يلتزم المسلم بالمصطلحات الشرعية ومناطاتها التي جاءت فيها؛ وبالتالي فمن الحكمة ألا ينساق خلف مصطلحات مجملة ـ بل خبيثة ـ تضلل العقلاء، ويزل فيها البعض، ويستخدمها الخبثاء.
مقدمة
يلتزم المسلم بأحكام ربه تعالى، ويتلقى منه تصوراته وقيمه، وترتبط الأحكام عنده بالمناطات الشرعية الدقيقة؛ ومثال على هذا؛ فدندنة الغرب حول تحسين ومدح مصطلح “الحرية” بإطلاق؛ فمع قيمة الحرية وأهميتها يجب أن يكون محكوما بالشرع لتتحقق الحرية الحقيقية. وذم والنفير من مصطلح “الإرهاب” يجب أن يكون محكوما بالشرع لما فيه من إجمال؛ فهو يشمل التعدي على النفوس والآمنة والأموال، وهذا مذموم. وهو يشمل حق الدفاع عن الدين والعرض وبلاد المسلمين ومقدساتهم، فلا يصح إطلاقه عليه وإن أطلقه الصهاينة والصليبيون. وهو يشمل التعدي على دين الله واتهام أحكامه، ولا يصح إطلاقه مهما أطلقه منافقون وتلقته وسائل إعلامهم.
ولهذا نورد في المقال تحريرا للمصطلح من حيث اللغة ومن حيث بعض التعريفات العربية وغير العربية، وبعض الاجتهادات الفقهية التي حاولت الاقتراب من المصطلح وتحريره؛ وإن بقي فيه إجمال ولم يأخذ حقه من بيان سوء استخدامه، وما يصح إطلاقه عليه وما لا يصح.
تعريف الأمن والإرهاب وأصل اشتقاقهما
لابد في البداية من إلقاء بعض الأضواء اللغوية على معنی هاتين الكلمتين وأصل اشتقاقهما، لنصل بعد ذلك إلى تحديد المعنى الاصطلاحي لهما والخلاف المنتشر حول ذلك، قبل الحكم على هذا المصطلح وأصحابه الذين ينطبق عليهم، أو الحكم لهم؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
وتزداد أهمية هذا التحديد للمصطلح ـ أيا كان ـ إذا وضعنا بالحسبان أن اللغة هي أداة التفكير والبيان، وهي وسيلة التفاهم والتخاطب بين الناس، كما أن الألفاظ التي ينطق بها الإنسان ويعبر بها عما في نفسه، قد تختلف دلالتها ومعانيها، عندما تغدو مصطلحا فنيا يشيع استعماله في علم من العلوم، أو في فن من الفنون.
ومن الجدير بالذكر هنا التذكير بأن كل مصطلح علمي ينشأ في بيئة فكرية وحضارية تؤثر فيه، وتجعله ينطوي على اتجاهات عقلية وحضارية تتفق وشخصية البيئة والأمة وذاتيتها. وهذا كله يعطي دليلا آخر على أهمية تحديد المصطلحات العلمية ومعانيها، لئلا يلتبس الأمر ويقع الخلط والفساد والخلاف في النظر والاستدلال. (1يسالونك عن الإرهاب، د. ضميرية)
أولا: تعريف الأمن
قال في لسان العرب:
“الأمان والأمانة بمعنى، وقد أمِنت فأنا آمِن..
والأمن: ضد الخوف، والأمانة: ضد الخيانة
فأما آمنته ـ المتعدي ـ فهو ضد أخفته. وفي التنزيل ﴿وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: 4].
قال ابن سيده: الأمن نقيض الخوف. أمِن فلانا يأمن أمنا وأمنا… والأمَنة: الأمن ومنه ﴿أَمَنَةً نُّعَاسًا﴾ [آل عمران: 154] و﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ﴾ [الأنفال:11]..
وفي الحديث: «النجوم أمَنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد. وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتی أصحابي ما يوعدون. وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى الأمة ما توعد». (2مسلم (2031)) أراد بوعد السماء: إنشقاقها وذهابها يوم القيامة. وذهاب النجوم : تکویرها وانکدارها وإعدامها. وأراد بوعد أصحابه ما وقع بينهم من الفتن، وكذلك أراد بوعد الأمة..
وعن اللحياني: ورجل أمن وأمين بمعنى واحد. وفي التنزيل: ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ [التين :3] أي: الآمن يعني مكة وهو من الأمن…
وقوله عز وجل: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ﴾ [الدخان: 51] أي قد أمنوا فيه من الغِيَر…
والمأمن: موضع الأمن. والأمين: المستجير ليأمن على نفسه”. (3لسان العرب 1/ 140 (باختصار))
ويقول الأستاذ “محمد البرزنجي”:
“والمتدبر لآيات القرآن الكريم يرى أن الآيات القرآنية تتحدث عن مستويين من الأمن أو نوعين منه:
الأول: الأمن على مستوى الفرد (عامل الأمن النفسي)، الثاني: الأمن على المستوى الجماعي (الأمة).
ففي جانب الأمن الفردي أو (عامل الأمن النفسی) يذكر الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه السلام وهو يحاور قومه المشركين: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 81-82].
من المعروف أن عقيدة التوحيد تأخذ مساحة واسعة من الآيات القرآنية؛ وفي هذه الآية ربط واضح وعلامة قوية بين رسوخ عقيدة التوحيد في النفس البشرية وبين الأمن والاطمئنان؛ أما الذين لم تخالط عقيدة التوحيد قلوبهم، ولم تملأ نفوسهم فلن يشعروا أبدا بذلك الاطمئنان والأمن النفسي؛ فهم في الدنيا وجِلون من سخط الله، وفي الآخرة ينتظرهم عذاب من الله أليم، ويظَلون طول حياتهم يخافون من المستقبل المجهول، ولا يعرفون معنى لوجودهم في هذا الكون الرحيب..
وأما في جانب الأمن الجماعي (أمن الأمة الإسلامية): قال الحق سبحانه: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 55]
قال الشوكاني في تفسير هذه الآية: والمعنى أنه سبحانه يجعل لهم مكان ما كانوا فيه من الخوف من الأعداء أمنا، ويذهب عنهم أسباب الخوف الذي كانوا فيه بحيث لا يخافون إلا الله ولا يرجون غيره”. (4مجلة البيان، العدد 124 (باختصار))
ثانيا: تعريف الإرهاب
جاءت (الراء والهاء والباء) لتدل على أصلين: أحدهما يدل على خوف، والآخر على دقة في الشيء وخفة فيه.
فمن الأصل الأول: (رهب) يرهب رهبا ورهبا، ورهبة: خاف. و (رهب فلانا ورهبه واسترهبه): خوفه وفزعه. و(استرهبه) أيضا: استدعی رهبته حتى رهبه الناس. و(ترهبه): توعده. و(الراهبة): الحالة التي ترهب أي تفزع وتخوف.
و(ترهب الراهب): انقطع للعبادة في صومعته. و(الراهب) المتعبد في صومعة من النصارى، يتخلى عن أشغال الدنيا وملاذها، زاهدا فيها معتزلا أهلها. ويجمع على (رهبان). وقد يكون الرهبان واحدا، فيجمع على
رهابین ورهابنة. و(الرهبانية والرهبنة): التخلي عن أشغال الدنيا، وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة عن أهلها. وأصلها من الرهبة، ثم صارت اسما لما فضل عن المقدار وأفرط فيه. (5انظر “معجم مقاييس اللغة” 2/ 447)
وقال ابن الأثير: الرهبانية منسوبة إلى الرهبنة بزيادة الألف (والإرهاب): الإزعاج والإخافة، تقول: يقشعر الإهاب إذا وقع منه الإرهاب. ومن المجاز قولهم: أرهب الإبل عن الحوض: ذادها عنه وطردها، و(أرهب عنه الناس بأسه ونجدته). ويقال: «لم أرهب بك»، أي: لم أسترِب، وقالت العرب: رهبوت خير من رحموت. يعني لأن ترهب خير من أن ترحم. أو لأن ترهب خير من أن ترحم. والمعنيان متلاقيان.
وأما تعريف الإرهاب في الاجتهاد الفقهي المعاصر فقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة تاریخ (10 / 1/ 2001) بيانا عن الإرهاب قالوا فيه:
“الإرهاب هو العدوان الذي يمارسه أفراد أو جماعات أو دول بغيا على الإنسان (دینه، دمه، ماله، عقله، عرضه). ويشمل صنوف التخويف والأذى والتهديد والقتل بغير حق وما يتصل بصور الحرابة وإخافة السبيل وقطع الطريق..” (6يسالونك عن الإرهاب، د. ضميرية).
وتجدر الإشارة إلى أنه لم يأت في الكتاب ولا في السنة ذكر مصطلح “الإرهاب” البتة.
أما تعريفها في اللغات الأجنبية فيقول د. ضميرية:
“أتت كلمة (الرهبة) من اللغة اللاتينية، وبعد أن ضربت بجذورها في لغات المجموعة اللاتينية، انتقلت فيما بعد إلى لغات أوروبية أخرى، فهي في اللغة الفرنسية (Terreur)، وفي اللغة الإنجليزية (Terror).
وقد عرفها قاموس «المورد» بمعان تندرج في ثلاث مجموعات، الأولى تتظم المعاني الآتية: رعب، ذعر، فظاعة. وفي المجموعة الثانية : كل ما يوقع الرعب في النفوس، ومظهر رهيب، ومصدر قلق، وشخص أو شيء مروع، وبخاصة طفل مزعج. وجاءت المعاني الآتية في المجموعة الثالثة: الإرهاب، وعهد الإرهاب.
وفيه أيضا: (Terrorism) إرهاب، ذعر ناشيء عن الإرهاب، وكذلك (Terrorist) الإرهابي. و(Terrorize): يرهب، يروع، يكرهه على الإرهاب، أو يأمره به.
كما يعرف «قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية» المصطلح على أنه: حکم من طريق التهديد، كما وجهه ونفذه الحزب الموجود في السلطة في فرنسا، أيام ثورة 1789 – 1794). (7يسالونك عن الأرهاب، ص22)
خاتمة
لقد آثرنا في هذا المقال ذكر أصول مصطلح “الإرهاب” لما استعمله أعداء الله تعميما، واتهاما به للمسلمين؛ ليصفوا به مقاومتهم لاحتلال العدو، أو لسيطرته عليهم، أو يصفون به حينا أحكام الإسلام نفسها، كما يقع أحيانا على مناطات مذمومة شرعا ومرفوضة.
ومن جانب آخر يجب بيان أن هذه المصطلحات لا تصلح لأن تكون بنفسها مناطا للأحكام؛ وإنما الأحكام الشرعية تتنزل على مصطلحات وتعريفات وحدود شرعية تصلح أن تكون مناطا للأحكام.
وعلى هذا فتلك المصطلحات الفضفاضة، وفي أحسن أحوالها “المجملة”؛ يجب على المسلم ألا يقع أسيرا لها فيصبح مدافعا عن رفضه للباطل أو مدافعا عن موقفه في حماية دينه؛ بينما أهل الباطل يقتلون المسلمين وغير المسلمين بالملايين وينهبون ثرواتهم ويمنعونهم من دينهم في إغراق واضح في معاني هذا المصطلح المذمومة والمنفرة للنفوس..! وهم يدّعون مع ذلك حماية الحقوق وتقمص حالة “الإنسانية” المكذوبة في أعرق نفاق سياسي عالمي..! والله المستعان وعليه التكلان سبحانه.
…………………………..
الهوامش:
- يسالونك عن الإرهاب، د. ضميرية.
- مسلم (2031).
- لسان العرب 1/ 140 (باختصار).
- مجلة البيان ، العدد 124 (باختصار).
- انظر “معجم مقاييس اللغة” 2/ 447.
- يسالونك عن الإرهاب، د. ضميرية.
- يسالونك عن الأرهاب، ص22.