استعمال مصطلح غير إسلامي يعد أمرا خطيرا؛ لأنه استعمال لمصطلحات نبتت في بيئة أخرى لها ظروفها، واستعمال مصطلحاتها يحمل مفاهيم مناقضة وخطيرة على عقيدتنا وتاريخنا.
قواعد ضابطة
تضمن (المقال الأول) بيان طرق التقييم والتفسير للتاريخ واعتبار الوحي أوثق الطرق للإثبات والتفسير، وتضمن (المقال الثاني) تأثير العقيدة والمبدأ في حركة التاريخ الاسلامي وخاصة تاريخ الأولين، وتضمن (المقال الثالث) العوامل المتداخلة للنفوس فلا ينفرد أحدها بالتفسير، واعتبار مقادير الرجال وتاريخهم ومواقفهم، وأما (المقال الرابع) فتضمن اعتبار العدل والانصاف وسوابق الخير والفضيلة، وتضمن (المقال الخامس) دور علم الجرح والتعديل، وكتب السنة، وضوابط الأخذ عن أهل الأهواء، وعن غير المسلمين واعتبار “روح العصر”.
وفي هذا الجزء الأخير من الدراسة يستكمل الكاتب بقية القواعد لضابطة في تفسير التاريخ، وخاصةً التاريخ الاسلامي.
القاعدة الخامسة عشر:
استعمال المصطلحات الإسلامية
تُعد قضية “المصطلحات” من أشد العناصر أثراً وأهمية وخطورة في ثقافة الشعوب لأنه عن طريقها يتم تثبيت المفاهيم والأفكار.
والمصطلح كلمة أو كلمتان، وقد لا تتعدى ذلك إلا في حالات نادرة لكن هذه الكلمة قادرة على تحويل التفكير من وجهة إلى نقيضها، بل قادرة على أن تُفقد الإنسان التفكير أصلاً.
ولأن المصطلحات بهذا القدر من الأهمية، فإنه منذ أن تقرر في أوكار الصهيونية والصليبية تدمير الخلافة الإسلامية، وأعداء الأمة الإسلامية يحرصون على تخريب الفكر الإسلامي، وتشويه العقل المسلم من باب المصطلحات والمفاهيم.
فقد كان من تأثير الغزو الثقافي الأوربي للمسلمين أن شاعت بينهم مصطلحات ومفاهيم غريبة عن عقيدتهم وثقافتهم حتى كادت أن تختفي المصطلحات الإسلامية..
على أن هذا المنزلق يتمثل في عدم وعي الباحثين المعاصرين بأن المصطلحات الحديثة إنما تنبثق من رؤية خاصة للفكر الغربي؛ فهي ذات “مضامين ودلالات محلية وتاريخية” لا يمكن فصلها عن ذلك الوسط الاجتماعي والظروف التاريخية والثقافية التي لابَسَت نشوء هذا المصطلح أو ذاك، فالمثقفون في العالم الإسلامي كانوا إلى مشارف الخمسينيات لا يدركون أن “المصطلح جزء لا يتجزأ من التركيبة أو البنية الحضارية لأي مجتمع”..
وكانوا في حالة الدفاع عن الذات يحاولون أن يوجدوا لكل عنوان براق في المدنية الغربية مثيله في الإسلام عن طريق عقد مقارنات شكلية لا تعير بالاً للارتباط الوثيق الذي يوجد بين المصطلحات والعقائد والأفكار المنبثقة من واقع مجتمع معين.
ولنذكر على سبيل المثال مصطلح “اليمين” و”اليسار”، فقد نشأ هذا المصطلح خلال الثورة الفرنسية، وذلك في اجتماع “الجمعية التأسيسية” المنعقدة بتاريخ الحادي عشر من شهر أيلول (سبتمبر) عام تسع وثمانين وسبعمائة وألف ميلادية، حيث جلس الأشراف ومؤيدو النظام الملكي على يمين الرئيس وجلس خصومهم أنصار الثورة على يساره، حتى أصبحت قاعدة تستخدم لتصنيف الفكر السياسي. (1)
[للمزيد اقرأ: الغزو المصطلحي (1-2) دلالة المصطلحات على مفاهيم الأمم]
بصمات التأثر بالغزو المصطلحي
ومما لا شك فيه أن هذه الخلفية التاريخية تركت بصماتها على التعريف إلا أنه في عصرنا هذا أصبحت كلمتا “اليمين” و”اليسار” تعبيرين مطاطيين يختلف مدلولهما حسب الدولة والمراحل التاريخية: فـ “اليسار” في دولة ما يعتبر “يميناً” في دولة أخرى.
ورغم أن تصنيفات “اليمين” و”اليسار” لعبة صهيونية (2)، إلا أن بعض الباحثين مع الأسف وظّفوها بصورة آلية، حتى أن بعضهم ألّفوا كتباً يصنفون فيها الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ إلى “يمين” و”يسار”..! وأن قمة الصراع الطبقي في زعمهم كانت بين “زعيم اليمين” معاوية بن أبي سفيان و”زعيم اليسار” علي بن أبي طالب..!
والتاريخ الإسلامي بالنسبة إلى هؤلاء عبارة عن يسار ويمين فـ “المعتزلة” يسار و”الأشاعرة” يمين، و”الفلسفة العقلانية الطبيعية” عند ابن رشد “يسار”، و”الفلسفة الإشراقية الفيضية” عند الفارابي وابن سينا “يمين” .. والمالكية الذين يقولون بـ “المصالح المرسلة” يسار، و”الفقه الافتراضي” عند الحنفية يمين .. و”التفسير بالمعقول” يسار، و”التفسير بالمأثور” يمين (3)، إلى غير ذلك من التصنيفات الغريبة.
[اطّلع للمزيد: الغزو المصطلحي (2-2) تبعية المصطلحات، والصراع الفكري]
إنه يجب الحذر من التقليد الأعمى، إذ يكمن خطر الذوبان في الفكر الجاهلي الغربي والضياع وسط مصطلحاته الكثيرة التي تفقدنا ذاتيتنا المستقلة وينبغي استعمال المصطلحات الإسلامية، لأنها ذات دلالة واضحة ومحددة ولأنها معايير شرعية لها قيمتها في وزن الأشخاص والأحداث..
فالقرآن الكريم قسم الناس إلى: «المؤمن» و «الكافر» و «المنافق»، ولكل من الثلاثة صفات محددة ثابتة ودقيقة لا تقبل التلاعب فيها.
فما ينبغي أن نَحيد عن هذا التقسيم إلى “مصطلحات” نبتت في أوساط “غير إسلامية” كوصف الإنسان بأنه “يميني” أو “يساري” أو غير ذلك من النعوت غير الشرعية والتي ليست محددة بصورة دقيقة وثابتة، وكذلك فإن الحكم على الأعمال والمنجزات التاريخية والحضارية ينبغي أن تستخدم فيه المصطلحات الشرعية وهي «الخير» و «الشر» و «الحق» و «الباطل» و «العدل» و«الظلم»، كما جاءت محددة في القرآن والسنة، ولا تستخدم معايير الفكر الغربي كالتقدمية والرجعية.. (4)
التوزيع الجفرافي والتاريخي من منظور غربي
وقد تابع الباحثون العرب الغربيين في كل شيء حتى في المصطلحات ذات العلاقة بالتوزيع الجغرافي والتوزيع التاريخي التي لا صلة لها بواقعهم أو تاريخهم..!
ففي إطار التوزيع الجغرافي وضع الغربيون مصطلحات “الشرق الأدنى” و”الشرق الأوسط” و”الشرق الأقصى”، وهي مصطلحات يستعملها العرب اليوم بلا بصيرة وذلك لأن المستعمر الأوربي اعتبر نفسه في مركز الأرض فأطلق هذا التوزيع بالنسبة لموقعه.
وكذلك التوزيع التاريخي مثل “العصور القديمة” و”العصور الوسطى” و”العصور الحديثة”؛ فهذا التوزيع يتميز بمراحل وتقلبات تاريخية عاشتها “أوربا” مما يجعل لكل فترة من هذه الفترات خصائص ومفاهيم مستقلة تبعاً للتطورات والانقلابات الفكرية والعقائدية التي عاشتها أوربا في كل حقبة من هذه الحقب:
فـ “العصور القديمة” تميزت بـ “الوثنيات” الإغريقية والرومانية، ثم جاءت “العصور الوسطى” فعرفت “هيمنة الكنيسة” وتسلط البابوية، بينما كان من سمات “العصور الحديثة” ظهور النظم “العلمانية” والدول الحديثة..
تاريخ الاسلام، وتاريخ الأنبياء
أما “التاريخ الإسلامي” بما فيه “تاريخ الأنبياء” فهو “وحدة واحدة” بالنظر إلى المفاهيم والمبادئ السائدة فيه التي لا تتبدل تبعاً لتبدل الزمان والدول والحكام؛ لأنه تاريخ أمة ذات عقيدة واحدة ثابتة لا يطرأ عليها التغيير، ولذلك ليس بلازم أخذ هذا “التوزيع الأوربي” ولا متابعتهم عليه لأنه يفتت تاريخنا ويوجد الحواجز بين عصوره.
الحاجة لمنهج إسلامي للتاريخ
وفي الختام لا يسعني إلا أن أدعو الباحثين والمؤرخين المسلمين إلى تقديم دراسات مفصلة تكشف عن حقائق التاريخ الإسلامي، وصياغة “منهج نقدي” تعامل وفقه الروايات التاريخية، والمساهمة في تصحيح الأفكار والمفاهيم، والعودة بالنشء إلى المنابع الصافية في الكتاب والسنة؛ لأن تاريخ هذه الأمة بمثابة عِرضها وشرفها، إذ هو “القناة” التي أوصلت لنا هذا الدين جملة وتفصيلاً وبقدر ما تتلوث القناة يتلوث المنقول خلالها.
ومن الواضح أن إبراز المنهج الإسلامي في كتابة التاريخ، وتدوين قواعده، وبيان ركائزه ومنطلقاته، والالتزام به من أهم وسائل التصحيح المنشود في هذا السبيل، وأن هذا الالتزام يعد ضرورة علمية، ووظيفة شرعية وحاجة إنسانية. والإخلال بها إخلال بموازين العلم الصحيحة وبالأحكام الشرعية، كما يسبب ذلك نقصاً كبيراً في الدراسة وتشويهاً للوقائع التاريخية بل يسبب انحرافاً خطيراً في التفسير والفهم والسلوك تجاه الأحداث.
ومن ثم أصبح فرضاً على كل من يستطيع تصحيح تاريخ صدر الإسلام أن يعتبر ذلك “من أفضل العبادات”، وأن يبادر له ويجتهد فيه ما استطاع إلى أن يكون أمام شباب المسلمين مثال صالح من سلفهم يقتدون به ويحددون عهده ويصلحون سيرتهم بصلاح وكمال سيرته.
ولأجل ذلك؛ لا بد من محاولة جادة لإعادة صياغة التاريخ الإسلامي بأقلام إسلامية تؤمن بالله ورسوله، وتحب صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع إحساس بدور الإسلام في الحياة، كما تحسّ بدور القدوة الصالحة للـ “الخلافة الراشدة” في تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا.
لا سيما وأن تاريخ الخلفاء الراشدين اختص بصفات تميز بها الخلفاء في سلوكهم الذاتي، وفي إدارتهم لشؤون الأمة ورعايتهم لدينها وعقيدتها، وحفاظهم على المنهج الذي جاء به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الدعوة والجهاد وإقامة العدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولذلك صار “عصرهم” مع “عصر النبوة” معلماً بارزاً ونموذجاً مكتملاً ينبغي أن نسعى إلى محاولة الوصول إليه، وجعله مَعْلماً من معالم التأسي والقدوة الصالحة للأجيال الإسلامية في هذا العصر.
…………………………………………
الهوامش:
- محمد بن صامل السلمي: منهج كتابة التاريخ الإسلامي ،ص 253-256.
- المرجع السابق نفسه، ص258-259.
- عبدالرحمن الزيد، مصطلحات سياسية، ص139، مجلة السنة، العدد السادس 1990.
- انظر عماد الدين خليل: لعبة اليمين واليسار.
- انظر مثلا: ماذا يعني اليسار الإسلامي، لحسن حنفي .
- أكرم ضياء العمري: المجتمع المدني في عهد النبوة، ص23.
- محمد بن صامل السلمي: منهج كتابة التاريخ الإسلامي، ص268.
- المرجع السابق نفسه، ص268.
لقراءة الدراسة كاملة:
اقرأ أيضا:
- منهج التفسير التاريخي .. قواعد منهجية (1 – 6)
- منهج التفسير التاريخي .. قواعد منهجية (2 – 6)
- منهج التفسير التاريخي .. قواعد منهجية (3 – 6)
- منهج التفسير التاريخي .. قواعد منهجية (4 – 6)
- منهج التفسير التاريخي .. قواعد منهجية (5 – 6)