قال ابن باديس: «عجبتُ لشعب أنجب مثل الشيخ الإبراهيمي، أن يضلَّ في دين، أو يخزى في دنيا، أو يذلَّ لاستعمار». هكذا يكون للأعلام دورا بارزا، يساوي دور أمة.
مقدمة
منذ عشرات العقود والعالم العربي والإسلامي محطّ أطماع كثير من الدول الاستعمارية المتربصة به، والتي استهدفت دائما تفكيك أوصاله واستنزاف ثرواته. ونجحت أغلب تلك المحاولات الاستعمارية العديدة المنظَمة في أن تفرض سيطرتها وتبسط نفوذها وهيمنتها على بعض أقطار الوطن العربي والإسلامي في فترات متفاوتة من تاريخ الأمة العربية والإسلامية عبر مسيرة تاريخها الطويل. ولكن إرادة التحرر وعزيمة أبناء تلك الأمة كانت دائما تنتصر على أطماع الغزاة والمستعمرين مهما طال الزمان، وكان الله يقيض لهذه الأمة روادا من بين أبنائها يبعثون فيها روح الجهاد، ويشعلون فيها إرادة المقاومة حتى تنتصر على أعدائها وتستعيد حريتها وكرامتها، وتملك زمام أمرها من جديد.
وكان “محمد البشير الإبراهيمي” واحدا من هؤلاء الرواد والزعماء الذين أشعلوا تلك الجذوة في نفوس أبناء أمتهم، وساهموا في رفع راية الجهاد ضد الاستعمار في أوطانهم، وفي إيقاظ الوعي بين أبناء أمتهم حتى تحقق لها النصر وتحررت من أغلال الاستعمار البغيض.
كان رحمه الله أمة في رجل، وكان طاقة جبارة من العزيمة والنشاط والشجاعة والجرأة في الحق، وفي ذلك عُذِّب وسُجن ونُفي وشُرِّد فما لانت له قناة، ولا وهنت له عزيمة، بل ما زاده ذلك إلا قوَّة وصلابة، واسترسالاً في الجهاد الوطني والإصلاح الاجتماعي، وكان يحمل بين جوانحه روحاً شفافة تتمثل فيها العاطفة الإنسانية بأجلى معانيها.
البداية والتعلم
ولد “محمد البشير الإبراهيمي” في (15 من شوال 1306 هـ= 16 من يوليو 1889م) في قرية “سيدي عبد الله” قرب “سطيف” غرب مدينة “قسنطينة”، في بيت من أعرق بيوت الجزائر. يرجع نسبه إلى الأدارسة العلويين من أمراء المغرب العربي في أزهى عصوره. وتلقى تعليمه الأوَّلي على والده وعمه الشيخ “محمد المكي الإبراهيمي” الذي كان من أبرز علماء “الجزائر” في عصره؛ فحفظ القرآن ودرس بعض المتون في الفقه واللغة، كما حفظ العديد من متون اللغة ودواوين فحول الشعراء، فلما مات عمه صار يُدَرِّس ما تلقاه عنه، ولم يكن قد جاوز الرابعة عشرة من عمره.
لكنه ما لبث أن غادر “الجزائر” إلى “الحجاز” وهو في العشرين من عمره ـ سنة (1330 هـ = 1911م) ـ ليلحق بأبيه الذي كان قد سبقه إلى هناك قبل ذلك بنحو أربعة أعوام.
وواصل “البشير” تعليمه في “المدينة”، واتصل بعالِمين كبيرين كان لهما أثر كبير في توجيهه وتكوين فكره، وهما الشيخ “عبد العزيز الوزير التونسي” وقد درس عليه الفقه المالكي وأخذ عنه “موطأ مالك”، والشيخ “حسين أحمد الفيض آبادي الهندي” الذي أخذ عنه “صحيح مسلم”. وكان “البشير” شغوفا بالعلم، يقضي معظم وقته بين المكتبات الشهيرة بـ “المدينة”، ينهل من كنوزها، ليروي ظمأه المعرفي ويشبع نهمه العلمي.
البشير وابن ياديس
عقب عودته للجزائر تعاون الإبراهيمي مع “ابن باديس” في استكمال المشروع الذي بدأه لنشر العلم الديني واللغة العربية بحسب جلساتهما في المدينة المنورة، فبدأ الإبراهيمي بالتعليم في مدينة «سطيف»، وكانت له لقاءات دورية مع ابن باديس لمتابعة أخبار النشاط الإصلاحي وتأثيره على الشعب، يقول الإبراهيمي: “فنزِن أعمالنا بالقسط، ونزِن آثارها في الشعب بالعدل، ونبني على ذلك أمرنا، ونضع على الورق برامجنا للمستقبل بميزان لا يختل أبداً، وكنا نقرأ للحوادث، والمفاجآت حسابها، فكانت هذه السنوات العشر كلها إرهاصات لتأسيس جمعية العلماء الجزائريين”، يقول الإبراهيمي:
“كان من نتائج الدراسات المتكررة للمجتمع الجزائري بيني وبين ابن باديس منذ اجتماعنا بالمدينة المنورة (1331هـ- 1913م) أن البلاء المنصب على هذا الشعب المسكين آتٍ من جهتين متعاونتين عليه، وبعبارة أوضح من استعمارين مشتركين يمتصان دمه ويتعرقان لحمه ويفسدان عليه دينه ودنياه:
1- استعمار مادي هو الاستعمار الفرنسي يعتمد على الحديد والنار.
2- واستعمار روحاني يمثله مشائخ الطرق المؤثرون في الشعب، المتجرون بالدين، المتعاونون مع الاستعمار عن رضىً وطواعية.
فكان من سداد الرأي وإحكام التدبير بيني وبين ابن باديس أن تبدأ الجمعية بمحاربة هذا الاستعمار الثاني”.
وهذا كله يدل على أن ابن باديس والإبراهيمي كانا يتصفان بأعلى مهارات التخطيط الاستراتيجي، وكانا يضعان الخطة والخطة البديلة، ولم يكن عملهما ردة فعل، بل فعلا محسوبا ومقدرا، ولذلك يقول:
“كانت الحكومة الفرنسية في ذلك الوقت تستهين بأعمال العالِم المسلم، وتعتقد أننا لا نضطلع بالأعمال العظيمة، فخيبنا ظنها والحمد لله”.
وهذه المنهجية الاستراتيجية المستقبلية ستتضح أكثر بعد رئاسته للجمعية وتوسع نشاطها.
البشير وجمعية علماء المسلمين
في المدينة سنة (1913م) التقى الإبراهيمي بالشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ الطيب العقبي وكان قد سبقهما في الهجرة إلى المدينة، فكانوا يلتقون للبحث في شؤون الجزائر وسبل النهوض بها ومن هذه اللقاءات تأسست جمعية العلماء المسلمين بعد سبعة عشر عاماً.
عاد الإبراهيمي إلى الجزائر مرَّة أخرى عام (1920م) بعد سفره إلى دمشق والمكوث بها ثلاث سنوات لتدريس الآداب العربية في المدرسة السلطانية (مكتب عنير). وعند عودته إلى الجزائر كان مشغولاً بفكرة وجود حركة تحيي الإسلام في وطنه، وتنشر العلم، وتبعث شباب وفتيات الأمَّة.
أُعجب بعد وصوله بالنتائج المثمرة التي حققها الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله، الذي سبق أن التقاه بالمدينة المنوَّرة في موسم الحج عام (1913م)؛ فكان هذا اللقاء مقدِّمة اللقاء الأخير الذي رأى ثماره بين الجزائريين، فأسَّس والشيخ ابن باديس جمعية “العلماء المسلمين الجزائريين” في 1931م، كردّ فعل إيجابي على احتفال فرنسا بمرور قرن على احتلال الجزائر، وقد أيقنت فرنسا أنَّ الجزائر أصبحت قطعة منها إلى الأبد، نصرانية الدين، فرنسية اللسان. وجاء شعار الجمعية صارخاً مدوِّياً في وجه فرنسا، راسماً طريق الخلاص منها. كانت عبارات الشعار تقول :”الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا”.
وضع الإبراهيمي دستور الجمعية، وقانونها الأساسي، وأصبح نائباً لرئيسها الإمام ابن باديس، ثمَّ تكفَّل بالمقاطعة مع الغرب عام (1933م) واختار مدينة “تلمسان” مركزاً لنشاطه المكثَّف، وأسس فيها مدرسة “دار الحديث” سنة (1937م) وبناها على نسق هندسي أندلسي أصيل، فكانت مركز إشعاع ديني وعلمي وثقافي.
لم يكن الفرنسيون ليغضوا الطرف عن هذا الطوفان الثائر، الذي حرَّك الناس واجتذبهم إليه، فحاولوا إغراءه واحتواءه وترويضه، فلم يجدوا له سبيلاً، فأعادوا الكرَّة بتثبيطه وعرقلة مسيرته، فلم يُفلحوا..! وبعد عدَّة محاولات قررت سلطات الاحتلال نفيه إلى قرية “آفلو” في الجنوب الغربي من الجزائر في مطلع الحرب العالمية الثانية.
بعد أسبوع من نفيه تلقَّى خبر وفاة رفيقه الإمام عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ وخبر اجتماع أعضاء الجمعية، وانتخابهم إياه رئيساً للجمعية برغم الضغوط الفرنسية الرامية إلي انتخاب غيره، فتحمَّل مسؤولية قيادة الجمعية غيابياً، وتولَّى إدارتها بالمراسلة طوال الأعوام الثلاثة التي قضاها في منفاه.
وبعد إطلاق سراحه عام (1943م) أصبح قائداً للحركة الدينية والعلمية والثقافية في الجزائر، يجوب ربوعها معلِّماً وموجِّهاً ومرشداً، يوحِّد الصفوف ويؤسِّس المدارس والمساجد والنوادي، ويهيئ العقول لساعة الصفر التي كانت تخطط لها نخبة من الحركة السياسية.
سافر الإبراهيمي إلى المشرق العربي عام (1952م) ممثلاً لجمعية العلماء، ليسعي لدى الحكومات العربية لقبول بعثات طلابية جزائرية في معاهدها وجامعاتها، وطلب الإعانة المادية والمعنوية للجمعية، حتى تستطيع مواصلة أعمالها وجهادها، وقد اتخذ من مصر منطلقاً لنشاطه، ورعى فيها أوَّل البعثات الطلابية، وكان سفيراً للجزائر وصوتها المدوِّي، يلقي المحاضرات والدروس في المراكز الإسلامية، والأحاديث الإذاعية في الإذاعة، قبل الثورة وفي أثنائها، يدعو الشعب إلى الالتفاف حول الثورة المسلحة، وخوض غمار الجهاد المقدَّس ضد الاحتلال، والتضحية بالنفس والنفيس، فكان هذا النداء إسكاتاً لكلّ من يريد التشكيك في شرعية الجهاد باسم الإسلام، ودفعاً قوياً للثورة الوليدة.
ووجدت الجمعية وبرامجها استجابة شعبية واسعة، لثقة الناس بصدق وأخلاص مؤسسيها والقائمين عليها، وقدّم الناس لها التبرعات فاستطاعت أن تؤسس المساجد وتنشئ المدارس والنوادي بأموالها الخاصة، وتفرِّغ العلماء وتيسِّر لهم الاضطلاعَ بمهامهم، ونمت فروعها في الجزائر بسرعة لم يتوقعها أحد، وأقبل الجزائريون على مدارسها ودروسها بأعداد كبيرة، ففي السنة الأولى تم تأسيس (22) شعبة، وفي سنة (1936) كان عدد الشعب (33) شعبة، ووصل في سنة (1938) إلى (58) شعبة، وذلك رغم العقبات التي بدأت توضع في طريقها، وانتشرت مدارسها في جميع مدن الجزائر وقراها، وكان من حكمة القائمين على الجمعية أن جعلوها ذات تصميم معماري واحد لتُعرف به ويقر في نفوس الناس توسعها ونجاحها.
البشير والثورة
مع قيام الثورة ضد فرنسا بالجزائر في (1/11/1954م)، أصبحت مهمة الإبراهيمي الكبرى دعم الثورة والتحريض على نصرتها؛ فكان أول قائد جزائري يحتضن الثورة ويؤيدها، مما كان بمثابة الفتوى الشرعية بالنفير العام والجهاد بالمال والنفس والولد، وكان في طليعة من وقّع على ميثاق جبهة تحرير الجزائر، لأن الإبراهيمي كان يعتقد أن الثورة هي النتيجة الطبيعية لجهود جمعية العلماء طيلة ثلاثين سنة بتعليم الشباب وبث المعرفة بينهم.
إن مكانة الإبراهيمي في الثورة الجزائرية لا يمكن وصفها إلا بأنه «روح الثورة». ولقد شهد رئيس الوفد العراقي في لأمم المتحدة “د. فاضل الجمالي” أن الإبراهيمي قال في كلمة له بمناسبة استقلال ليبيا في عام (1951م):
“إنّ الجزائر ستقوم قريبا بما يدهشكم من تضحيات وبطولات في سبيل نيل استقلالها، وإبراز شخصيتها العربية الإسلامية”.
وذلك أنه كان يتلمس الانفجار الشعبي في أية لحظة.
وشارك الإبراهيمي في تأسيس مكتب المغرب العربي بالقاهرة والذي يضم تونس والمغرب والجزائر للتحرر من قبضة فرنسا، وافتتاح إذاعة صوت الجزائر من الإذاعة المصرية، وقد كان أول صوت يصدر من هذه الإذاعة هو صوت البشير الإبراهيمي مناديًا الثوار:
“لا نسمع عنكم أنكم تراجعتم، أو تخاذلتم”.
وأصبح الإبراهيمي لسان الثورة في المقابلات الصحفية والإذاعة المصرية والمنتديات والدول التي زارها داعيا لدعم الثورة، فالتقى بالملوك والرؤساء العرب والشعوب والعلماء والمفكرين. وحين زار باكستان لهذا الغرض أصيب بحادث سيارة وكسر عموده الفقري وألزمه الفراش شهوراً، فطلب أن لا ينشر خبر إصابته فتشمت فرنسا بالثورة الجزائرية.
ولدور الجمعية المحوري والهام في الثورة الجزائرية فقد كان أفراد الجمعية هم نواة جيش التحرير الجزائري، وقد أعلنت الجمعية بيانا رسمياً عن دعمها للثورة في مجلتها (البصائر) في عدد (7/1/1956م)، فقام الاحتلال الفرنسي بحل الجمعية وسحب ترخيصها سنة (1956م). وقد شارك فرع فرنسا بدعم الثورة من خلال تنظيم الجالية المتواجدة في فرنسا وتأطيرها لصالح الثورة.
البشير والقضايا الاجتماعية
كانت القضايا الاجتماعية وقضايا المرأة على وجه الخصوص من أوَّل القضايا التي استرعت انتباهه، ذلك أنَّ المرأة هي عمق أيّ مجتمع وهي حاضنته، منها الانطلاقة وإليها الأوبة، فكان يركِّز عليها ويفعِّل دورها ويجعلها محوراً مهماً في مقاومة المحتل.
وكان يدعو الآباء والشباب إلى الزواج للحفاظ على تماسك المجتمع الجزائري وعفّته، وتكثير سواد المسلمين في مواجهة الطغيان الصليبي الذي اجتاح الديار، فكان ينادي في الآباء قائلاً:
“يا أيُّها الآباء.. يسِّروا ولا تعسِّروا، وقدِّروا لهذه الحالة عواقبها وارجعوا إلى سماحة الدين ويُسره وإلى بساطة الفطرة ولِينها. إنَّ لِبناتكم مزاحمات في السوق على أبنائكم ـ يقصد بنات المحفل ـ وإنَّ معهن من الإغراء والفنون ما يضمن لهن الغلبة في الميدان، فحذار أن يغلب ضعفهن قوتكم”.
ثمَّ يوجِّه خطابه للشباب يحضُّهم على الزواج والحرص عليه، فيقول:
“أيُّها الشبان إنَّكم لا تخدمون أمَّتكم بأشرف من أن تتزوَّجوا، فيصبح لكم عرض تدافعون عنه، وزوجات تحامون عنها، وأولاد يوسعون الآمال، هنالك تتدرَّبون على المسؤوليات، وتشعرون بها، وتعظم الحياة في أعينكم، وإنَّ الإعراض عن الزواج فرار من أعظم مسؤولية، قد كان أجدادكم العرب يضعون نساءهم وذراريهم خلف ظهورهم في ساعة اللقاء لئلا يفرُّوا.. وهذا هو الحفاظ”.
البشير في دمشق
في دمشق تعرف “البشير الإبراهيمي” على عدد وافر من العلماء على رأسهم علامة الشام الشيخ “بهجة البيطار”، وهناك باشر “الإبراهيمي” بالوعظ والإرشاد في الجامع الأموي، والتدريس بالمدرسة السلطانية (مكتب عنبر)، فتخرج على يديه عدد من فطاحل الشام وقادته مثل “د.جميل صليبا”، و “د. عدنان الأتاسي”.
وقد شارك الإبراهيمي في جهود الإصلاح والنهضة من خلال مشاركته في الندوات والمجالس والنوادى التي كانت تسعى إلى توحيد العرب والمسلمين.
ولما دخل الأمير فيصل دمشق طلب من البشير الإبراهيمي أن يعود للمدينة وأن يتولى إدارة المعلاف بها، لكنه فضل العودة إلى وطنه الجزائر.
من أقواله
“إننا أمام استعمارين يلتقيان عند غاية:
أحدهما: استعمار روحاني داخلي يقوم به جماعة من إخواننا الذين يُصلُّون لقبلتنا باسم الدين، وغايتهم استغلال الأمة، ووسيلتهم صد الأمة عن العلم، حتى يستمرّ لهم استغلالها، وهؤلاء هم مشائخ الطرق الصوفية التي شوّهت محاسن الإسلام.
والثاني: استعمار مادي تقوم به حكومة الجزائر باسم فرنسا، وغايته استغلال الأمة، ووسيلته سد أبواب العلم في وجه الأمة حتى يتم لها استغلالها.
والاستعماران يتقارضان التأييد، ويتبادلان المعونة، كل ذلك على حساب الأمة الجزائرية المسكينة، أولئك يضلّونها، وهؤلاء يذلّونها. وجميعهم يستغلّونها”.
“جاء الاستعمار الفرنسي إلى هذا الوطن كما تجيء الأمراض الوافدة، تحمل الموت وأسباب الموت..
والاستعمار سُلّ يحارب أسباب المناعة في الجسم الصحيح، وهو في هذا الوطن قد أدار قوانينه على نسخ الأحكام الإسلامية، وعبث بحرمة المعابد، وحارب الإيمان بالإلحاد، والفضائل بحماية الرذائل، والتعليم بإفشاء الأمية، والبيان العربي بهذه البلبلة التي لا يستقيم معها تعبير ولا تفكير”.
“جاء الاستعمار الدنس الجزائر يحمل السيف والصليب، ذاك للتمكن وهذا للتمكين”، وقد قام الاحتلال بـ “استقدام عدد كبير من الرهبان والمعلمين والأطباء، فالراهب ينشر النصرانية ويشكك المسلمين في عقيدتهم، والمعلم يفسد العقول ويبعد الأمة عن لغتها ويشوه التاريخ ويزهّد في الدين، والطبيب يداوي علة بعلل، ويقتل جرثومة بجراثيم”.
“إذا كان الإسلام دينا وسياسة، فجمعية العلماء دينية وسياسية، قضية مقنعة لا تحتاج لسؤال وجواب، وجمعية العلماء ترى أن العالِم الديني إذا لم يكن عالِما بالسياسة ولا عاملا بها، فليس بعالِم، وإذا تخلى العالم الديني عن السياسة فمن يصرفها و يديرها”.
“كيف يشقى المسلمون وعندهم القرآن الذي أسعد سلفهم..؟ أم كيف يتفرقون ويَضلون وعندهم الكتاب الذي جمع أولهم على التقوى..؟ فلو أنهم اتبعوا القرآن وأقاموا القرآن لما سخِر منهم الزمان وأنزلهم منزلة الضعة والهوان.
ولكن الأولين آمنوا فأمنوا واتبعوا فارتفعوا، ونحن فقد آمنا إيماناً معلولاً، واتبعنا اتباعاً مدخولاً، وكل يجني عواقب ما زرع”.
“فلعمرك ـ يا مصر ـ إنهم لم يقاتلوك بالحديد والنار، إلا ساعة من النهار؛ ثم بالكتاب الذي يزرع الشك، وبالعلم الذي يمرض اليقين، وبالصحيفة التي تنشر الرذيلة، وبالقلم الذي يزين الفاحشة، وبالبغي التي تخرب البيت، وبالحشيش الذي يهدم الصحة، وبالممثلة التي تمثل الفجور، وبالراقصة التي تغري بالتخنث، وبالمهازل التي تقتل الجد والشهامة، وبالخمر التي تذهب بالدين والبدن والعقل والمال، وبالشهوات التي تفسد الرجولة، وبالكماليات التي تُثقل الحياة، وبالعادات التي تناقض فطرة الله، وبالمعاني الكافرة التي تطرد المعاني المؤمنة من القلوب..
فإن شئتِ أن تُذيبي هذه الأسلحة كلها في أيدي أصحابها فما أمرك إلا واحدة، وهي أن تقولي: إني مسلمة، ثم تصومي عن هذه المطاعم الخبيثة كلها.
إن القوم تجار سوء، فقاطعيهم تنتصري عليهم، وقابلي أسلحتهم كلها بسلاح وهو التعفف عن هذه الأسلحة كلها.. فإذا أيقنوا أنك لا حاجة لك بهم، أيقنوا أنهم لا حاجة لهم فيك وانصرفوا؛ وماذا يصنع المرابي في بلدة لا يجد فيها من يتعامل معه بالربا؟”.
“إنكم في نظر العالم العاقل المنصف لم تثوروا، وإنما أثارتكم فرنسا بظلمها الشنيع وعُتُوِّها الطاغي، واستعبادها الفظيع لكم قرنا وربع قرن، وامتهانها لشرفكم وكرامتكم، وتعديها المريع على مقدساتكم.. وقد قمتم الآن قومة المسلم الحر الأبي فنعيذكم بالله وبالإسلام أن تتراجعوا أو تنكصوا على أعقابكم؛ إن التراجع معناه الفناء الأبدي والذل السرمدي”.
نفيه واعتقاله
وقد أُبعد الإبراهيمي إلى صحراء وهران سنة (1940م). وبعد وصوله إلى معتقل الصحراء بأسبوع توفي الشيخ ابن باديس، فقرر رجال الجمعية انتخاب الإبراهيمي لرئاستها، واستمر في معتقل “أفلو” الصحراوي من سنة (1940م) إلى سنة (1943م).
وبعد إطلاق سراحه أنشأ في عام واحد (ثلاثًا وسبعين) مدرسة وكتّابًا؛ وكان الهدف نشر اللغة العربية، وجعل ذلك عن طريق تحفيظ القرآن الكريم، إبعادًا لتدخل سلطات الاحتلال الفرنسي؛ وقد تسابق الجزائريون على بناء المدارس فزادت على أربع مئة مدرسة.
وفي سنة (1945م) زُجّ به في السجن العسكري ولقي تعذيبًا شديدًا من الفرنسيين، ثم أُفرج عنه، فقام بجولات في أنحاء الجزائر لتجديد النشاط في إنشاء المدارس والأندية والكتاتيب، ثم استقرّ به المقام سنة (1952م) بالقاهرة.
وحين اندلعت الثورة الجزائرية سنة (1954م) قام برحلات إلى الهند وغيرها لإمداد الثورة بالمال والسلاح.
آثاره ومؤلفاته
كان من أعضاء المجامع العلمية العربية بدمشق والقاهرة وبغداد، وله شعر إسلامي يعتبر ملحمة في تاريخ الإسلام، بلغ حوالي ستة وثلاثين ألف بيت، كان ينشره في مجلة (البصائر) التي كان رئيس تحريرها؛ وهو من خطباء الارتجال المفوّهين.
وقد طُبعت مقالاته في كتاب (عيون البصائر). كما أن له كتبًا أخرى منها:
- شُعَب الإيمان.
- الثلاثة.
- حكمة مشروعية الزكاة في الإسلام.
- الاطراد والشذوذ في العربية.
- التسمية بالمصدر
- أسرار الضمائر العربية.
- الصفات التي جاءت على وزن فَعلَ.
- كاهنة أوراس.
- نظام العربية في موازين كلماتها.
- رسالة في ترجيح أن الأصل في الكلمات العربية ثلاثة أحرف لا اثنان.
- نشر الطي من أعمال عبد الحي.
- ملحمة شعرية
- رسالة في مخارج الحروف وصفاتها بين العربية الفصيحة والعامية.
- الأخلاق والفضائل.
وغيرها كثير جدًا.
وفاته
في الثامن عشر من المحرم من عام (1385هـ) الموافق (20 أيار/مايو 1965م) توفي في الجزائر، عن (79) سنة، الإمام المجاهد والعالم الأديب والخطيب المصقع الشيخ “محمد البشير الإبراهيمي”، أحد رواد النهضة الإسلامية في الجزائر والمغرب العربي.
………………………….
المصادر:
- العالم العلاّمة محمد البشير الإبراهيمي.. بقلم/ عبدالله العقيل.
- محمد البشير الإبراهيمي.. المسيرة والجهود (في ذكرى مولده: 15 من شوال 1306 هـ).سمير حلبي.
- ترجمة العلامة السلفي البشير الابراهيمي..علي محمد الغريب .
- رموز الإصلاح – العلاّمة محمد البشير الإبراهيمي…أسامة شحاته.
- الشيخ محمد البشير الإبراهيمي..كاتب الترجمة : الأستاذ محمد زاهد أبو غدة.
- مجددون معاصرون ذو الحجة – 1408هـ..مجلة البيان، العدد 113.
- شخصية الإمام محمد البشير الإبراهيمي الإصلاحية…محمد الصلابي.