الوضوح هو إحدى الخصائص العامة للإسلام سواء فيما يتعلق بالأصول، والقواعد أم بالمصادر، والمنابع أم بالأهداف، والغايات أم بالمناهج، والوسائل، وسنحاول إن شاء الله تعالى بيان ذلك بإيجاز في هذه الكلمات.
وضوح الأصول والقواعد الإسلامية
فأول مظاهر الوضوح في الإسلام أن أصوله، ودعائمه الكبرى واضحة بينة لا لزعمائه، وقادة الفكر، والدعوة إليه فقط، ولا لخاصة المثقفين من أتباعه، وأنصاره فحسب بل لجمهرة المؤمنين به أيًّا كانوا يستوي في ذلك الأصول الاعتقادية، والشعائر التعبدية، وأمهات الفضائل الخلقية، والأحكام التشريعية.
أما وضوح الأصول الاعتقادية؛ فأول ما يبدو هذا الوضوح في الأصول الاعتقادية في الإسلام يبدو في الإيمان بالله -عز وجل- ورسالاته، وبالدار الآخرة فتوحيد الله -سبحانه وتعالى- هو أصل الأصول لا يجهله مسلم أيًّا كان جنسه أو لونه أو طبقته أو حظه من التعلم فقد عرف من كلمة التوحيد وأولى الشهادتين لا إله إلا الله ألا مكان في الإسلام لتأليه بشر أو حجر أو شيء في الأرض أو في السماء بل لله من في السموات، ومن في الأرض، وما فيهما، ولهذا كانت رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ملوك العالم، وزعمائه متضمنة: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (آل عمران: 64).
فالتوحيد في حد ذاته قضية واضحة في ضمير كل مسلم، ودليلها أيضًا واضح في فكره، كما أن أثرها كذلك واضح في حياته كيف لا، وهو يلقن منذ صغره لا إله إلا الله، ويلقن أيضًا إذا حضره الموت لا إله إلا الله كما وصى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما عقيدة الجزاء في الآخرة بالجنة، والنار فهي عقيدة ظاهرة واضحة مستقرة في نفوس المؤمنين بالله -عز وجل- فإن الله -سبحانه وتعالى- قد قرر قانون الجزاء في سورة من قصار سور القرآن في آيتين اثنتين قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * ومَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (الزلزلة: 7، 8). وعامة المسلمين يعلمون أن جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة التي فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وأن جزاء الكافرين الذين كفروا بالله
وملائكته، وكتبه، ورسله، والدار الآخرة هي النار التي وقودها الناس والحجارة، كما أن الإيمان بالرسالات التي أرسل الله بها رسله قبل محمد -صلى الله عليه وسلم- أمر واضح جلي لكل مسلم.
فكل مسلم من العامة فضلًا عن الخاصة يعلم أنه لا يتم إيمانه حتى يؤمن بالله، وملائكته، وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله، وكل مسلم يعلم أن هؤلاء الرسل بشر من البشر يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويتزوجون النساء، ويرزقون الأولاد بنين، وبنات إلا أن الله -تبارك وتعالى- فضل هؤلاء الصفوة على جميع الناس حين اصطفاهم لرسالته، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
وضوح الأركان العملية والشعائر التعبدية
ومن مظاهر الوضوح في الإسلام: أن أركانه العملية، وشعائره التعبدية واضحة أيضًا للخاص والعام حتى الصبيان يحفظون أركان الإسلام الخمسة فقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((بني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلًا)). هذا حديث مشهور بفضل الله -عز وجل- يحفظه الصبيان في الكتاب، وعامة المسلمين يعرفون هذه الأركان للإسلام التي تتمثل في العبادات التي فرضها الله تعالى على المسلمين؛ فالصلاة كل مسلم يعرف أنها خمس في اليوم، والليلة، وكل مسلم يعرف مواقيتها كما قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} (النساء: 103).
كل مسلم يعرف أن الصبح ركعتان، والظهر أربعة، والعصر أربعة، والمغرب ثلاث، والعشاء أربع حتى السنن التي ندبنا إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الصلاة المفروضة، وبعدها كل مسلم يعرفها لا تخفى على أحد من المسلمين بفضل الله عز وجل.
والزكاة معروفة إجماليًّا لكافة المسلمين، وأنها تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، وأنها لا تجب إلا على من ملك من المال ما بلغ النصاب، ولا تجب إلا بعد مرور الحول ما دام المال فوق النصاب، والقدر الواجب إخراج معروف في الأموال النقدية ربع العشر، وفي الزروع العشر أو نصف العشر حسب السقيا.
وصيام رمضان كذلك معروف عند عامة المسلمين أنه فريضة كتبها الله -تبارك وتعالى- على عباده، وأنها تكون في رمضان من كل عام، وأن وقت الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأن الصيام معناه الإمساك عن شهوتي البطن، والفرج، وآداب الصيام معروفة أن الصائم لا يرفث، ولا يفسق، وإن امرؤ قاتله أو سبه يقول: إني صائم.
والحج الحمد لله كذلك كل المسلمين يعرفون أنه لا يجب على المستطيع إلا مرة واحدة في العمر، وأركانه معروفة الإحرام، والوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ثم التحلل، ورمي الجمار، وغير ذلك من واجبات الحج كل ذلك بفضل الله ظاهر، وواضح لجميع المسلمين.
وضوح أصول الأخلاق
كذلك الأصول الأخلاقية التي دعا إليها الإسلام ظاهرة، وواضحة، ومشهورة بفضل الله -عز وجل- عند العامة فضلًا عن الخاصة فكل مسلم يحفظ قول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والْإِحْسَانِ وإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ويَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ والْبَغْيِ} (النحل: 90) فكل مسلم يعرف أن الله -تبارك وتعالى- يأمر بالعدل، والإحسان، ويأمر ببر الوالدين، وصلة الأرحام، ويأمر بالإحسان إلى اليتامى، والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل كما أن كل مسلم يعرف أن الله -تبارك وتعالى- نهى عن مساوئ الأخلاق، وتوعد عليها، وكل مسلم يحفظ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).
كذلك الآداب التي ندبنا إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- الحمد لله آداب ظاهرة واضحة جلية سواء ما كان منها يتعلق بالأكل، والشرب أو النوم، واليقظة أو اللباس والزينة أو الجلوس، والمشي آداب الزيارة آداب الاستئذان آداب التحية عند اللقاء أدب الحديث كل ذلك، والحمد لله ظاهر جلي، واضح لعموم المسلمين.
وضوح شرائع الإسلام وقوانينه
ومن مظاهر الوضوح في الإسلام، وضوح شرائعه، وقوانينه أعني الأساسية القطعية منها سواء في المجال الفردي أو الأسري أم الاجتماعي؛ فكل مسلم يعلم بوضوح ما يحل، ويحرم من الأطعمة، والأشربة، والملابس، والمناكح، وغير ذلك بفضل الله عز وجل.
ومن مظاهر الوضوح في الإسلام: وضوح مصادره فمصادر الإسلام كما سبقت الإشارة إليها القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة.
ومن مظاهر الوضوح في نظام الإسلام: وضوح الأهداف، والغايات فكل مسلم يعلم أن الله -تبارك وتعالى- بعث محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالقرآن الكريم ليخرج به الناس من الظلمات إلى النور من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن ظلمات الشرك إلى نور التوحيد، ومن ظلمات الضلالة إلى نور الهدى، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم.
ومن مظاهر الوضوح في الإسلام: وضوح الدعوة، ومعرفة أبعادها فغاية الدعوة واضحة، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25)، ويقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ومَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (الذاريات: 56 – 58).
فالدعوة إذًا واضحة المعالم محددة الأبعاد خالية من تعقيد المثلثين، وشبه الثنويين، وشطحات العقلانيين ألا تراها تدعو إلى إخلاص العبادة لإله واحد إليه يرجع الأمر كله بيده الخير، وهو بكل شيء عليم، والقرآن الكريم يوضح لنا هذا المعنى الذي عجزت العقول المجردة عن تصوره حيث يقول تبارك وتعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ ورَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 29).
وضوح الدعوة عند أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم
ولقد كانت الدعوة إلى الله بهذا الوضوح، وبهذا التحديد ماثلة في تصور كل رسول بعثه الله -عز وجل- لم يلابسها شك، ولم يخالطها شبهة، وكان الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- يدعون الناس جميعًا إلى هذه العقيدة، وإن اختلفت الأساليب فنوح -عليه السلام- يقول لقومه: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الأحقاف: 21)، وهود عليه السلام يقول: {يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} (هود: 50)، وصالح -عليه السلام- يقول: {يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ واسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} (هود: 61).
وإبراهيم -عليه السلام- قال لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ واتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 16)، ويوسف -عليه السلام- قال لصاحبيه في السجن: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (يوسف: 39)، وموسى -عليه السلام- ينعى الشرك على قومه فيقول: وقد قالوا له: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة: {قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (الأعراف: 140)، ثم يكون خاتم أنبياء بني إسرائيل عيسى -عليه السلام- ويعلنها وحدانية صريحة حيث يقول: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي ورَبَّكُمْ} (المائدة: 117).
ويأتي خاتم الأنبياء، والمرسلين محمد -صلى الله عليهم وسلم أجمعين- فيختم هذه الرسالات، ويؤكد على ما دعا إليه إخوانه جميعًا من إفراد الله -سبحانه وتعالى- بالعبادة، ويعلن أنه لن يقبل من أحد سواها مهما كانت منزلته ومكانته، ومهما كانت عشيرته، وقبيلته يقول الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي ويُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وكَلِمَاتِهِ واتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف: 158)، ويقول تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (آل عمران: 85)، ويقول سبحانه: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى ويَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ونُصْلِهِ جَهَنَّمَ وسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 115).
هكذا كانت الدعوة بهذا الوضوح في أذهان الدعاة، وبذلك التحديد أمام أعينهم حتى لم يغب عنهم منها شيء، وكان هذا الوضوح من أعظم الوسائل لقوتها، وذلك التحديد من أقوى الأساليب في نشرها، وذيوعها.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر
كتاب: “أصول الدعوة” جامعة المدينة العالمية، ص422-428.
اقرأ أيضا
بعض المجالات التي فرق الإسلام فيها بين الرجل والمرأة