تتبدي في شهر رمضان أوجه كثيرة لرحمة الله وما يعين به عباده على الوصول اليه، ومعرفة هذه الأوجه والتعبد بها لله معين للعبد ودافع له للعمل والتقرب.
مقدمة
شهر رمضان موسم رحمة يرحم الله به الأمة، فيرفعها من الجهل إلى العلم، ومن التقصير إلى الطاعة، ومن الجفاء والبعد إلى القرب والمحبة، رحمةً في الأوقات والأبدان، والمجتمعات.
من أوجه الرحمة في رمضان
ولله ربنا نفحات مباركات في هذا الشهر الكريم نعرض لبعضها.
غفران ما تقدم من الذنب
من رحمات الله تبارك وتعالى بالناس في شهر رمضان:
قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه». (1متفق عليه: البخاري (38)، ومسلم (760))
وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ، إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِه». (2متفق عليه: البخاري (37) واللفظ له، ومسلم (759))
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ؛ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ». (3صحيح الترغيب والترهيب للألباني (999))
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه». (4رواه البخاري (1901) ومسلم (759))
جماعية الطاعة
من صور الرحمة في رمضان اجتماع المسلمين على الطاعة، فلو أن الله تبارك وتعالى كلّف كل واحد منا بصيام (30) يومًا وحده وقيام (30) ليلة منفردًا عمن حوله، لوجد صعوبة كبيرة وكان هذا العمل فيه مشقة عظيمة.
ولكن من رحمة الله تبارك وتعالى بالأمة أن جعل الطاعة جماعية، ففي رمضان يصير الغالب على المجتمع حرصه على الصيام مع أعمال الطاعة والخير والبر، فالمساجد تمتلئ، وأعمال البر والصدقات يتسابق فيها المتسابقون، والأخلاق السمحة تُفرض نفسها، والكل يقرأ القرآن ويجلسون في المساجد.
وما ذلك إلا بما أودعه الله في هذا الشهر من بركات، وتيسيره للناس سبل الخير عن غيره من الشهور.
شهر حمية ورحمة للبدن
من رحمة الله تبارك وتعالى بالعباد أن جعل الصيام وقاية وحماية وتنظيفًا للبدن مما فيه من سموم وأدواء، ففي الصوم صحة البدن، وخلوصه من الأخلاط الرديئة.
وفي الصوم إضعاف للشهوات التي تزداد مع الأكل والشرب وإطلاق النظر، فيأتي الصيام ليكسر هذه الشهوات، فيحفظ الإنسان جوارحه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله تعالى: الصيام جُنَّة؛ يستجن بها العبد من النار، وهو لي، وأنا أجزي به». (5حسنه الألباني في صحيح الجامع (4308))
قال المناوي: “وقاية في الدنيا من المعاصي بكسر الشهوة، وحفظ الجوارح، وفي الآخرة من النار”. (6فيض القدير للمناوي (4 /319))
والإنسان إذا صام وذاق مرارة الجوع حصل عنده عطف ورحمة على الفقراء والمساكين الذين لا يجدون ما يكفيهم من القوت فتصدق عليهم وأحسن إليهم.
رحمة في تحديد الزمن
شاءت إرادة الله سبحانه أن يجعل الشهر القمري رمضان محلاً للصيام، ولهذا الشهر علامته الكونية الكبيرة، القمر بدءاً وانتهاءً يحمل في طياته عوامل الوضوح والثبات، فلا تستطيع سلطة أو جماعة أن تُخفيه أو تحرّف المسلمين عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُبِّيَ عَلَيْكُمْ فَأكْمِلُوا ِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ». (7متفق عليه: البخاري (1909) ومسلم (1081))
واختيار السنة القمرية في التوقيت له فيها حِكَم عظيمة، فالسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بحوالي عشرة أيام، فعلى هذا يتقدم شهر رمضان كل عام عنه في السنة الماضية “عشرة” أيام، وعلى هذا ففي خلال “ستة وثلاثين” عاماً لا يبقى يوم من أيام السنة إلا وقد صامه المسلم، يشهد له بصومه لربه.
اليوم القصير.. واليوم الطويل.. واليوم الحار.. واليوم البارد؛ وبذلك يتساوى المسلمون في كل أقطار الدنيا في مقدار الصيام وشدته.
ومن رحمة الله عزَّ وجلَّ بعباده أن علّق الصوم والإمساك على علامتين سماويتين يسهل تمييزهما هما طلوع الفجر، وغروب الشمس، وفي ذلك ضبط للوقت يستطيعه أي إنسان في أكثر مناطق العالم كما قال سبحانه: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾. (البقرة: 187)
نداء “يا باغي الخير أقبل”
إن أبواب الأجر في الإسلام كثيرة، وإن أسباب اكتساب الحسنات متعددة، وفي شهر رمضان تتضاعف أجور الأعمال الصالحة، فضلاً من الله، عز وجل، على عباده، وينادي مناد في أول ليلة من رمضان فيقول: «يا باغي الخير! أقبل، ويا باغي الشر! أقصر». (8رواه الترمذي (682) والنسائي (2107) وصححه الألباني)
إن الأيام صحائف الأعمار، والسعيد من يخلّدها بأحسن الأعمال. وراحةُ النفس في قلة الآثام، ومن عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه.
وفي هذا الشهر المبارك المنزل فيه القرآن العظيم المتعدد فيه طلب أنواع المغفرة من التوسع في المعروف والبذل والدعاء وتفريج الكربات والإكثار من العبادات.
فتح أبواب الجنة وغلق أبواب النيران
عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين» (9متفق عليه: البخاري (1799) ، ومسلم (1079))
ففي شهر رمضان المبارك يفتح الله سبحانه وتعالى أبواب الجنة لكل تائب توبة نصوحة وفق شروطها الشرعية المعتبرة وتغلق بوجهه أبواب الجحيم.
ومن فضائل الصوم في الآخرة ما اختصهم الله به من أبواب الجنة، فجعل سبحانه في الجنة بابًا يسمى باب الريان لا يدخل منه إلا الصائمون، قال صلى الله عليه وسلم: «فِي الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أبْوَابٍ، فِيهَا باب يُسَمَّى الرَّيَّانَ، لا يَدْخُلُهُ إِلا الصَّائِمُونَ». (10رواه البخاري (3017))
تصفيد الشياطين ومردة الجن
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا كانت أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي منادي: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة». (11رواه الترمذي (682) والنسائي (2107) وصححه الألباني)
فالشياطين في رمضان يضعف سلطانهم على أهل الإيمان وأهل الصيام، ويقوى سلطان أهل الإيمان وإرادتهم للخير، فلا يتمكن الشيطان ولا يصلون إلى أهل الإيمان وأهل الصيام مثل ما كان يصلون إليه ويتمكنون منهم في غير رمضان.
بخلاف الكفار الذين لا يراعون حرمة لشهر رمضان، فليسوا داخلين في هذا الحديث، ففي شهر رمضان تقوى إرادة المؤمنين للخير، وتضعف إرادتهم للشر.
الاستيقاظ بالأسحار
الليل واحة المتقين، تجتمع فيه شتات الهموم، وتصفو النفوس ويتوجه العبد للقاء الحي القيوم، والسَّحَر وقتٌ شريف، يقترب الله جل وعلا من عباده، لعلهم يتوبون أو يناجون ربهم ويُنزلوا حاجتهم به، ويستغفروه ويتوبوا إليه.
ولكن كثيرًا من المسلمين طوال العام يكونون نائمين في هذا الوقت الشريف؛ فإذا جاء رمضان قاموا إلى السحور فذكروا ربهم وصلوا ركعتين في جوف الليل ودعوا ربهم واستغفروه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له». (12البخاري في صحيحه (1145) ومسلم (1261))
استجابوا لنصيحة نبيهم صلى الله عليه وسلم حين نادى فيهم: «أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر؛ فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن». (13صحيح سنن الترمذي للألباني (3579))
وما أروع ليل رمضان، يتقلب العبَّاد بين أنوار الساعات المباركة في ساعات رمضان، فتهتز قلوبهم من روعة المشهد ولذة الإيمان، فتنساب الدموع.
تلك الدموع التي تصنع العُبّاد والفرسان، تلك الدموع التي أدرك عبد الله بن عمرو بن العاص معناها وقيمتها فقال: «لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إليَّ من أن أتصدق بألف دينار». (14شعب الإيمان للبيهقي ج2 ص 253 ، والتدوين في أخبار قزوين للرافعي ج1 ص292)
خاتمة
أيها المقبل على ربه! ما أحوجك في رمضان إلى توبة صادقة ودمعة صادقة، تغسل عنك أدران الذنوب، تكون عنوان ضراعاتك لمولاك، وبرهان خوف ورجاء ومحبة للرحمن، علها تكون طوق النجاة.
أيها العبد المتلهف لغيث الرحمات: دمعة في ليل رمضان كقطرة الندى، تجلي الغشاوة والصدى، تنير درب المسير، تحلي الطعم المرير، ترضي الإله القهار، ترفع عن قلبك الران، إن ذقت طعمها فلن تنساها، فترقب الليل حتى تلقاها.
………………………………………..
الهوامش:
- متفق عليه: البخاري (38) ، ومسلم (760).
- متفق عليه: البخاري (37) واللفظ له، ومسلم (759).
- صحيح الترغيب والترهيب للألباني (999).
- رواه البخاري (1901) ومسلم (759).
- حسنه الألباني في صحيح الجامع (4308).
- فيض القدير للمناوي (4 /319).
- متفق عليه: البخاري (1909) ومسلم (1081).
- رواه الترمذي (682) والنسائي (2107) وصححه الألباني.
- متفق عليه: البخاري (1799)، ومسلم (1079).
- رواه البخاري (3017).
- رواه الترمذي (682) والنسائي (2107) وصححه الألباني.
- البخاري في صحيحه (1145) ومسلم (1261).
- صحيح سنن الترمذي للألباني (3579).
- شعب الإيمان للبيهقي ج2 ص 253 ، والتدوين في أخبار قزوين للرافعي ج1 ص292.
اقرأ أيضا:
- الصيام .. أعمال القلوب ومعايشة الآخرة
- رمضان .. واستباق الخيرات
- استقبال رمضان .. مراجعة واستعداد
- محاسن الشريعة في الصيام