مفاتيح التعامل مع القرآن، لا بدّ من الوقوف عليها ومعرفتها، واستخدامها في استخراج كنوز القرآن المذخورة فيه .. لقد حرصنا أن نضع هذه المفاتيح بين يدى أهل القرآن وجنوده وحملته، ليتعرفوا عليها، ويقفوا عليها، ويستخدموها في صلتهم بالقرآن، وتعاملهم معه، وأخذهم عنه، واستخراجهم لكنوزه ..

– النظرة الكلية الشاملة للقرآن

القرآن كتاب شامل، ومنهاج حياة متكامل، وله مهمة واقعية مطردة، وطبيعة حركية حية، ورسالة حضارية عاملة، ووجود وتأثير مستمرين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ..

وعلى القارئ الذي يريد أن يحسن التعامل مع القرآن، والتلقي عنه، والتأثر به، أن يحسن نظرته له أولا، فإن الزاوية التي ينظر منها، والمنظار الذى ينظر من خلاله، والصورة التي يرسمها له، والمهمة التي يتوقعها له، إن لهذه الأمور كلها ارتباطا مباشرا في كيفية التعامل مع القرآن ..

النظرات الجزئية الناقصة للقرآن الكريم تعطله عن دوره ومهمته

بعض الناظرين إلى القرآن والمتعاملين معه والقارئين له ينظر له نظرات جزئية فرعية هامشية ثانوية .. فهو كتاب للشفاء والتعاويذ والرقى عند بعضهم، وهو كتاب شامل للعلوم والمعارف والثقافات عند آخرين، وهو كتاب تضمن أرقى أساليب البيان والبلاغة والفن عند فريق ثالث، وهو كتاب حوى من أخبار الماضين وقصص السابقين وأحوال العالمين، وهو كتاب للفقه والأحكام، واللغة والآداب، والفكر والخيال .. وهو كتاب مبارك للبركة والتيمن، وبعد هذا كله مجال للأجر والثواب، حيث لقارئه عشر حسنات بكل حرف من حروفه .. إلخ.

ونحن لا ننكر وجود هذا كله في القرآن، وشموله له، وإشارته إليه، ولا يجوز لنا أن نفرغه من هذه الأمور .. لكن توفر هذه الأشياء فيه شيء، وأن نقصر نظرتنا له عليها فقط شيء آخر .. إننا لو فعلنا ذلك فسنفرغه من محتواه، ونعطله عن دوره ومهمته، ونقع في خطأ النظرات الجزئية الناقصة.

وبعض الباحثين في القرآن يقسمه إلى موضوعات، ويبحث عن مفرداته وعباراته، وإشاراته إلى كل موضوع منها، فهذا يبحث عن قصص القرآن، والآخر عن غيوبه، والثالث عن علومه، أو عن تشريعاته أو إشاراته إلى التاريخ أو علم النفس أو الإدارة أو الثقافة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو غير ذلك، ومنهم من يبحث في مصطلحاته ومفرداته كالصبر والصلاة والتقوى والخلافة والدعاء والحكم والجهاد .. وغير ذلك، ومنهم من يحاول تصنيف سوره وآياته وفهرستها وبيان ما تضمنته من موضوعات وعلوم ومعارف ..

وهذه جهود طيبة خيرة، وأصحابها مثابون إن شاء الله- على حسب نياتهم فيها- لكنها لن تكون كاملة متكاملة شاملة، ولن تلم بالموضوع من كافة أطرافه أو تحيط به من كل جوانبه، حيث سيفوت أصحابها الكثير من اللمحات والإشارات واللفتات القرآنية للموضوع الذى يبحث أحدهم فيه .. وإلقاء نظرة فاحصة على نتاج هؤلاء في هذا المجال كافية للخروج بهذه الحقيقة .. ولا يفهم من كلامنا إلغاء العمل والبحث في هذه الموضوعات، وعدم جدوى أو صواب أو صحة ذلك، وإعدام تلك الكتب والأبحاث والدراسات!!! فهذا لا بد منه، ولكن نحب أن تكون عند هؤلاء الباحثين وعند القارئين لنتاجهم ودراساتهم هذه الحقيقة، وهى أن القرآن الكريم عملاق ضخم، عملاق في طبيعته، وفي مهمته، وفي رسالته، وفي إعجازه، وفي علومه وموضوعاته، وفي مناهجه ونظمه وتشريعاته، وفي كل ما حواه وأشار إليه .. عملاق ضخم تستحيل تجزئته، ويصعب تقسيمه.

النظرة الكلية الشاملة للقرآن هي المفتاح الأول للتعامل معه، وهى المنطلق الأساسي لفهمه وتدبره والتلقي عنه، وسيجد فيه هذا الناظر البصير ما يبحث عنه الآخرون من موضوعات وأمور جزئية جانبية، يجدها في أثناء التعامل معه، فتكون نظرات ثانوية مكملة لهذه النظرة، ومتممة لها، تزيدها مكاسب وعلوما ومعارف ..

وعلى القارئ للقرآن الذى يريد النظرة الكلية الشاملة له، أن ينظر في الآيات التي تعرض صفاته وسماته، والتي تشير إلى طبيعته ورسالته ومهمته، ثم يلتفت إلى نظرة الصحابة له- نظرة كلية شاملة- ليعرف كيف يتعامل معه ويعي عنه.

– الالتفات إلى الأهداف الأساسية للقرآن

ومما يرتبط بنظرة القارئ للقرآن نظرة كلية شاملة، التفاته إلى الأهداف الأساسية للقرآن، فإن دقة وصوابية النظرة- كما بيناها في المفتاح الأول- تقود إلى حسن التعامل مع القرآن وفهمه وتدبره، وتطلع القارئ على أغراض القرآن الأساسية وأهدافه الرئيسية ومقاصده العامة .. وإذا ما التفت القارئ إلى هذه الأهداف فإنه سيسعى إلى تحقيقها فيه وفي من حوله ..

ويخطئ كثير من المسلمين في تسجيل أغراض القرآن وأهدافه، حيث يسجلون له أغراضا وأهدافا ثانوية فرعية، أو لا يريدها القرآن ولا يهدف لها بحال ..

نزل القرآن للأموات وليس للأحياء عند بعضهم، فلا يلتفتون إليه إلّا عند ما يموت الميت، فتصدح أجهزة التسجيل في البيوت بالقرآن لعدة أيام، ويحضر القراء إلى البيوت والمقابر في مناسبات الموت وذكريات الموتى، وتوقف الإذاعة إرسالها العادي وتقصره على بث القرآن عند موت زعيم أو حاكم .. أما أن يتعامل الأحياء مع القرآن، ويبحثوا عن أغراضه وأهدافه ليحققوها فيهم وفي مجتمعاتهم، فهذا ما لم يفكر فيه هؤلاء.

ونزل القرآن عند بعضهم للبركة، حيث يحولونه إلى حجب وتمائم ورقى يضعونها على الأجساد أو البيوت أو السيارات، استحضارا للبركة ودفعا للضرر، ويفتتح هؤلاء كلماتهم ومؤتمراتهم ولقاءاتهم وجلساتهم واحتفالاتهم وإذاعاتهم بآيات من القرآن، من باب التيمن والتبرك، وتعطير الأجواء بذكره، أو من باب العرف والعادة واستغفال الشعب ودغدغة عاطفته الدينية، وإيهامه أنهم مع القرآن ومن جنوده وخاصته وأهله ..

ولكنهم لا يريدون أن يفتحوا للقرآن نفوسهم ومشاعرهم وقلوبهم وكيانهم ليحييهم بما فيه من حياة، ولا يريدون أن يفتحوا له مؤسساتهم ومناهجهم ووزاراتهم وتشريعاتهم لتتحول إلى هدى ورحمة وعدل .. ولا يريدون أن يفتحوا له مجتمعاتهم وشعوبهم لتتحول إلى رسل خير ودعاة إصلاح، وسادة وأساتذة لبني الإنسان ..

فما هي الأهداف الأساسية للقرآن، حتى نقف عليها في كل آياته وسوره، وحتى ندع لهذا القرآن الفرصة ليحققها فينا وفي مجتمعاتنا وفي واقعنا وحياتنا.

أهداف القرآن الأساسية

أولا: الهداية الشاملة للفرد والأمة والإنسانية

الهداية إلى الله سبحانه وتعالى، الهداية الرشيدة الأصيلة الهادفة القاصدة الواصلة، الهداية الشاملة للفرد بكل كيانه ومشاعره وأحاسيسه وجوانب حياته، والهداية الشاملة للأمة بكل أفرادها ومرافقها ومجالاتها وحياتها، والهداية الشاملة للإنسانية كلها إلى ربها سبحانه وتعالى.

قال تعالى: (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء: 9]، فالهداية في الآية عامة شاملة، والحياة القيمة التي يدعو إليها كذلك عامة شاملة.

وقال تعالى: (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى: 52]، فالقرآن روح ولن يهدى إلّا ذو روح، والقرآن نور والله هو الذي يهدي بهذا الروح، ويهدي بهذا النور، وهو الذى كلف رسوله عليه الصلاة والسلام ليهدي بهذا القرآن إلى صراط الله المستقيم، وهو الذى كلف كل مؤمن مهتد بهذا الهدى القرآني أن ينتقل إلى الآخرين ليهديهم إلى ما اهتدى هو إليه ..

وقال تعالى: (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [المائدة: 15 – 16].

ثانيا: إيجاد الشخصية الإسلامية المتكاملة المتوازنة

يكاد يوجدها من العدم، ويلتقطها من الواقع الجاهلي الآسن، الذي تضيع فيه النفوس وتفنى فيه العقول وتعطل فيه المدارك والحواس والمذاهب .. يلتقطها من هناك ثم يبدأ معها بسهولة ويسر وتأن وتدرج وملاحظة وتعهد .. يغرس الإيمان في هذه النفس، ويضيء لها جوانب حياتها بالنور الهادي، وينمي لها الخير والصلاح فيها، ويوظف لها ما وهبها الله من قدرات ومواهب وطاقات توظيفا نافعا خيرا، ليحقق الهدف والغاية، ويمدها بالوسائل والمناهج التي تعينها على رسالتها وتساعدها على الاستمرار في أدائها، ويضع في يديها من القواعد والأسس ما يمكنها من العطاء والإبداع ..

وقد نجح القرآن نجاحا بارزا في تحقيق هذا الهدف في حياة الصحابة الكرام، الذين كان الواحد منهم قرآنيا، يعيش بالقرآن وفيه وله، كما أنتج في العصور اللاحقة رجالا قرآنيين في صفاتهم الإسلامية القرآنية .. والنماذج المعاصرة من هؤلاء الرجال موجودة وافرة تتوزع رقعة شاسعة من عالمنا المعاصر .. وما زال القرآن جاهزا وقادرا بإذن الله على العطاء والإخراج، ومستعدا لأداء هذا الهدف وتحقيق هذا الغرض، بشرط أن يلحظ القارئ فيه هذا، وأن يلتفت إليه، وأن يحسن التعامل معه والتلقي عنه، وأن يتجاوب معه في الإيجاد والتنشئة والتربية ..

وصدق الله العظيم القائل: (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ) .. [الأنعام: 122].

فالناس بدون القرآن أموات في قلوبهم وحواسهم ومشاعرهم وحياتهم (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) [فاطر:19 – 22].

فالقرآن لا يدركه إلّا الحي ولا يتفاعل معه إلّا الحي (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) [يس:69 – 70].

ثالثا: إيجاد المجتمع الإسلامي القرآني الأصيل

وهو المجتمع المكون من الأفراد القرآنيين- الذين أنشأهم القرآن- بناء هذا المجتمع على منهج القرآن وأسسه ومبادئه وتوجيهاته، وإرساء أسس هذا المجتمع ومناهج حياته، وتزويده بكل ما يحتاجه من هذا كله .. وعندما ينبثق المجتمع من نصوص القرآن، ويعيش في ظلال القرآن، وينمو في جو القرآن، ويتقلب في أنوار القرآن، يكون مجتمعا حيا حياة عزيزة كريمة حرة سعيدة، وإلّا فهو مجتمع ميت يجتر آلامه ومآسيه، ويتجرع ذله وجبنه وهوانه كل لحظة ..

لقد أوجد القرآن مجتمع الصحابة الأول- المجتمع القرآني الرائد الفريد- وهو قادر على إيجاد المجتمعات وبنائها وتعاهدها إذا صدقت في الإقبال عليه والتفاعل معه والحياة به ..

قال الله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) [الأنفال: 24]، فالقرآن هو دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، وهو دعوة إلى الحياة اللائقة ببني الإنسان، الحياة القرآنية في كافة مجالاتها وجوانبها ومظاهرها .. ومن رفض هذه الدعوة فقد رفض الحياة، وحكم على نفسه بالموت، الموت المعنوي الذي لا يشابه الموت المادي المحسوس. قال تعالى: (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) [الأنعام: 36]، وقال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) [النساء: 174 – 175].

هذا وتستعمل الحياة- في الأسلوب القرآني- على أوجه ستة، ذكرها الإمام الراغب في مفرداته، وأورد الأدلة عليها والنماذج لها من آيات القرآن الكريم.

الأول: القوة النامية الموجودة في النبات والحيوان: (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) [الأنبياء: 30].

الثاني: القوة الحساسة، وبه سمي الحيوان حيوانا: (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) [فاطر: 22].

الثالث: القوة العاملة العاقلة: (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً) [الأنعام: 122].

الرابع: ارتفاع الغم، وعليه يحمل قوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل: 97].

الخامس: الحياة الأخروية الأبدية، وذلك يتوصل إليه بالحياة التي هي العقل والعلم، قال تعالى: (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى * يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر: 23 – 24].

السادس: الحياة التي يوصف بها البارئ سبحانه، فهو حي معناه لا يصح عليه الموت. قال تعالى: (هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [غافر: 65].

رابعا: قيادة الأمة المسلمة في معركتها اللازمة مع الجاهلية من حولها، مع أعدائها المتربصين بها، الذين لا يرقبون فيها إلّا ولا ذمة، ولا يتركون في حربها أسلوبا ولا وسيلة ..

فالقرآن يأخذ بيد هذه الأمة إلى ميدان المعركة، ويوقفها فيه، ويمدها بوسائل النصر وأسلحة القتال وأساليب الجهاد، ويعرفها على سبب شن الأعداء الحرب عليها، وعلى هدفهم من حربها، وعلى اجتماعهم على قتالها، وعلى استخدامهم كل ما يقدرون عليه لإفنائها، وعلى شخصياتهم ونفسياتهم، وعلى أساليبهم ومكائدهم، وعلى مكرهم ومراوغتهم، وعلى شبهاتهم ودعاياتهم، وعلى أسلحتهم وأدواتهم .. ويضع أيديها على عدة النصر وزاد الطريق وقوة المواجهة، بحيث يربطها بحبل ربها ويوثق صلتها بإسلامها .. فتخرج من معركتها المفروضة عليها- بقيادة القرآن وتوجيهاته وهدايته- منتصرة عزيزة حرة كريمة .. وهذا ما فعله القرآن مع الصحابة الكرام في جهادهم، وهذا ما فعله مع المسلمين عندما أقبلوا وسعوا إلى تحقيق هذا الهدف.

وهو ما زال مستعدا وجاهزا وقادرا بعون الله، فأين المجاهدون المقبلون عليه؟ الحاملون له؟ المتحركون به؟ المواجهون للأعداء من خلاله وعلى هديه؟؟

قال تعالى: (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) [الفرقان: 52].

وهذا توجيه رباني للرسول عليه الصلاة والسلام، وللأمة من بعده، أن تجعل القرآن الكريم أداة ووسيلة تستعين بها في جهاد الكفار، وتعتبره السلاح الأول والأساسي والفعال في هذا الجهاد ..

وأن مما يدمي القلب في هذا الزمان أن يقبل أناس من المترئسين والمتنفذين والمتزعمين للأمة على أعداء الإسلام والقرآن، وأن يستعينوا بهم في جهاد القرآن ومقاومته، وأن يجاهدوا القرآن بهؤلاء، وأن يتحالفوا معهم في طمس هدايته وإطفاء نوره والقضاء عليه .. ولكن هؤلاء جميعا نسوا أنهم يحاربون الله سبحانه، ومصير كل من حارب الله معروف في التاريخ، وصدق الله: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف: 8 – 9].

– ملاحظة المهمة العملية الحركية للقرآن

على القارئ البصير للقرآن أن يلحظ ويلاحظ المهمة العملية الحركية للقرآن، ويقوده إلى هذه الملاحظة المفتاحان السابقان «النظرة الكلية الشاملة» و «الالتفات إلى الأغراض الأساسية» فعند ما يحسن استعمال ذينك المفتاحين فسيتعرف على مهمة هذا القرآن ورسالته، وهى عملية حركية واقعية ..

إن أوضح سمة من سمات القرآن هي «الواقعية الحركية» وهي مفتاح التعامل مع هذا القرآن وإدراك مراميه وأغراضه، وفقهه وفهمه وتدبره- كما يقول الشهيد سيد قطب – وهذه الواقعية الحركية هي التي تحدد «المهمة العملية الحركية» للقرآن الكريم، وتوضح رسالته الجدية الواقعية في الحياة ..

لقد وصف الله كتابه وصفا عجيبا، يدل دلالة واضحة على مهمته العملية، الحركية، حيث أخبرنا عن كتابه بأنه حكيم! فقال: (يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [يس: 1 – 2]، وقال: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الزخرف: 4]، والحكمة من صفات العقلاء، ولهذا القرآن صفات العقلاء، إنه علي حكيم، يربي بحكمة، ويتصرف بحكمة، ويقود الأمة بحكمة، ويؤدي مهمته ورسالته بحكمة ..

بهذه الحكمة القرآنية عمل القرآن ما عمل في حياة الصحابة، وبهذه المهمة العملية الحركية أخرج الصحابة إخراجا من العدم إلى القيادة، ومن الموت إلى الحياة، وبهذه السمة «الواقعية الحركية» كان القرآن حاضرا هناك وعاملا حيا، وموجها رائدا .. أدرك الصحابة الكرام- الجيل القرآني الفريد- هذه السمة، والتفتوا إلى هذه الحكمة، ولاحظوا هذه المهمة، فصنعوا الأعاجيب في حياة البشرية ..

ولا بد أن نلاحظ نحن هذه المهمة القرآنية في حياتنا وواقعنا، وأن نتفاعل مع الحكمة القرآنية، وأن نتدبر الواقعية الحركية فيه، حتى نحسن الأخذ عنه والحركة به ..

وحتى ننجح بهذا لا بدّ من ردم الحاجز السميك بين قلوبنا وبين القرآن، وإزالة الفجوة العميقة بيننا وبين القرآن، وتطهير القلوب مما علق بها من غشاوات وأكنة وتلبيسات وشهوات، حالت بينها وبين أنوار القرآن .. لا بدّ أن نخطو نحن نحو القرآن، وأن ندخل في عالمه الرحيب، ندخل فيه بكامل كياننا الإنساني، ونتلقى عنه بكافة أجهزة التلقي والاستجابة فينا، ونقف منه على مهمته العملية الحركية الواقعية، ونلحظها في كل سوره وآياته وعندها سنرى القرآن حيا فاعلا، وحكيما موجها، وقائدا مربيا، وسيخرجنا بإذن الله إخراجا مباركا، وينشئنا تنشئة رائدة، ويوصلنا إلى مركز القيادة والريادة والأستاذية للإنسانية.

كل آيات القرآن توحي بمهمته العملية الحركية، وتشير إلى واقعيته الحركية الجدية، وتنبض بمظاهر الحياة والحيوية فيه .. من ذلك قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران: 110].

فالأمة الإسلامية أخرجت للناس إخراجا من العدم، انبثقت من بين نصوص القرآن، وولدت ميلادا جديدا في محضن القرآن، ونمت وترعرعت وعاشت في ظلال القرآن .. وبهذا كانت خير أمة، ومن هي الأمة التي تقاربها في هذه الخيرية فضلا عن أن تساويها أو تتفوق عليها؟؟ وهل المسلمون اليوم يتمتعون بهذه الخيرية؟ ويؤدون هذه الوظيفة، ويسبقون العالم إلى الرّيادة والقيادة؟ الجواب معروف، والسر هو في نظرتها للقرآن، وتعاملها معه، وصلتها به ..

كم سيربح القارئ للقرآن ويستفيد، وما هي الحصيلة الوافرة الثرية من المعلومات والتوجيهات والحقائق والإيحاءات التي سيخرج بها عندما يقرأ نصوصا للقرآن، وهو يستخدم هذا المفتاح «المهمة العملية الحركية للقرآن»، وهو يدرك هذه السمة «الواقعية الحركية للقرآن»! ندعوه إلى أن يقرأ هذه الآيات- على سبيل المثال- بهذا الاعتبار:

(وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة: 120].

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:137 – 138].

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [المائدة: 105].

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ * وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ * أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [الأنعام: 112 – 117].

المصدر

كتاب: “مفاتيح للتعامل مع القرآن”، د صلاح عبد الفتاح الخالدي: ص71-87.

اقرأ أيضا

أمور تعين على تدبر القرآن وتفهمه

تأمل .. كيف انبهروا بالقرآن !

علاج القرآن .. لمرض “افتقاد الصدق”

 

التعليقات غير متاحة