الله عز وجل هو المتصرِّف في الممالك كلِّها وحده؛ تصرُّف ملك قادرٍ قاهرٍ، عادلٍ رحيم، تامُّ الملك؛ لا يُنازعه في ملكه منازعٌ؛ ولا يُعارضه فيه معارضٌ، فتصرُّفه في المملكة دائرٌ بين العدل والإحسان؛ والحكمة والمصلحة والرحمة؛ فلا يخرج تصرُّفه عن ذلك.
الملك، المليك، المالك
ورد ذكر هذه الأسماء الحسنى في القرآن الكريم بعضها مفردًا وبعضها مضافًا.
فاسمه سبحانه (الملك) ورد في القرآن الكريم (5 مرات) منها قوله تعالى: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة: 4] وهي قراءة سبعية متواترة .. وقوله سبحانه: (مَلِكِ النَّاسِ) [الناس: 2].
وقوله تعالى: (فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) [طه: 114]، وقوله تعالى: (الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) [الجمعة: 1].
وجاء في دعائه صلى الله عليه وسلم في استفتاح الصلاة: ( … اللَّهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي واعترفت بذنبي .. الحديث)1(1) رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3611)..
وأما اسمه سبحانه (المليك) فجاء في القرآن الكريم مرة واحدة وذلك في قوله تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: 54-55].
وأما اسمه سبحانه (المالك) فجاء في القرآن الكريم مرتين مضافًا؛ وذلك في قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ..) الآية [آل عمران: 26]. وقوله سبحانه: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة:4]
وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أخنع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك؛ لا مالك إلا الله)2(2) رواه مسلم (2143)..
وعن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: “جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أو يا أبا القاسم إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع، والأراضين على أصبع، والجبال والشجر على أصبع، والماء والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع؛ ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أنا الملك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا مما قال الحبر، تصديقًا له ثم قرأ: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67] “3(3) البخاري (4811)، ومسلم (2786)..
المعنى اللغوي (للملك)
“المَلْك، والمَلِك، والمَليك، والمالك: ذو الملك.
قال ابن سيده: المَلْك، المُلك، والمِلْك: احتواء الشيء والقدرة على الاستبدادية وتملكه: أي ملكه قهرًا، وأملكه الشيء ومَّلكه إياه تمليكًا: جعله مِلكًا له. وأملكوه زوجوه، شبه الزوج بملك عليها في سياستها. والملكوت مختص بملك الله تعالى وهو مصدر ملَكَ، أدخلت فيه التاء نحو: جبروت ورهبوت ورحموت. قال تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف: 185] “4(4) انظر النهاية 4/ 358، واللسان 6/ 4266، والمفردات للراغب 472..
معناه في حق الله تعالى
قال ابن جرير رحمه الله تعالى: “المَلِك: الذي لا ملك فوقه ولا شيء إلا دونه”5(5) تفسير الطبري 28/ 36..
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: “وهو الله الذي لا إله إلا هو الملك أي: المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا مبالغة ولا مدافعة”6(6) تفسير ابن كثير 4/ 343..
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: “إن من أسمائه: (الملك)، ومعناه الملك الحقيقي ثابت له – سبحانه – بكل وجه، وهذه الصفات تستلزم سائر صفات الكمال. إذ من المحال ثبوت الملك الحقيقي التام لمن ليس له حياة ولا قدرة، ولا إرادة ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا فعل اختياري يقوم به، وكيف يُوصف بالمُلك مَنْ لا يأمر ولا ينهي؛ ولا يُثيب ولا يُعاقب؛ ولا يُعطي ولا يمنع؛ ولا يُعِزُّ ولا يذل؛ ولا يُهين ولا يُكرم؛ ولا يُنعم ولا ينتقم؛ ولا يخفض ولا يرفع، ولا يُرسل الرسل إلى أقطار مملكته، ولا يتقدَّم إلى عبيده بأوامره ونواهيه؟ فأيُّ مُلكٍ في الحقيقة لمن عدم ذلك؟
وبهذا يتبين أن المعطلِّين لأسمائه وصفاته: جعلوا مماليكه أكمل منه، ويأنف أحدُهم أن يُقال في أمره وملكه ما يقوله هو في ربِّه.
فصفة ملكه الحقِّ مستلزمةٌ لوجود ما لايتمُّ التصرف إلا به، والكلُّ منه – سبحانه – فلم يتوقَّف كمالُ ملكه على غيره، فإن كلَّ ما سواه مُسندٌ إليه؛ متوقِّفٌ في وجوده على مشيئته وخلقه”7(7) شفاء العليل 2/ 609 – 610..
وهذه المعاني التي تضمَّنها اسم الجلالة (الملك): هي ما يتمُّ به حقيقة المُلك، كما ذكر ذلك ابن القيم – رحمه الله تعالى – في موطن آخر حيث يقول: “إن حقيقة الملك: إنما تتم بالعطاء والمنع؛ والإكرام والإهانة؛ والإثابة والعقوبة؛ والغضب والرضا؛ والتولية والعزل؛ وإعزاز من يليق به العِزُّ، وإذلال من يليق به الذلُّ. قال تعالى: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمرن: 26-27]، وقال تعالى: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرحمن: 29].
يغفر ذنبًا؛ ويُفرّج كربًا؛ ويكشف غمًا، وينصر مظلومًا؛ ويأخذ ظالمًا، ويفكُّ عانيًا؛ ويُغني فقيرًا، ويجبر كسيرًا؛ ويشفي مريضًا، ويُقيل عثرةً؛ ويستر عورةً، ويُعِزُّ ذليلاً؛ ويُذِلُّ عزيزًا؛ ويُعطي سائلاً، ويُذهب دولةٍ ويأتي بأخرى؛ ويداول الأيام بين الناس؛ ويرفع أقوامًا ويضع آخرين، ويسوق المقادير التي قدَّرها قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف عامٍ إلى مواقيتها؛ فلا يتقدَّم شيءٌ منها عن وقته ولا يتأخَّر، بل كلُّ منها قد أحصاه كما أحصاه كتابه؛ وجرى به قلمه؛ ونفذ فيه حكمه؛ وسبق به علمه، فهو المتصرِّف في الممالك كلِّها وحده؛ تصرُّف ملك قادرٍ قاهرٍ، عادلٍ رحيم، تامُّ الملك؛ لا يُنازعه في ملكه منازعٌ؛ ولا يُعارضه فيه معارضٌ، فتصرُّفه في المملكة دائرٌ بين العدل والإحسان؛ والحكمة والمصلحة والرحمة؛ فلا يخرج تصرُّفه عن ذلك”8(8) طريق الهجرتين وباب السعادتين ص 228، 229..
اختصاص الله – عز وجل – بالملك يوم القيامة
الله – عز وجل – مالك يوم الدين والدنيا، ولكن ذكر عن نفسه سبحانه أنه (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) لأن هناك من يدعي في الدنيا أنه ملك يأمر وينهى ويمتلك الضياع والقصور والذهب والفضة، ولكن ملكهم هذا عارية زائلة فإما أن يزول ملكهم عنهم أو يزولوا عنه، أما يوم الدين والحساب فإن أحدًا لا يدعي أنه يملك شيئًا لأن الناس يحشرون حفاة عراة غرلاً بُهمًا كما وصفهم الله سبحانه بقوله: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) … الآية [الأنعام: 94]، وقال سبحانه عن ملكه يوم القيامة: (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا) [الفرقان: 26].
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يطوي الله – عز وجل – السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟)9(9) رواه مسلم (2788)..
وفي يوم القيامة ينادي الرب سبحانه: (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) فلا يجيبه أحد فيجيب نفسه بنفسه، سبحانه، (لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر: 16].
وملوك الدنيا وإن ادعوا أنهم ملوك، فإن ملكهم غير حقيقي وإنما الملك الحقيقي لله وحده لا شريك له، وكل من ملك شيئًا فإنما بتمليك الله له، والله سبحانه يؤتي ملكه من يشاء، وينزعه عمن يشاء، وملوك الدنيا يحتاجون إلى حجبة وحراس يحمون لهم ملكهم.
من آثار اسمه سبحانه (الملك، المليك، المالك)
1 – الله هو الملك الحق للسماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، لأنه خالقهما فلا يخرج شيء من خلقه عن ملكه، وهذا يقتضي أنه سبحانه المدبر لهما المتصرف فيهما كما يشاء بقدرة مطلقة لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، وهذا الملك العظيم لله تعالى يتصرف فيه سبحانه بعلمه وحكمته ورحمته وعدله، فله الحمد في ملكه وخلقه وفي أفعاله وصفاته كلها، ولذا كان قول: “لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير”؛ أفضل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم والنبيون من قبله، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: “اسمه (الملك) يقتضي مملكة وتصرفًا، وتدبيرًا، وإعطاءً، ومنعًا، وإحسانًا، وعدلاً، وثوابًا، وعقابًا”10(10) مدارج السالكين 1/ 418..
2 – ومن لوازم الملك بمعناه الشامل المطلق الذي هو لله وحده ولا يشركه فيه أحد أن يكون قادرًا على كل شيء لا يمتنع عليه شيء ولا يعجزه شيء، قاهرًا لكل شيء قد خضع له كل شيء، ولذا فإن من صفات الله – عز وجل – التي هي أخص باسم (الملك): صفات العدل، والقبض، والبسط، والخفض والرفع، والعطاء والمنع، والإعزاز والإذلال، والقهر والحكم، ونحوها.
3 – عدم خروج أمر من الأمور، أو فعل من الأفعال البتة عن تصرف الملك الحق – سبحانه وتعالى – وتدبيره، وإلا لم يعقل له ثبوت ملك على الحقيقة، وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: “قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) والملك: هو المتصرف فيما هو ملك عليه ومالك له، ومن لا تصرف له ولا يقوم به فعل البتة: لا يعقل له ثبوت ملك ولا مالك”11(11) الصواعق المرسلة 4/ 1223..
4 – صفة الملك الحقيقي تقتضي الحكمة في خلق الخلق، وعدم تركهم سدى، كما تقتضي إرسال الرسل وإنزال الكتب، وأمر العباد ونهيهم، وثوابهم، وعقابهم، كما تستلزم حياة الملك، وعلمه، وإرادته، وقدرته، وسمعه، وبصره، وكلامه، ورحمته، وغضبه، واستواءه على سرير ملكه يدبر أمر عباده.
5 – من مقتضى صفة الملك الحقيقي أنه سبحانه المالك الحقيقي لخزائن السماوات والأرض. فإن ملوك الدنيا إن أنفقوا من أموالهم نقصت خزائنهم وقلَّتْ، والله سبحانه هو الذي ملكهم إياها، أما الله سبحانه فله خزائن السماوات والأرض وملكه لا ينقص بالعطاء والإحسان، بل يزداد، كما جاء في الحديث القدسي: ( … يا عبادي لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، اجتمعوا في صعيد واحد، ثم سألوني فأعطيت كل سائل مسألته، ما نقص ذلك عندي إلا كما ينقص البحر … الحديث)؟ وكونه سبحانه ملكًا يقتضي كونه رازقًا لخلقه من خزائنه التي لا ينقصها العطاء.
6 – من مقتضى اسمه سبحانه (الملك) أن يكون رحيمًا منزهًا عن الظلم والجور، ولذا – والله أعلم – اقترن اسمه سبحانه (الملك) باسمه (القدوس)، (السلام) لبيان أنه سبحانه مع كونه ملكًا قاهرًا يتصرف في خلقه كيف شاء، إلا أنه سبحانه منزه ومبرأ في أفعاله من الظلم والجور، فهو السلام الذي سلم عباده من ظلمه، وهو المؤمن الذي يؤمن عبيده من جوره وظلمه. فثبت أن كونه ملكًا لا يتم إلا مع كونه رحيمًا قدوسًا سلامًا.
7 – ومن آثار ملكه سبحانه التام على خلقه قهره للملوك والطغاة الجبابرة المتكبرين، وقصمه وإهلاكه لهم لما طغوا وبغوا وظنوا أنهم معاجزين لله تعالى وغرهم ملكهم وسلطانهم كما فعل ذلك بالفراعنة والقياصرة والأكاسرة، وانطوى ملكهم وأصبحوا نسيًا منسيًا.
من آثار الإيمان بأسمائه سبحانه (الملك، والملك، والمالك)
أولاً: توحيد الله – عز وجل – وعبادته وحده لا شريك له بالحب والخوف والرجاء، لأن هذه العبادة لا يستحقها إلا الملك الحق فاطر السماوات والأرض، المالك لهما، المتصرف فيهما فكيف تصرف العبادة لغيره ممن لا يملك شيئًا في السماوات ولا في الأرض؛ قال تعالى: (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) [فاطر: 13]، وقال سبحانه: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ) [النحل: 73]، وقال – عز وجل -: (إِن الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [العنكبوت: 17].
ثانيًا: الخوف منه سبحانه والرجاء فيه وحده، لأنه سبحانه المالك لكل شيء، والمتصرف في كل شيء، وهو القاهر فوق عباده: (مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) [هود: 56] فعندما يستشعر المؤمن هذه المعاني فإنه لا يخاف إلا من الله وحده، ولا يتوكل إلا على الله وحده، ولا يرجو إلا الله وحده ولذا لما هدد قوم عاد نبيهم هود – عليه السلام – قال متحديًا لهم ذاكرًا صفة الملك والقهر لله تعالى: (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود:54-56].
وحقيقة التوكل هذه من شأنها أن تبدد الهموم والأحزان والمخاوف، وتقضي على اليأس والقنوط.
ثالثًا: ولما كان من لوازم الملك لله تعالى الحكم والتشريع كان لزامًا على العباد قبول حكم الله تعالى وشرعه، ورفض ما سواه والإعراض عن التحاكم لغيره، فالحكم لله وحده.
قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 40]، وقال سبحانه: (وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) [الكهف: 26]، حيث لا أحسن، ولا أكمل من حكم الله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50].
رابعًا: الاعتصام بالله الملك الحق، والاستعانة والاستغاثة به وحده وأن لا يلوذ العباد المملوكون المربوبون في نوائبهم إلا إلى مليكهم ومعبودهم سبحانه.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: “إن من صفات الكمال وأفعال الحمد والثناء: أنه يجود ويُعطي ويمنح، فمنها أن يُعيذ وينصر ويُغيث، فكما يُحِبُّ أن يلوذ به اللائذون: يُحِبُّ أن يعوذ به العائذون، وكمال الملوك: أن يلوذ بهم أولياؤهم؛ ويعيذوا بهم، كما قال أحمد بن حسين الكندي في ممدوحه:
يا من ألوذ به فيما أؤمِّله ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظمًا أنت كاسره ولا يهيضون عظمًا أنت جابره
ولو قال ذلك في ربِّه وفاطره: لكان أسعد به من مخلوقٍ مثله.
والمقصود: أن ملك الملوك يُحِبُّ أن يلوذ به مماليكه؛ وأن يعوذوا به، كما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يستعيذ به من الشيطان الرجيم في غير موضع من كتابه، وبذلك يظهر تمام نعمته على عبده إذا أعاذه وأجاره من عدوه فلم يكن إعاذته وإجارته منه بأدنى النعمتين، والله تعالى يُحِبُّ أن يُكمل نعمته على عباده المؤمنين؛ ويُريهم نصره لهم على عدوِّهم، وحمايتهم منه، وظفرهم بهم، فيا لها من نعمةٍ كمل بها سرورهم ونعيمهم؛ وعدل أظهره في أعدائه وخصمائه”12(12) شفاء العليل 2/ 658، 659..
خامسًا: لما كان من مقتضى اسمه سبحانه (الملك) ملكه لخزائن السماوات والأرض، وتفرده سبحانه برزق العباد، وأن خزائنه ملأى لا تنضب، فإن اليقين بهذا يثمر في قلب العبد تعلقه بربه سبحانه في طلب رزقه واطمئنانه إلى ما كتب الله تعالى له مع أخذه بالأسباب التي أمر الله تعالى بها في طلب الرزق مع عدم تعلقه بها.
قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ) [المنافقون: 7]. وقال الله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود: 6]، وقال – عز وجل -: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ) [يونس: 31].
سادسًا: لما كان الملك الحقيقي هو لله تعالى وأن ملك العباد في الدنيا إنما هو ملك ناقص، وعارية مستردة، ولا يملكون إلا أن يملكهم الله تعالى، فإن الشعور بهذا يُلقي في القلب تواضعًا لله تعالى لكل متملك شيئًا من هذه الدنيا، سواء كان ملكًا كبيرًا كملك الملوك والسلاطين، أو كان تملكًا جزئيًا لمال أو أرض أو غير ذلك، ولذا جاء النهي عن التسمي بملك الأملاك أو شاهنشاه ونحوها من الأسماء التي تدل على التكبر والعلو في الأرض.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن أخنى الأسماء يوم القيامة عند الله، رجل تسمى ملك الأملاك)13(13) البخاري (6205)، (6206)..
سابعًا: تمجيد الله – عز وجل – باسمه الكريم (الملك) وقد جاءت أدعية وأذكار صحيحة تتضمن هذا الاسم الكريم والتوسل إلى الله – عز وجل – به كما في دعاء الاستفتاح لصلاة التهجد منه: (ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن)14(14) البخاري (1120)..
وكذلك ما ورد في دعاء الاستفتاح الآخر وفيه: (اللَّهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعًا؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت)15(15) صحيح مسلم (771)..
وكان يقول في دبر كل صلاة إذا سلم: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)16(16) البخاري في الدعوات باب الدعاء بعد الصلاة (6330)..
الهوامش
(1) رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الترمذي (3611).
(2) رواه مسلم (2143).
(3) البخاري (4811)، ومسلم (2786).
(4) انظر النهاية 4/ 358، واللسان 6/ 4266، والمفردات للراغب 472.
(5) تفسير الطبري 28/ 36.
(6) تفسير ابن كثير 4/ 343.
(7) شفاء العليل 2/ 609 – 610.
(8) طريق الهجرتين وباب السعادتين ص 228، 229.
(9) رواه مسلم (2788).
(10) مدارج السالكين 1/ 418.
(11) الصواعق المرسلة 4/ 1223.
(12) شفاء العليل 2/ 658، 659.
(13) البخاري (6205)، (6206).
(14) البخاري (1120).
(15) صحيح مسلم (771).
(16) البخاري في الدعوات باب الدعاء بعد الصلاة (6330).
اقرأ أيضا
كيف يكون الإيمان بالأسماء والصفات
قواعد وتنبيهات على أسماء الله الحسنى