الكافرين تعاني الأمة اليوم.
مقدمة
في المقالين السابقين؛ “الوطنية .. طاغوت العصر“ تبين معنى المصطلح وخطورته وشأته الغربية الوثنية، وفي مقال “الآثار المترتبة على طاغوت الوطنية“ تبين بعض الآثار لهذا الانحراف الخطير من انقلاب الموازين وبروز مصطلحات تعبر عن معانٍ مناقضة لدين الله تعالى.
ومع التجربة “الوطنية” بانحراف مفاهيمها وإشراف الغرب “الكافر” عليها برزت نتائج تعيشها الأمة اليوم، وفي هذا المقال والذي يليه بيان لأبرز هذه النتائج الخطيرة.
النتائج المدمرة لمشروع الدولة الوطنية
إلغاء الهوية الإسلامية، والتاريخ الحقيقي للأمة
بالنسبة لنا .. معشر المسلمين مشروع “الدولة الوطنية” يتعلق بأمةٍ كانت أمةً واحدة “وليست موحدة”. ذات دين واحد وكتاب واحد! ولغة واحدة! وتاريخ واحد.. كيف أمكن “تمرير” هذه الفكرة “الأَثِنية اليونانية” علينا؟ وهي تتعارض بشكل صارخ مع تاريخنا وجغرافيتنا، ومبادئنا وقيمنا..!؟ بل وكل ثوابتنا، وكل ما هو معلوم بالضرورة في ديننا؟
كما المفهوم اليوناني الإغريقي لـ “مشروع الدولة الوطنية” لا يقف عند مرحلة إلغاء الديني! بل إلى إلغاء “القبيلة” بتراثها وغناها، وأعرافها وعاداتها وتقاليدها وروابطها والانتماء إليها.
الوطنية تُصوِّر كل ذلك على أنه من مفاهيم الماضي، وعناوين التخلف ..!
[للمزيد: هويّة الأمة الإسلامية]
ظهور مصالح مادية قائمة على حدود جغرافية
الحقيقة إن المفهوم الحقيقي لـ “الدولة الوطنية” يشكّل معضلة حقيقية أمام ثوابتنا الإسلامية، وفي حياتنا العمَلية، وعلى كل المستويات: الشرعية، والشخصية، والاقتصادية والمالية، والاجتماعية، والفكرية، والثقافية.. الخ.
فأعظم أهداف الدولة “الوطنية” لا يتعدى العمل على خدمة “المواطنين” وتوفير المآكل والملابس وتحقيق الأمن! والراحة والرفاهية و”السعادة” لهم!! مقابل قبولهم بحكم السياسيين لهم، دون النظر إلى متطلبات العقيدة، ولوازم الإيمان! التي آمنوا بها وتوارثوها وتناقلوها في تاريخهم كله!
مواليد جُدد؛ بانتماءٍ جديد، وهُوية ملتبسة
إنّ “الروم” عندما قاموا بتسمية المواليد الجدد: “الدول الوطنية” التي استولدوها سفاحاً من جسد الخلافة العثمانية “بعملياتهم القيصرية”، وأطلقوا عليها كثير الأسماء المتعارف عليها اليوم.
ربطوها دوماً بكلمة “العربية” ليدقوا إسفيناً مبكراً بينهم وبين الشعوب الإسلامية الأخرى؛ إذ ظهرت ـ من العدم ـ دولٌ جديدة ليس لها وجود في التاريخ، ولا تاريخ لها بهذا المسمى..!
ظهرت دول جديدة بعضها لا يملك المقومات الجغرافية ولا التاريخية، ولا البشرية أو الاقتصادية لمسمى الدولة وفق المعايير الدولية “الرومية” الغربية نفسها!
قيم محْدَثة، وتاريخ جديد
كانت فرحة الشعوب العربية والإسلامية باستقلالها غامرة، وشغفها بحريتها “الوطنية” مُسكِرة!!
فرحت الشعوب باستقلالها وبدُولها “الوطنية” التي قامت على أنقاض الاستعمار المباشر البغيض وجعلت من يوم استقلالها مناسبة “وطنية” مقدَّسة! وعيداً تفتخر به، وتحترمه وتجلّه.
وأصبح يوم الاستقلال “الوطني” هو “العيد الحقيقي الوطني الكبير..!” هو اليوم الذي يثبت ذاتها، ويُحقق وجودها، ويُظهر شخصيتها، ويميزها عن غيرها من الأمم!
ثم هناك أيام أُخَر! فـ “يوم “وطني” لمكافحة الأمية ـ مثلاً ـ ويوم “وطني” لمكافحة المخدرات، وثالث لرعاية الأيتام، ورابع لغرس الأشجار، وخامس، وسادس، وغيرها من الأيام والأفكار والقيم المحدثة الجديدة الغريبة على الأمة وتاريخها..! فضلاً عن مناقضتها للدين.
تكوّن حواجز حقيقية وحدود دموية
لم تَعُد “الحدود” الجغرافية في كل المناطق العربية الواحدة كما كانت من قبل أبداً.. لم تعد مجرد خطوط وهمية على الخرائط؛ للتعرف على الأماكن والمواقع، أو لمعرفة مواقع أحداث مجيدة مضت أو تاريخٍ سابق..! لقد أصبحت خطوط “الرمال” التي خطها “سازانوف ـ سايكس ـ بيكو” حدوداً دمويةً، وحواجز حقيقية بين أفراد القبيلة الواحدة، والمكان الواحد، والأمة الواحدة، والدين الواحد، والكتاب الواحد، واللغة الواحدة! والتاريخ الواحد .. والجغرافيا الواحدة.
أصبحت واقعاً يظهر في حدودٍ برّية، وأسلاك شائكة، وحراسات عسكرية بالجيوش والأسلحة و”الكاميرات”. وفي حدود جوية محمية بالطائرات والرادارات. وحدود بحرية في مياه الأنهر والبحار الإقليمية المحروسة بالسفن الحربية والطرّادات.
أعداء أحبّـاء وإخوة ألِدّاء..!!
أصبحت “الحدود التي حدّها الغرب “لدُولِه الوطنية” بمشروع “سازانوف ـ سايكس ـ بيكو” تحتل المرتبة الأولى في سُلّم أولويات الأمن والسلامة، والسعادة، والذبّ عنها وحمايتها؛ يمثلان ذروة الشرف وأعلى درجات المجد!
لم تَعُد ـ مثلاً ـ بريطانيا أو فرنسا أو أمريكا عدواً “محتملاً”؛ بل لم يعد “الروم” كلهم كذلك..! لأنهم ليسوا جيراناً، ولأنهم لا يقعون على “الحدود” الوطنية؛ فهم لا يهددونها!
أما (الإخوة، والجيران) شركاء الدم والقرابة، واللغة، والدين، والتاريخ والجغرافيا فقد أصبحوا هم العدو الأول “المحتمل!”.. هم الخطر الأعظم! لوقوعهم على الحدود الوطنية المقدسة ولاحتمال تجاوزهم أو اعتدائهم عليها!
لذا فحراسة الحدود الوطنية من خطرهم هي أول الأولويات وأهم الواجبات..!
واختفى تبعاً لذلك ركن “الجهاد” وزال ما كان يسمى بـ “الرباط”، واختفت شعيرة المرابطة على الثغور أمام “الأعداء” الحقيقيين “الروم والفرنجة” في الشام وفي أرض الكنانة وشمال أفريقية (على سبيل المثال)..! والتي كانت على مرّ التاريخ الإسلامي السدّ الحصين للأمة من الاختراق.
“وطنيّة” تُجمِّع، وإسـلام يُفرِّق..؟!
لقد غيرت “الوطنية” كل القيم والمعايير والولاءات والانتماءات لأول مرة في التاريخ الإسلامي تغيرت كما لم تتغير من قبل أبداً؛ فأصبح هناك داخل السياج وخارجه؛ المُواطِن .. والأجنبي!
وأصبح لسان حالهم ومقالهم يقول: الدين بين الإنسان وربه؛ أما الوطن فهو للجميع..!
وأما الدين عندما يهيمن فهو يفرّق بين المواطنين؛ ويدعو للتعصب؛ ويستدعي تاريخ المذاهب والفِرَق، ويستحضر عداوات قديمة وأحقاد دفينة، ويحثّ على التنازع بين أفراد الوطن الواحد!
أما “المواطنة” فما أروعها! .. فهي تُجمّع ولا تُفرّق، توحِّد ولا تمزِّق، وتدعو للتآلف بين أبناء الدولة الواحدة والوطن الواحد؛ بغضّ النظر عن الأمور “التاريخية!” التي عفي عليها الزمن!
الدين يشيع الكراهية ولا يعترف بالآخر..!! وربما يُجيز قتله..!
أما الوطنية فهي تشيع المحبة، وتعترف بالآخر، وتحترم المخالف في رأيه وفكره، وثقافته.
في “جنة” الوطنية يجوز الاختلاف في الدين، ويجوز الاختلاف في المذهب والطائفة والملّة؛ بل وليتخذ كل إنسان لنفسه من الآلهة ما شـاء..! فهي لم تضيّق واسعاً كما تفعل الأديان..!
بينما الدين يجترّ العداوات القديمة، وينشر البغض والشحناء، وقد يسبّب الحروب بين أبناء “الوطن” الواحد؛ فضلاً عن الآخرين! أما “الوطنية” فهي تعمل للسّلم؛ وعلى تجنب الحروب!
في “الدولة الوطنية” يجوز الخلاف على الدين، أو في الدين؛ فالدين لله .. وأما الوطن فهو للجميع..!
أما الخلاف في “الوطنية أو عليها! فلا يجوز لأحد، ولا يُعذر بالجهل بحقوقها أحد..!
على شرط المواطنة يكون الإخاء؛ ولها يكون الولاء، وإليها يتجه الانتماء؛ هي المبدأ والمعاد هي المرجع والمنتهى، ويؤوب إليها كل تفرُّق وخلاف؛ ففيها تذوب فيها كل الثوابت الدينية.
أمّا الكفر بها: فهو أعلى جُرمٍ في تصنيف الخيانات في الدول “الوطنية”..! هكذا يُصورون الأمور!!
الحرمان الشريفان .. ومكة والمدينة
هل “الحرمان الشريفان” “وطنيان” أم “إسلاميان”؟
وهل إدارتهما والتصرف بشئونهما و”حقوق” الحج والعمرة خاضعة للحقوق الوطنية أم للدين..؟
“مكة المكرمة” من حيث المواصلات والنظافة والشوارع والنواحي العمرانية والتنظيمية .. وغيرها.
لمصلحة من تقزيم “الكعبة” المشرفة بالعمائر الشاهقة المقرفة التي تصرخ بتغوّل الرأسمالية؟ كل تلك الأخطاء، وغيرها كثير وكثير سُكت عنها أو قُبلت وأُحلّت .. باسم الوطنية!
“أثِينا” .. حاضرة في كل شيء!
أصبح العالم العربي والإسلامي بعد انخراطه في مشروع “الدولة الوطنية” يرزح تحت “ظلمات خمس”! أو تحيط به “خمسة” دوائر من الأنظمة الإغريقية الوثنية:
مفهوم “الوطنية” المرتبط بالأرض “السياج، والكـلأ، والمرعى”.. الدساتير أو التشريعات “البشرية” الخالصة أو المختلطة.. أنظمة الحكم الملكية العضوضة، أو الجمهوريات الملكية، أو العسكرية.. الخ.
آليات الديموقراطية أو الديكتاتورية، أو قوانين الطوارئ.. الخ.. منظومة “الأمم المتحدة”، بأنظمتها، وهيئاتها، وقراراتها الملزمة.
فلا تسَل بعد كل ذلك عن ثوابت تاريخية، ولا تشريعات إسلامية، ولا أخوة، ولا جيرة.
خاتمة
لا ينكِر الاسلام الشعور الفطري للوطن، لكنه لا يسلّم الانسان للتمادي مع هذا الشعور فيتنازل عما يميزه من عقيدة ودين.
والاسلام يجمع الأمة من مشارق الأرض الى مغاربها، ولا يفرق؛ بينما تقوم “الوطنية المزعومة” بالتفريق بين الأمة بحسب حدود الأرض أو شعوبها أو لغاتها.
وفي داخل الوطن الواحد، يعطي الاسلام لغير المسلمين من الأدوار ما يمنع أن يعيشوا منعزلين، لكنه لا يسلّم الوطن لغير المسلمين يعبثون به.
يشقى الناس بعيدا عن هذا الدين، سواء ابتعدوا في الجانب السياسي أو الأخلاقي، لأن الواجب أن يتلقّى المسلمون في الجوانب العامة والخاصة عن ربهم تعالى.