لكل أمة مشرب حضاري، يصبغ حياتها وتصطبغ به. والأمة الإسلامية لها صبغة ربانية عامة تتغلغل في مفاصل حياتها..

الإسلام مشرب حضاري

الإسلام صبغة تشمل الحياة، إنه ليس عقيدة منعزلة بل هو مشرب حضاري للأمة، يصبغ حياتها كاملة، حتى يتميز الفرد المسلم، والمجتمع، والمؤسسات، بصبغة ربانية فريدة.. قال تعالى: ﴿صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ﴾ [البقرة: 138].

جاءت هذه الآية مع غيرها جوابًا لمن قالوا: ﴿كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [البقرة: 135].

فكانت صبغة الله: هي ملة إبراهيم حنيفًا.

ودين الله الذي ارتضاه تبارك وتعالى لعباده.

وفطرته التي فطر الناس عليها.

وسمى ربنا ـ تبارك وتعالى ـ دينه صبغة لأنه ـ والله أعلم ـ ظهر أثره على المتدينين به ظهور الصبغ على المصبوغ وتداخل في قلوبهم تداخل الصبغ للثوب.

ظهر أثره ظهور الصبغ على المصبوغ في سمتهم وهَديهم.. في أخلاقهم وسلوكهم.. في تجارتهم وتعاملاتهم.. في صناعتهم  وزراعتهم.. بل في كل سلوك إنساني يصدر منهم حتى كانت هذه الصبغة الربانية وذاك اللون الإلهي دينهم.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه رضوان الله عليهم هم الأنموذج الأول لأثر هذه الصبغة فقد سُئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان خُلقه القرآن».(1)

وقال أبو عبد الرحمن السلمي: «حدثنا الذين كانوا يقرؤننا أنهم كانوا يستقرئون من النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلمنا القرآن والعمل جميعًا».(2)

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن».(3)

شمولية توجيه القرآن

والقرآن ـ كما أخبر ربنا تبارك وتعالى عنه ـ في شموليته: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 38].

ويقول أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: «ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر بجناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا».(4)

فتركهم صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، ولقد صدق اليهودي لما قال لسلمان رضي الله عنه: «لقد بُعث لكم رسول علمكم كل شيء (المأكل ـ الملبس ـ النوم) حتى الخِراء».(5)

فقد كان هذا ترجمة عملية لأمر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162].

نعم لقد ظهر أثر هذه الصبغة الإلهية على المسلمين الأُوَل ـ كما سبق ـ وتداخلت في قلوبهم تداخل الصبغ للثوب فطهرت قلوبهم من الدنس والشك والظلم والحسد والتوكل على غير الله عز وجل وغيرها من أمراض القلوب.

[اضغط للمزيد: الإسلام شريعة تحكم حياة الأمة]

الصبغة الربانية

لقد صُبغت قلوبهم بالصبغة الربانية ـ ملة إبراهيم ودين الإسلام ـ فانغمست في حب الله ورسوله وحب عباده المؤمنين وخشية الله والإنابة إليه والإيمان به وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه والتوكل عليه وحده وغيرها من أقواله وأعماله الظاهرة وأعمال القلوب فصلحت قلوبهم بهذه الصبغة.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: «إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة».(6)

والأمانة عين الإيمان ـ وعلى هذه القلوب نزل القرآن فأخذوه مأخذ الجد لا مأخذ الجدل، وورد في الأثر: «عُلمنا الإيمان ثم عُلمنا القرآن».

لقد كان الرجل حين يدخل هذا الدين ينزع عن نفسه كل صبغة اصطبغ بها ويمحو عنها كل لون تلون به، إلا ما وافق هذه الصبغة الربانية وذاك اللون الإلهي.

وعن هذا الجيل يقول  سيد قطب رحمه الله:

لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية كان يشعر في اللحظة التي يجئ فيها إلى الإسلام أنه يبدأ عهدًا جديدًا منفصلاً كل الانفصال عن حياته التي عاشها في الجاهلية.

وكان يقف من كل ما عهده في الجاهلية موقف المستريب الشاك الحذر المتخوف الذي يحس أن كل هذا رجس لا يصلح للإسلام وبهذا الإحساس كان يتلقى هدي الإسلام الجديد»…

كان يتلقى هذا الهدي وذاك الأمر ليعمل به فور سماعه كما يتلقى الجندي في الميـدان «الأمر اليومي» ليعمل به فور تلقيه تمامًا كما أخبر ربنـا تبـارك وتعالى عن قول المؤمنين: ﴿أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾ [النور، الآية: 51].

فكان هذا الشعور ـ شعور التلقي للتنفيذ ـ ييسر لهم العمل ويخفف عنهم ثقل التكاليف ويخلط القرآن بذواتهم ـ يصطبغون به ـ فيحولونه في نفوسهم وفي حياتهم إلى منهج واقعي وإلى ثقافة متحركة لا تبقى داخل الأذهان ولا في بطون الصحائف وإنما تتحول آثارًا وأحداثًا تحول خط سير الحياة كل الحياة.(7)

[اضغط للاطلاع على: الإسلام هوية تجمع الأمة]

صبغة تشمل حياة المسلمين

إن هذا الدين صبغة تصبغ حياة المسلمين كلها:

صبغـة في العقيدة والأخلاق، صبغة في الحضارة واللغة. صبغـة في العلوم والمعارف، صبغة في الآداب والاجتماع. صبغـة في التجارة والاقتصاد، صبغة في السياسة والحكم. صبغـة في الدعوة والإعلام، صبغة في العادات والتقاليد..

صبغـة في كل نواحي الحياة؛ صبغـة تصبغ المدارس والجامعات، البيوت والطرقات، المزارع والصناعات، النوادي والمؤتمرات، المتاجر والمجتمعات.

صبغـة في كل مكان.

صبغـة تخرج لهذا الكون خير أمة أخرجت للناس

أنفع الناس للناس يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر يأخذون بهم في السلاسل ليدخلوهم الجنة.

صبغـة تخرج العالم المسلم

الذي يتخلق بأخلاقيات هذه الصبغة في ابتكاراته واختراعاته، لا ذاك الذي يتلاعب بخلق الله في وراثاتهم وتناسلهم تلاعبه بالفئران، ولا ذاك الذي يُسخّر علمه في إبادة خلق الله أطفالًا وشيوخًا، نساءً وشبانًا، عجزة ومقعدين.

صبغـة تخرج التاجر المسلم

الأمين الصدوق الذي امتنع عن تطفيف الكيل والميزان وبخس الناس أشياءهم، امتنع عن الغش، عن اليمين الكاذبة، تحرى الكسب الحلال خوفًا من أن ينبت لحمه من سحت فيكون مصيره النار، بل نصح للمسلمين في بيعهم وشرائهم ولم يرض لهم إلا ما يرضى لنفسه.

صبغـة تخرج الصانع المسلم

الذي يتقن صنعته لعلمه أن «الله عز وجل يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه». الصانع الذي لا يغش، لا يهمل، لا يضيع مال المسلمين سُدى.

صبغـة تخرج البيت المسلم

الذي تحفه الملائكة وتغشاه الرحمة من ذكر الله الدائم فيه كما حكت كتب السلف عمن كان يتناوب قيام الليل مع زوجه وخادمه يُحيي أحدُهم ثلث الليل الأول وثانيهم ثلثه الثاني وثالثهم ثلثه الأخير.

البيت الذي خيم عليه المودة والرحمة بين الزوجين، التوقير للكبير والرحمة فيه للصغير، البيت الذي يربي أجيالًا من النشء على الإسلام والإيمان.

صبغـة تخرج المدرسة المسلمة

التي تربي تلاميذها ـ ليكونوا مسلمين صالحين ـ على منهج للتربية مدروس ومفصل ومؤصل، وللمدرسين بها خبرة وعلم يمارسون الإسلام ويتخلقون بخلق القرآن في سلوكهم وتعاملهم ومظهرهم وسائر شئونهم.

صبغـة تخرج الشارع المسلم

حيث تُراعى فيه حرمات الله ولا يقع فيه ما يخالف فيه أمر الله وتوجيهاته إلا مُستنكرًا حيث يخلو منه المرأة المتبرجة والشباب المتسكع الذي صناعته معاكسة الغاديات والرائحات….

الشارع المسلم الذي خلا من الكلمة البذيئة تلقى هنا وحديث عن الفاحشة يسري هناك أو شتائم قذرة تأتي من بعيد أو كلمة تخدش الحياء تُسمع من قريب، بل يكون سمته ولونه صورة معبرة عن أخلاقيات المجتمع المسلم ومبادئه ومفاهيمه وقيمه سواءً في ذلك أخلاقيات الجنس أو أخلاقيات البيع والشراء أو السلام والتحية أو آداب المرور وآداب الجلوس أو آداب العلاقة بين الصغير والكبير أو بين السائر والجالس… إلخ.

صبغـة عامة

تخرج لنا الناس كلاً في مجاله وقد تغير واصطبغ بصبغة هذا الدين القويم، فصار قدوة حتى يصبح الفرد أمة يقتدى به، قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل، الآية: 120]  فقد كان إبراهيم عليه السلام إمامًا يقتدى به.

بل هذه الصبغة تجعل الأرض تخرج خيراتها وكنوزها ليُنتفع بها كما أخرجت لمن قبلنا. فقد رُوى أنه وجد في خزائن بني أمية حبة من القمح في حجم التمرة مكتوب عليها: «هذا ما كان يخرج في زمن العدل» بل حتى الجمادات والأشياء التي لا تعقل تنصاع لهؤلاء الذين صُبغوا بصبغة الله كما انصاعت لمن قبلنا، فهذه الشمس حُبست عن الغروب لرجل صالح من قوم موسى عليه السلام ليتمكن من فتح بيت المقدس.(8)

الأثر التاريخي

لقد ظهرت هذه الصبغـة في أصحـاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى قـال عنهـم نصـارى الشـام: «والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا».(9)

كما كانت سببًا للنصر.. يقول الأستاذ  سيد قطب:

انتصر محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم يوم صنع أصحابه ـ عليهم رضوان الله ـ صورًا حية من إيمانه تأكل الطعام وتمشي في الأسواق، يوم صاغ من كل منهم قرآنًا حيًا يدب على الأرض، يوم جعل من كل فرد نموذجًا مجسمًا للإسلام يراه الناس فيرون الإسلام.

إن النصوص وحدها لا تصنع شيئًا، وإن المصحف لا يعمل حتى يكون رجلاً، وإن المبادئ وحدها لا تعيش إلا أن تكون سلوكًا.

ومن ثَمَّ جعل محمد صلى الله عليه وسلم هدفه الأول أن يصنع رجالًا لا أن يلقي مواعظ، وأن يصوغ ضمائر لا أن يدبج خطبًا، وأن يبني أمة لا أن يقيم فلسفة.

أما الفكرة ذاتها فقد تكفل بها القرآن الكريم. وكان عمل محمد صلى الله عليه وسلم أن يحول الفكرة المجردة إلى رجال تلمسهم الأيدي وتراهم العيون.

لقد انتصر محمد صلى الله عليه وسلم يوم أن صاغ من فكرة الإسلام شخوصًا وحول إيمانهم بالإسلام عملاً وطبع من المصحف عشرات من النسخ ثم مئاتًا وألوفًا.

لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، وإنما طبعها بالنور على صحائف من القلوب وأطلقها تعامل الناس وتأخذ منهم وتعطي وتقول بالفعل والعمل ما هو الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله عز وجل. أ هـ(10)

واصطبغ بها من جاء بعدهم فكانت سببًا لدخول الناس في دين الله أفواجًا ولانتشار الإسلام ووصوله إلى المحيط الهندي ودول جنوب شرق آسيا وإلى أواسط أفريقيا وغيرها من البلاد.

يقول الشيخ عبد الله ناصح علوان:

«وصل الإسلام إلى كل هذه الأمم بواسطة تجار مسلمين ودعاة صادقين أعطوا الصورة الصادقة عن الإسلام في سلوكهم وأمانتهم وصدقهم ووفائهم، ثم أعقب ذلك الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة فدخل الناس في دين الله أفواجًا وآمنوا بالدين الجديد عن اقتناع وإيمان ورغبة.

ولولا أن يتميز هؤلاء التجار الدعاة بأخلاقهم ويعطوا القدوة بين أولئك الأقوام بصدقهم وأمانتهم ويُعرفوا لدى الغرباء بلطفهم وحسن معاملاتهم لما اعتنق الملايين من البشر هذا الإسلام ولما دخلوا في هديه ورحمته». أ هـ(11)

ومعنى هذا أن يتحول الإسلام في واقعنا إلى مشروع حضاري شامل.

وبهذا مع الهوية الإسلامية يوجد أساس المشروع الحضاري الإسلامي الذي يمكن أن يعطي تجمعًا عقائديًا يُخرجنا من الكيانات الصغرى التي فرقتها الوطنيات المحدودة إلي مواجهة التكتلات العالمية من خلال مشروعنا الحضاري المواجه لمشاريعهم الحضارية في عصر لا حياة ولا مكان فيه للكيانات الصغيرة،  وفي عصر يحرص فيه الاستعمار الصليبي الصهيوني على التفتيت إلى أقصى مداه.

…………………………..

فهرس:

  1. [أحمد جـ 6، ص 91].
  2. [تفسير القرآن العظيم، جـ 1 ص 3 مقدمة التفسير].
  3. [ابن تيمية، مقدمات في فهم التفسير].
  4. [تفسير القرآن العظيم، جـ 2، ص 131].
  5. [سيد سابق، فقه السنة، جـ 1 ص 23].
  6. [فتح الباري، جـ 13، ص 42، رقم 7086].
  7. [معالم في الطريق: ص 18 وما بعدها].
  8. [يوشع بن نون فتى موسى عليه السلام، ابن كثير البداية، دلائل النبوة الحسية].
  9. [تفسير القرآن العظيم، لابن كثير].
  10. [دراسات إسلامية].
  11. [تربية الأولاد في الإسلام، جـ 2 ص 624].

مراجع:

  • تفسير القرآن العظيم، لابن كثير.
  • مسند الإمام أحمد.
  • الدلائل، لابن كثير.
  • مقدمة في التفسير، لابن تيمية.
  • فقه السنة، سيد سابق.
  • دراسات إسلامية، سيد قطب.
  • تربية الأولاد في الإسلام، عبد الله ناصح علوان.
  • الطريق الى الجنة، عبد المجيد الشاذلي.

اقرأ أيضا:

  1.  كيف انحرفت الأمة عن هويتها.
  2. خسارة الأمة نتيجة غياب الهوية.
  3.  كيف أخرج رسول الله خير أمة .. الجزء الأول.
  4. كيف أخرج رسول الله خير أمة .. الجزء الثاني.
  5. كيف أخرج رسول الله خير أمة .. الجزء الثالث.

التعليقات غير متاحة