أوضحنا في الجزء الأول من المقال أن طبيعة التكاليف الشرعية، سواء منها ما كان تعبديا أو كان عاديّا “العادات والمعاملات”، وفي هذا الجزء نوضح المسؤولية الفردية والتضامنية، وكذلك نتكلم عن المخرج الذي نراه لهذه الأمة من هذه الأزمة الممتدة..
المسئولية الفردية، والاجتماعية التضامنية
فإذا كان للفرد العادي:
1- مسئولية فردية لا يحتاج فيها إلى غيره ويؤديها منفردًا، كأداء الصلاة.
2- ومسئولية فردية لا يحتاج فيها إلى غيره؛ ولكن يؤديها في جماعة مع الآخرين من المسلمين، مثل إقام الصلاة.
3- ومسئولية تضامنية كإقامة الدولة المسلمة التي تقيم الملة والشريعة وتحفظ البيضة وتجاهد الأعداء وتضع إطار الولاء والبراء لجهد الأفراد حتى لا يخرج عنه حسبما شرع ربنا سبحانه وتعالى.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون أمة واحدة، تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم , وهم يد على من سواهم»، وهذه المسئولية يحتاج فيها الفرد إلى غيره ويتعاون ويتضامن فيها مع غيره من باب التعاون على البر والتقوى.
وهو مسئول عنها أمام الله كمسئوليته التي لا يحتاج فيها إلى جهد غيره معه إننا كأفراد مسئولون عن توثيق عرى الأخوة فيما بيننا، يسعى كل منا إلى غيره من أجل ذلك، حتى نعتصم بحبل الله جميعًا وهو الجماعة، ولا نتفرق كما أمرنا سبحانه وتعالى، ومسئولون عن جهاد عدونا: ﴿حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ﴾ [البقرة: 193].
يقول ربنا عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾ [الصف: 2-4].
ويقول عز وجل: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ [الفتح، الآية:29].
[للمزيد: الاسلام هوية تجمع الأمة]
مسؤولية الفرد عن أفعال الآخرين
يتقرر من ذلك أنه إذا كان الفرد العادي مسئولاً عن كل ذلك؛ فانه مسئول أيضًا عن فعل غيره؛ بالنصيحة وتغيير المنكر ودفع الظلم.
يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً﴾ [الأنفال: 25]، يقول ابن جرير في تفسيرها: «حدثني المثنى قال حدثنا أبو صالح قال: حدثنا معاوية عن علي عن ابن عباس ﴿وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّة﴾ً [الأنفال: 25]، قال: أمر المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب».
ويذكر ابن كثير في تفسيرها أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأقوال موقوفة عن أبي حذيفة وعن النعمان بن بشير كلها تدور على هذا المعنى ومنها:
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة سمعت أبا إسحاق يحدث عن عبيد الله بن جرير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون ثم لم يغيروا إلا عمهم الله بعقاب».(1)
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم».(2)
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا في سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً لم نؤذ من فوقنا فإذا تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا».
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان رجل يلقي الرجل فيقول له يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم بعض.
ثم قال: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ * كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ…﴾ إلى قوله: ﴿فَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 78-81]، ثم قال: «كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً؛ أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم» (3). معنى تأطرونهم: أي تحملونهم على الحق. وتقصرونهم: أي تحبسونهم عليه.
وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ [المائدة: 105] ، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني موضعها، و إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عز وجل أن يعمهم بعقابه».(4)
يقول صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم».(5)
ويقول صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: أو من قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: وما الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهة الموت».
[للمزيد: الاسلام شريعة تحكم حياة الأمة]
ما هو المخـرج؟ مـا هـي بداية الطريـق؟
هنا نتساءل ـ مسئولية الخروج من المهانة التي يعيشها المسلمون الآن مسئولية مَن؟
مسئولية الخروج من الأنفاق المظلمة والطرق المسدودة والتبعثر في المتاهات متاهات الشتات مسئولية مَن؟
إنها مسئولية الجميع فردًا فردًا..
إن الإسلام مسئولية فردية وعمل جماعي.. ليس في الإسلام اتكالية ولا إحالة أحد المسئولية على غيره، ولا لا مبالاة ولا (أنا مالي!!)..
إنما الإسلام دين الانتصار للحق بالقوة.. دين التنظيم الاجتماعي للحياة؛ وليس ديناً فردياً منعزلاً عن الحياة والناس.. وليس فقط علاقة خاصة بين العبد وربه لا شأن لها بالآخرين ولا للآخرين بها شأن..
إنه دين الإيجابية والجدية والمثابرة والجهاد والمصابرة والرباط. وتلك مسئولية كل فرد وليست مسئولية بعض الأفراد دون الآخرين. بل لا بد لكل فرد من المسلمين من تحديد موقفه مما حوله بإيجابية تخرج به عن السلبية..
[لمعرفة المزيد: كيف انحرفت الأمة عن هويتها وافتقدت للتماسك الاجتماعي]
صراع مرير
تنوء به الجبال بين أعداء الإسلام وأعوانهم من العلمانيين والإباحيين والملحدين من المنافقين الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا من جهة، وبين الصابرين المحتسبين الدعاة إلى الله على بصيرة من المسلمين الذين عزموا العزمة ومضوا على الطريق… الطريق إلى الجنة من جهة أخرى.
[لمعرفة المزيد: خسارة الأمة نتيجة غياب الهوية]
الطريق إلى التمكين، الطريق إلى الجنة؟ كيف؟
لابد للأمة أن تخرج من حالة السلبية أو الحياد.. ولابد أن تغير الموقف في الصراع الدائر بين الإسلام وأعدائه إلى موقف الانحياز الكامل إلى الإسلام.. ولابد من مساندة شعبية مؤثرة ومشاركة فعالة.. ولابد من ضغط عام من خلال موقف شعبي ضاغط يُحسب له كل حساب..
وهذا أول طريق الفتح والتمكين.. وهاكم خطوة على هذا الطريق.. الطريق إلى الجنة.
فالطريق واحد للعزة في الدنيا وللجنة في الآخرة..
والله الموفق وهو المستعان وعليه التكلان سبحانه.
………………………………………………………….
هوامش:
- [يقول ابن كثير: مما رواه أيضًا عن وكيع عن إسرائيل وعن عبد الرازق عن معمر وعن أسود عن شريك ويونس كلهم عن أبي إسحاق السبيعي به وأخرجه ابن ماجه عن علي بن محمد عن وكيع به].
- متفق عليه.
- [رواه أبو داود والترمذي].
- [رواه أحمد (ابن كثير تفسير الآية)].
- [رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر].
مراجع:
- تفسير ابن جرير.
- الكتب الستة، ومسند الإمام أحمد.
- الطريق الى الجنة، عبد المجيد الشاذلي.