أمر الله تعالى في كتابه بالاجتماع، وخشي صلى الله عليه وسلم على أمته من الحالقة؛ فساد ذات البين، وحرم الافتراق بكل صوره وعالج أسبابه.. للحفاظ على الأمة.

واعتصموا بحبل الله جميعا

للمسلمين قوتان إذا توفرتا كانوا بأقوى حالاتهم، وإذا اختلت إحداها كانوا بأضعف الأحوال، وهُددوا تهديدا جذريا.. قوة الالتزام وقوة الاجتماع.

قوة الالتزام

بعقيدة التوحيد وتحقيقها وإقامة مقتضياتها.. وعدم نقض قوة الالتزام، والتي ينقضها الشرك أو الابتداع في أصول عظام من الدين كبدعة الخوارج والروافض، وما هو أفحش كبدعة القرامطة والباطنية والنصيرية وما جرى مجراهم..

قوة الاجتماع

وعدم التفرق أو التمزق فيضيع وجودهم ويصيروا شتاتا.

التفرق ضعف.. وضعف التفرق مؤذن بوجود البدع العظام وتمكنها وفساد قلوب الناس مع أحوالهم.

والعصمة من هذا بالتزام الكتاب والتزام السنة.. والتزام وحدة الكلمة وتآلف القلوب وتجنب التنازع شيعا..

إنه نص كتاب الله ﴿وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ [الأنفال: 46] وهو عبرة التاريخ، منذ قرون الإسلام الأولى الى اللحظات الآنية اليوم..

[للمزيد: قيمة الاسلام كهوية جامعة للأمة]

مشاهد مختارة لأثر الاجتماع وأثر مخالفته

وهذه مشاهد مختارة من نصوص التاريخ المتكاثرة.. للنظر وللعبرة أنه حيث كان محل التفرق ضاعت الأمة وتمزقت وتسلط عليها العدو وسرت فيها البدع وساد عليها سفهاء الخلق وأراذل الناس، وأساءت أحوالهم كلَ مسلم..

وحيث كان الاجتماع والالتزام كان تحقيق المنهج وازدهار الحياة واستقرار الأمة وقيامها بدورها الحضاري وإعطاء النموذج التطبيقي للمنهج الرباني في الواقع البشري ودعوة الناس اليه، وهي وظيفة وجود هذه الأمة الكريمة.. أعزها الله وأعاد تمكينها لخير البشرية.

لقد وصل الأمر ببعض الملوك أن قسم مملكته بين أولاده، كانوا أحد عشر ولدا، فقسمها كإرث بينهم، مما مهد الأوضاع للاجتياح الصليبي والتتري للمنطقة..

ولهذا عندما ترى اجتياح بلاد المسلمن من قِبل القوى المعادية للمسلمين؛ فاعلم أنه قد سبق ذلك ووطّأ له تفريط ومخالفات شرعية جسيمة مهدت للعدو أن يغرز في المسلمين خنجره..

فما تقرؤه في التاريخ من اجتياح تتري أو صليبي؛ لا تظن أنه البداية، بل كان نتيجة لتفريط سابق ومخالفة لسنن الله تعالى الشرعية والقدرية، وما من حال يعتصم فيها الناس بدين الله مجتمعين، وأقاموا أمر الله تعالى؛ إلا تنزل عليهم النصر وكانت لهم من الله تعالى العزة والمنعة والنصرة.

وانظر في هذه النصوص كأمثلة قليلة منذ القرون المتقدمة في عهد العباسيين في المائة الثالثة وما تلاها..
وانظر الى العبرة من وراء ذلك..

[اضغط للمزيد: كيف نتعامل مع الخلافات وأين نضع الخلاف في سياقه]

تغلبٌ في العصر العباسي

جاء في تاريخ الخلفاء:

وفي سنة أربع وعشرين تغلّب محمد بن رائق أمير واسط ونواحيها وحكم على البلاد، وبطل أمر الوزارة والدواوين وتولى هو الجميع وكتابه، وصارت الأموال تحمل إليه وبطلت بيوت المال وبقي الراضي معه صورة وليس من الخلافة إلا الاسم.

وفي سنة خمس وعشرين اختلّ الأمر جدّا، وصارت البلاد بين خارجي قد تغلّب عليها أو عامل لا يحمل مالا، وصاروا مثل ملوك الطوائف، ولم يبق بيد الراضي غير بغداد والسواد مع كون يد ابن رائق عليه.

ولما ضعف أمر الخلافة في هذه الأزمان، ووهتْ أركان الدولة العباسية، وتغلّبت القرامطة والمبتدعة على الأقاليم، قويتْ همة صاحب الأندلس الأمير عبد الرحمن بن محمد الأموي المرواني وقال: أنا أولى الناس بالخلافة، وتسمّى بأمير المؤمنين الناصر لدين الله، واستولى على أكثر الأندلس، وكانت له الهيبة الزائدة والجهاد والغزو والسيرة المحمودة، استأصل المتغلبين وفتح سبعين حصنا، فصار المسمون بأمير المؤمنين في الدنيا ثلاثة: العباسي ببغداد، وهذا بالأندلس، والمهدي بالقيروان».(1)

[اضغط للمزيد: حكم الدعوات المفرقة بين المسلمين]

تقاسم السلاجقة للمالك الاسلامية بعد توحيدها

استمر التفرّق بظهور المتغلبين حتى وحّدت الدولة السلجوقية جميع الممالك الإسلامية في مملكة واحدة، وانتصروا على الروم في معركة (ملاذ كرد) بعد أن كان الروم قد استولوا على بعض ثغور المسلمين في الشام والجزيرة، فطردوهم منها وازدهرت دولة الإسلام بهذه الوحدة.

ثم ما لبثوا أن تقاسموا الممالك فيما بينهم وورّثوها لأبنائهم وتحاربوا على الملك، فظهر عليهم المتغلّبون وضعف شأن الدولة وكان الاجتياح الصليبي.

أثر توحيد صلاح الدين للجبهة، وأثر تقاسم ورثته للملك

ثم كانت حركة الجهاد التي بدأت بجميل غازي ثم غلام مودود ثم الشهيد نور الدين محمود، ثم قام صلاح الدين بتوحيد الجبهة بين مصر والشام والجزيرة فتغلّب على الصليبيين في معركة حطين واستولى على بيت المقدس.

ثم مات صلاح الدين وقسموا ملكه وتوارثوه وتحاربوا عليه، فاختلّ أمر الدولة واستعاد الصليبيون بعض ما فقدوه.

أثر توحيد المماليك لمصر والشام والجزيرة

ثم ظهر نجم الدين أيوب فوحّد الجبهة مرة ثانية بين مصر والشام والجزيرة، وحارب عدوين في وقت واحد: الصليبيين والتتار، فانتصر على الصليبيين في موقعة المنصورة، ثم انتصر قطز على التتار في موقعة عين جالوت.

وسار بعده قطز والظاهر بيبرس ثم قلاوون ثم محمد بن قلاوون ثم الناصر بن محمد بن قلاوون، فطهّروا بلاد الإسلام من رجس الصليبيين تماما، ولم يبق للصليبيين وجود في الشام ولا مصر ولا الجزيرة بعد توحيد الجبهة وتوالي الانتصارات.

مهزلة تقسيم الملك بين أحد عشر ولدا..!

جاء في تاريخ الدول الإسلامية ومعجم الأسر الحاكمة:

«أما بالنسبة لسلاجقة الروم فقد كان أمرهم قد ضعف فاجتاحهم الصليبيون في معركة «أرضروم»، ثم استطاعوا أن يطهّروا بلادهم من الصليبيين ويستعيدوها مرة ثانية عن طريق قليج أرسلان الأول بن سليمان.

وأما عز الدين قليج أرسلان الثاني (خان) ـ حاكم ـ السلسلة فقد قسم بلاده على أولاده الأحد عشر في سنة  586 هـ (1190 م) وهو لايزال على قيد الحياة، مرتكبًا بذلك خطأ سياسيا أدى إلى الإخلال بوحدة الدولة لأول مرة»

وقد حكم كل منهم إمارة صغيرة فـ :

«أرسلان شاه حكم نيكده، سنجر شاه حكم أراكلية، وأرغون شاه حكم أماسيا، ومغيث الدين طغرل شاه حكم أول البستان ثم أرضروم، ومسعود حكم أنكورية، وقيصر شاه حكم ملطية، ومحمود حكم قيصرية، وملكشاه حكم سيواس وأقساي، وبركيارق حكم نيكسار، وسليمان شاه وبدأ حكمه في توقات، وكيخسرو الأول حكم قونية»

فلما اعتلى سليمان ملك توقات وابن أرسلان العرش السلجوقي، استطاع في مدّة حكمه من سنة (592 ـ 600هـ ) (1196 ـ1203 م) إلى أن بدأ الفساد بين المسلمين مع ظهور الدولة الصفوية».(2)

إلى أن داهمهم التتار فتقسّمت الدولة إلى ملوك طوائف مرة أخرى.

الفرقة والوحدة .. وأثر كل منهما على الإسلام في الأناضول

ورثة السلاجقة في غرب الأناضول:ملوك الطوائف (ق 8  ق 14)

«بنو بروانة» في سينوب «بنو صاحب أتا» في قراحصار، بنو قراسى «في باليكسر»، «بنو صاروخان، بنو آيدين، بنو أزمير، بنو منتشا، بنو تكه، بنو أشرف» في بكشهري «بنو حميد» في حميد آيلي،«بنو كرميان» في كوتاهية، «أمراء دكزلي، بنو قرامان، بنو جاندار» حكام قسطموني «بنو ذو لقادر» في مرعش والبستان «بنو رمضان» في أذنه.(3)

ثم قامت الدولة العثمانية بتوحيد الأناضول في دولة قوية، حفظت للمسلمين فيها قوة.

ما لبث أن أنزل «تيمور لنك» بـ «بايزيد الصاعقة» هزيمة ساحقة سنة 3414 م وحوّلها إلى ملوك طوائف مرة أخرى.

لكن العثمانيين قاموا بتوحيدها للمرة الثانية في مدة 34 سنة، وانتصرت على الصليبيين في معركة «فرنا» وفي معركة «كوسوفا»، وتحولت إلى أعظم دولة في العالم في عهد سليمان القانوني، وظلّت محتفظة بقوتها وامتدادها مائة سنة.

أثر تفتيت الدولة الصفوية لوحدة المسلمين وقوتهم

إلى أن بدأ الفساد بين المسلمين مع ظهور الدولة الصفوية؛ فكانت الدولة العثمانية تحارب روسيا والقبيلة الذهبية في الشمال، وتحارب الصفويين في الشرق، وتحارب الصليبيين في الجنوب والغرب، حتى خارت قواها بعد الحرب العالمية الأولى وتحوّلت إلى جمهورية تركيا الحديثة العلمانية المعادية للإسلام والمتنكرة للتاريخ والهارية من نفسها.. الى أجل قريب.

[للمزيد: الخطر الصفوي وتاريخه المدمر للأمة]

أثر الفرقة على منطقة تركستان الشرقية

وفي الشرق الأقصى كان تقسيم منطقة تركستان في آسيا الوسطى الى الجمهوريات الخمسة أوزباكستان وما جاورها..

تقسيم المنطقة العربية وسقوطها في التخلف والتبعية، والعلمانية

ثم تلا ذلك تقسيم المنطقة العربية، وتقسيم الخليج الى دويلات، وتقسيم الشام الى أربع دول، حتى سهل وجود الصهاينة ومحاولتهم ابتلاع فلسطين..

ومؤخرا تقسيم السودان، والمشاريع مستمرة؛ حيث تفرق وتناحر يفضي الى ضعف وتبعية، ثم إن الضعف والتبعية بدورهما يؤديان الى مزيد من التفرق فبرز مؤخرا مصطلح تفتيت المفتت وتجزئة المجزأ.. وبين كل قُطرين ألغام من الخلافات الحدودية المفتعلة وسخونة وصراع..!

العـــــبرة

كلما كانت الوحدة كان النصر وتحول الدفة لصالح المسلمين وحضور الأمة وبروز دورها واسترجاعها لريادتها، وعلى الأقل توفر حالة المناعة من تسلط العدو عليها، وهي حالى تيئيس العدو من المسلمين، وهو أمر مهم وحاسم ويوفر حماية للمسلمين.

إن الأمة ليست ضِياعا تُباع أو توهب؛ المسلمون ليس قطعانا تتبع هذا مرة وتميل الى ذاك أخرى.. إنها خير أمة واشرف أمة، والله تعالى أعطاها حق وواجب امتلاك أمرها وتحديد وجهتها وتقرير منهجها..

لقد قرر الله تعالى الأمر من قبل ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103] .. فهنا أمران:

الأول: الاعتصام بحبل الله

وهو (الإسلام) و(القرآن) و(الصراط المستقيم)، مسميات لحقيقة واحدة.. وهي تعبير عن قوة الالتزام.

والثاني: قوله (جميعا)

وتوكيده للأمر بالنهي عن ما يضاده، بقوله (ولا تفرقوا).. وهذه لقوة الاجتماع.

ولهذا أعقب تعالى الآية بقوله تعالى ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [آل عمران: 105] فالتفرق والاختلاف يضاد ما أمر الله تعالى.. فالتفرق يضاد الاجتماع، والاختلاف في الدين يضاد الالتزام.

ثم أخبر تعالى بقيمة هذه الأمة بقوله ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ.. ﴾ الآية [آل عمران: 110].

انهيار الأمة بانهيار القوتين، وتتعطل وظيفتها

ولهذا فطريق عودتها يكون بالعودة لهاتين القوتين، العودة للإسلام، في حال اجتماع وتآلف.. وترك ما يضاد الإسلام من مناهج ومذاهب، وترك ما يضاد الاجتماع من فرقة واختلاف.. والله تعالى المسؤول أن يهيء لهذه الأمة أمر رشد تعزّ به.. وهو الهادي الى صراطٍ مستقيم.

……………………………………

هوامش:

  1. [تاريخ الخلفاء، ص 511].
  2. راجع: [كتاب “تاريخ الدول الإسلامية ومعجم الأسر الحاكمة”، ص 151 . طبعة دار المعارف  مصر].
  3. [كتاب “تاريخ الدول الإسلامية ومعجم الأسر الحاكمة”، ص :385].

اقرأ أيضا:

  1.  أدلة تحريم ولاء الكافرين المفرق بين الأمة والمفتت لها 
  2. خطر تأجيج الصراعات واستعار الخلاف في صوره الحديثة

التعليقات غير متاحة