لعلم الجرح والتعديل دور في تصحيح الروايات والتاريخية ومقارنتها، ولهذا وجب الاستعانة بكتب السُنة، وثمة ضوابط للأخذ عن أهل الأهواء وعن غير المسلمين، ولا بد من اعتبار “روح العصر”.
ضوابط مهمة
بعد بيان طرق التقييم والتفسير للتاريخ واعتبار الوحي أوثق الطرق للإثبات والتفسير (المقال الأول) وتأثير العقيدة والمبدأ في حركة التاريخ الإسلامي وخاصة تاريخ الأولين (المقال الثاني) والعوامل المتداخلة للنفوس فلا ينفرد أحدها بالتفسير، واعتبار مقادير الرجال وتاريخهم ومواقفهم (المقال الثالث)، واعتبار العدل والانصاف وسوابق الخير والفضيلة (المقال الرابع).
القاعدة العاشرة:
علم الجرح والتعديل وبناء الصورة التاريخية الصحيحة
والمقصود الاستعانة بعلم الجرح والتعديل للترجيح بين الروايات المتعارضة وبناء الصورة التاريخية الصحيحة:
ينبغي الاستعانة بمنهج المحدّثين في نقد أسانيد الروايات، فهو الوسيلة للترجيح بين الروايات المتعارضة، كما أنه خير معين في رفض بعض المتون “المضطربة” أو “الشاذة” عن الإطار العام لتاريخ صدر الإسلام.
وعلى هذا الأساس يتم اعتماد الروايات الصحيحة ثم الحسنة لبناء الصور التاريخية لأحداث المجتمع الإسلامي في عصر صدر الإسلام.
وعند التعارض يقدَّم الأقوى دائما.
أما الروايات الضعيفة التي لا تقوى فيمكن الإفادة منها في إكمال الفراغ الذي لا تسده الروايات الصحيحة والحسنة، على شرط أن تتماشى مع روح المجتمع الإسلامي ولا تناقض جانباً عقدياً أو شرعياً، لأن القاعدة:
“التشدد فيما يتعلق بالعقيدة والشريعة”.
ومن ناحية ثانية، إذا كان أهل الحديث يتساهلون في الرواية عن الضعفاء إن كانت روايتهم تؤيد أحاديث صحيحة موثقة، فلا بأس إذن من الأخذ بهذا الجانب في التاريخ وجعله معياراً ومقياساً إلى تحري الحقائق التاريخية ومعرفتها.
ومن هذا المنطلق تتخذ الأخبار الصحيحة قاعدة يقاس عليها ما ورد عند الإخباريين مثل “سيف بن عمر الضبي” و”الواقدي” و”أبي مخنف” وغيرهم.. فما اتفق معها مما أورده هؤلاء تلقيناه بالقبول، وما خالفها تركناه ونبذناه.
القاعدة الحادية عشر:
الرجوع إلى كتب السُنة كمصدر مهم لأخبار صدر الإسلام
وكذلك من المفيد جداً في كتابة التاريخ الإسلامي الرجوع إلى “كتب السُنة”؛ إذ هي مصدر موثوق وراجح لأخبار الصدر الأول، لوجود روايات تاريخية كثيرة فيها على درجة عالية من الصحة، ونظراً لأن كتب الحديث خُدمت أكثر من كتب التاريخ من قِبل النقاد، فمثلاً قد تميز صحيحا “البخاري” و”مسلم” وعُرف أن كل ما فيهما صحيح بعد الدراسات النقدية التي قام بها كبار الحفاظ القدامى والدارسون المعاصرون.
وتتضاعف كمية هذه الأخبار الموثوقة بالرجوع إلى كتب السنن والمسانيد والمصنفات ومعاجم الصحابة، وكتب الفضائل والطبقات، والتواريخ التي صنفها المحدثون، وكتابات العلماء الذين كانت لهم عناية بشرح كتب الحديث؛ وذلك أن ثقافتهم الحديثية الممحصة واقتباساتهم من كتب التاريخ المفقودة التي دوّنها المحدّثون الأولون، جعلت شروحهم غنية بنصوص تاريخية، فعلى سبيل المثال يعتبر كتاب “فتح الباري، شرح صحيح البخاري” للحافظ ابن حجر مثلاً واضحاً لهذه الكتب وهؤلاء العلماء، إذ يشمل من الفوائد التاريخية كمية لا يستهان بها.
القاعدة الثانية عشر:
معرفة حدود الأخذ من كتب أصحاب الأهواء والفرق
من القواعد المهمة أيضاً معرفة الحدود التي تراعى عند الأخذ من كتب أصحاب الأهواء من الفرق الضالة المبتدعة، إما استجابة لشهوة أو هوى أو بدعوى التأويل المتعسف أو بالوقوع تحت تأثير الزندقة والكفر.
وقد اعتنى أهل السنة بضبط مذاهب الفرق وأقوالهم لتعرف أحوالهم ومواقفهم، ويكون المسلم على بيّنة منها فلا يخدع من قِبلهم.
ولهذا الغرض أفرد بعضهم ذلك بمؤلفات خاصة مثل أبي الحسن الأشعري في “مقالات الإسلاميين”، وأبي الحسن الملطي في “التنبيه والرد على أهل البدع”، وابن حزم في كتابه “الفِصل في الملل والأهواء والنحل”.
كما أن أصحاب الفرق أنفسهم قاموا بتدوين مذاهبهم ومعتقداتهم وأخبارهم وتراجم رجالهم وعلمائهم ومناظراتهم وردودهم على المخالفين لهم، ومنهم من اشتغل بالتاريخ فقام بتدوين الأخبار وفقاً لمعتقده الخاص أو مذهبه السياسي، فأظهر مثالب خصومه وأخفى محاسنهم.
ولأجل هذا لابد للمؤرخ المسلم من التعرف على اتجاهات هؤلاء وعقائدهم، لأن ذلك يمكنه من التعامل مع النصوص التي أوردوها بما يكون لديه من خلفية عن اتجاهاتهم وآرائهم ومواقفهم، ثم يقارنها بغيرها عند المؤرخين أو العلماء العدول الثقات.
وعلى ضوء المقابلة والمقارنة بين النصوص ينظر إلى تعصب الراوي من عدمه..
فمن لاحت عليه أمارات التحزب أو التحيز لنحلة أو طائفة أو مذهب لا يؤخذ منه في هذه الحال، لأن الخصومة والتعصب حجاب ساتر عن رؤية الحقيقة.
أما من لا يُلحظ عليه التعصب وإن كان من أهل البدع، وكان صدوقاً في نفسه معروفاً بالورع والتقوى والضبط، فتُقبل روايته.
فقد أخرج بعض الأئمة لنفر من أهل البدع الذين لا يكْذبون، فهذا الإمام البخاري أخرج في صحيحه لـ “عمران بن حطان الخارجي” رغم أنه من كبار الدعاة إلى بدعة الخوارج، لكنه عُرف بالورع والتقوى وأنه لا يكذب.
وقد يجد الباحث في ثنايا الأخبار التي يرويها أهل البدع عن أهل طائفتهم ومذهبهم ما يمكن أن يكون حجة عليهم وبمثابة الإقرار منهم كحكايتهم لبعض الأقوال المتضاربة والمعتلّة.
القاعدة الثالثة عشر:
معرفة ضوابط الأخذ من كتب غير المسلمين
إذا كان للتاريخ الإسلامي قواعد وأصول وضوابط شرعية يجب على المؤرخ المسلم أن يلتزم بها، ويكون بحثه واجتهاده في نطاقها، فذلك يعني الاحتياط عند الأخذ من كتب غير المسلمين، خصوصاً وأن الحرية بلا قيود وبلا ضوابط تلقاها العلمانيون في الغرب أو في الشرق وطبقوها على التاريخ الإسلامي بمفاهيمها المحلية عندهم.
هذا مع الفرق الشاسع بين المنهج العلماني والمنهج الإسلامي بسبب الاختلاف في التصورات والمفاهيم والمبادئ؛ إذ المنهج جزء من التصور مما جعل نتائج أبحاثهم ودراساتهم مناقضة للأحكام الإسلامية وواقع المجتمع الإسلامي.
لهذا فإن القضايا التي تطرحها كتب غير المسلمين من يهود ونصارى وغيرهم، التي تعالج التاريخ الإسلامي ـ خصوصاً الصدر الإسلامي الأول ـ ينبغي أن تدرس بعناية وحذر شديدين، لأنهم لا يصْدُقون في كثير مما يقولونه عن الإسلام ونظمه ورجاله، ولا يحل وفق ذلك للمسلم أن يروي عنهم أو يأخذ منهم، لاسيما وأن من شروط البحث في هذه القضايا عرض الأقوال والأعمال على كتاب الله وسنة رسوله.
على أن غير المسلمين ليس لديهم من الموانع عن الكذب ما لدى المسلمين، وبالتالي فهم لا يعرفون هذه الموانع، لأنهم لا يجدونها في مجتمعاتهم وبيئاتهم، والإنسان وليد بيئته؛ وذلك لغلبة التيار المادي عليها وما ينتج عنه من تنافس وصراعات دائمة.
وحيث انطلقوا من واقعهم هذا للحكم على غيرهم بنفس المنظار، وقعوا في الخطأ وعمموا الأحكام وشوهوا التاريخ.
ثم إذا كان علماء الإسلام لا يثبتون الأحكام بما يرويه المسلم ضعيف الضبط، فكيف يحق لقوم مؤمنين أن يحملوا عن كافر ساقط العدالة..! بل ويضمر من الحقد والبغضاء لهذا الدين ما لا يعلمه إلا الله.
القاعدة الرابعة عشر:
مراعاة ظروف العصر الذي وقعت فيه الحادثة
ينبغي أن نعلم أن بعض تلك الحوادث الواقعة في صدر الإسلام لا يبررها غير ظروفها التي وقعت فيها، فلا نحكم عليها بالعقلية أو الظروف التي نعيش فيها نحن أو بأي ظروف يعيش فيها غير أصحاب تلك الحوادث، لأن الحكم حينئذ لن يستند إلى مبررات موضوعية، وبالتالي تكون نظرة الحاكم إلى هذه الوقائع لم تستكمل وسائل الحكم الصحيح، فيصدر الحكم غير مطابق للواقع.
ومن الملاحظ أن الخلط بين الواقع المأساوي الذي يعيشه المسلمون في هذا العصر وبين واقع المجتمع الإسلامي في صدر الإسلام، يرجع إلى الخطأ في الفهم الناتج في الغالب عن الصورة القاتمة والمغرضة التي يتلقاها النشء عن تاريخ الإسلام وحضارته بواسطة المناهج المنحرفة والفلسفات الوضعية التي تعمم الأحكام وتشوه بذلك التاريخ.
ولا شك أن مصدر الخطأ في هذه المناهج والفلسفات هو تدخل أصحابها بالتفسير الخاطئ للحوادث التاريخية وفق مقتضيات وأحوال عصرهم الذي يعيشون فيه، دون أن يراعوا ظروف العصر الذي وقعت فيه الحادثة وأحوال الناس وتوجهاتهم في ذلك الوقت، والعقيدة التي تحكمهم ويدينون بها..
أو بعبارة أخرى: إن مصدر الخطأ في منهجهم هو تطبيق واقع العصر الحاضر ومفاهيمه على العصور السابقة، مع أن لكل عصر مميزاته الواضحة التي تسمى في منهج البحث العلمي “روح العصر”.
خطورة القياس الفاسد
يمكن القول إن سبب انحراف منهجهم ومن اتبعهم في هذا الطريق هو القياس الفاسد، إذ أنه من الخطأ لإنسان يعيش في هذا العصر “عصر الأثرة والأنانية”، وتقديم المصلحة الشخصية على مصلحة الأمة، وعدم الاعتزاز بالأخلاق والمُثل والمبادئ، أن يقيس هذا العصر على عصر صدر الإسلام، عصر تقدير المسؤولية، ومراقبة الله ـ جل وعلا ـ في السر والعلن وبذْل النفس والمال في سبيل المصلحة العامة للأمة.
فما دمنا في عصر تغلب فيه الصراعات السياسية والاقتصادية والتكتلات الحزبية النفعية، فقد قام هؤلاء بتطبيق هذا الواقع بظلاله القاتمة وسلبياته على ذلك العصر الذي كانت العقيدة والمبدأ هي المنطلق والأساس لتصرفات الناس فيه.
وسبب ذلك أن الكتابة التاريخية المعاصرة اصطبغت ـ إلا النزر اليسير ـ بالمنهج المادي الغربي الذي هو بطبيعة الحال ابن بيئته، تلك البيئة التي تتمرغ في أوحال المادية، وتعاني من مرارة الصراع النفعي، ولا تؤمن بما يسمى بالقيم والمبادئ لكنها تؤمن بما يسمى بالمصالح، ثم فوق ذلك كله هي غارقة إلى أذنيها في النظرة المتعصبة الحاقدة على الإسلام.
……………………………………….