نعمة الله على عباده بالسمع التي يتصل بها المرء من من حوله، ويتلقى العلم ومعطيات الحياة كلها؛ تستوجب الشكر باستعمالها في الحق والخير لا لاستماع الباطل واللهو المانع من الخير والحق.

مقدمة

الأذن ثغر من الثغور، هو أشبه بقُمع يجمع المسوعات من حق وباطل ليلقي بها الى القلب؛ والقلب يتجاوب مع ما أُلقي فيه عن طريق السمع كما عن طريق البصر، ثم يعقله. ويتْبع ذلك التفكيرُ ثم الخطرات ثم الهم ثم العزم والإرادة وهذا ينتج العمل باللزوم. فينبغي التنبيه لهذه الجارحة الخطيرة التي قدمها تعالى في الامتنان بها ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ (السجدة: 9).

يتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى واصفًا تحريض الشيطان لجنوده في قيامهم على ثغر الإذن بأن الشيطان يقول لجنوده:

“.. ثم امنعوا ثغر “الأُذُن” أن يدخل منه ما يفسد عليكم الأمر؛ فاجتهدوا أن تدخلوا منه إلى الباطل؛ فإنه خفيف على النفس، تستحليه وتستحسنه، وتَخيَّروا له أعذب الألفاظ وأسحرها للألباب، وامزجوه بما تهوى النفس مزجًا.

وألقوا الكلمة فإن رأيتم منه إصغاء إليها فزجّوه بأخواتها، وكلما صادفتم منه استحسان شيء فالْهَجُوا له بذكره.

وإياكم أن يدخل من هذا الثغر شيء من كلام الله أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أو كلام النصحاء؛ فإن غُلبتم على ذلك ودخل من ذلك شيء، فحُولوا بينه وبين فهمه وتدبره والتفكر فيه والعظة به، إما بإدخال ضده عليه، وإما بتهويل ذلك وتعظيمه، وأن هذا أمر قد حيل بين النفوس وبينه فلا سبيل لها إليه، وهو حمل يثقل عليها لا تستقل به ونحو ذلك، وإما بإرخاصه على النفوس، وأن الاشتغال ينبغي أن يكون بما هو أعلى عند الناس، وأعز عليهم وأغرب عندهم، وزبونه القابلون له أكثر، وأما الحق فهو مهجور، وقائله معرض نفسه للعداوة، والرابح بين الناس أولى بالإيثار ونحو ذلك؛ فتُدخلون الباطل عليه في كل قالب يقبله ويخف عليه، وتخرجون له الحق في كل قالب يكرهه ويثقل عليه”. (1«الجواب الكافي» (ص136))

من أشهر محرمات السمع في مجتمعاتنا

ومن أشهر هذه المحرمات المنتشرة في مجتمعاتنا اليوم سماع اللغو والباطل والاستهزاء من غير إنكار ولا رد ، بل قد يصاحبها الانبساط والمشاركة.

سماع الشبهات والأفكار المنحرفة سواء كانت على هيئة حوارات، أو محاضرات، أو منتديات، أو تمثيليات… إلخ؛ من غير إنكار ولا رد. وكل هذا ينبغي للمسلم أن يحمي سمعه عنه لكيلا يتشرب القلب ببعض هذه الشبهات، ولكي يحفظ المسلم وقته وعمره من أن يضيع فيما لا ينفعه في الآخرة.

أما من كانت لديه القدرة على رد الشبهات وتفنيد الباطل وفضحه للناس؛ فإن الأمر حينئذ يختلف ويصبح في سماع الباطل مصلحة لمعرفة مَن وراءه والرد عليه وفضحه للناس وحمايتهم من خطره وشبهاته.

وقد حذر الله عز وجل المؤمنين من حضور المجالس التي يخاض فيها بالباطل فقال: ﴿إِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 68].

وقد جعل الله عز وجل المشارك في مجالس الباطل دون إنكار لما فيها من الأقوال الباطلة من ضمن أهل الباطل وذلك في قوله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء: 140].

وإن مما يؤسف له اليوم تلك المواقف المتميعة من بعض الدعاة تجاه الأقوال المبتدعة والأفكار المنحرفة؛ حيث مكَّنوا لأهل البدع بأن يقولوا باطلهم في مجلاتهم، ومواقعهم الإسلامية في شبكة «الإنترنت» أو في بيوتهم، ومنتدياتهم، وألقوا سمعهم إليهم بحجة الحرية الفكرية والنقاش الحر..! وفي هذا مخالفة لكتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهج السلف الصالح رضي الله عنهم.

نهْي القرآن عن مجالسة أهل الباطل

أما المخالفة للقرآن الكريم؛ فكما مر بنا في آية “الأنعام” وآية “النساء” من النهي عن مجالسة الخائضين في الباطل، إلا أن يبين باطلهم وينكر عليهم، في حالة عدم القدرة على منْعهم، أما أن تفتح لهم أبواب المجلات والمواقع والبيوت فهذا منكر قد نهى الله عز وجل عنه أشد النهي.

يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿إِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾:

“المراد بالخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق، من تحسين المقالات الباطلة، والدعوة إليها، ومدْح أهلها، والإعراض عن الحق، والقدح فيه وفي أهله، فأمر الله رسوله أصلًا، وأمته تبعًا.. إذا رأوا من يخوض في آيات الله بشيء مما ذُكر، بالإعراض عنهم، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل والاستمرار على ذلك، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره. فإذا كان في كلام غيره، زال النهي المذكور؛ فإن كان مصلحة، كان مأمورًا به، وإن كان غير ذلك، كان غير مفيد ولا مأمور به. وفي ذم الخوض بالباطل حث على البحث والنظر، والمناظرة بالحق.

ثم قال: ﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ﴾ أي: بأن جلست معهم، على وجه النسيان والغفلة: ﴿فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَىٰ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ يشمل الخائضين بالباطل، وكل متكلم بمحرم، أو فاعل لمحرم، فإنه يحرم الجلوس والحضور، عند حضور المنكر، الذي لا يقدر على إزالته.

هذا النهي والتحريم لمن جلس معهم ولم يستعمل تقوى الله؛ بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم، وعن الإنكار؛ فإن استعمل تقوى الله تعالى، بأن كان يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زواله وتخفيفه؛ فهذا ليس عليه حرج ولا إثم؛ ولهذا قال: ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَٰكِن ذِكْرَىٰ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ [الأنعام: 69]، أي: ولكن ليذكِّرْهم ويعظهم، لعلهم يتقون الله تعالى”. (2«تفسير السعدي» (2/ 33))

ويقول الشيخ رشيد رضا رحمه الله تعالى عند هذه الآية:

“الصواب من القول في الآية أنها عامة وأن المخاطَب بها أولًا بالذات سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم وكل مَن كان معه من المؤمنين، فكل ما ورد عن السلف في تفسيرها صحيح، والمعنى العام الجامع المخاطَب به كل مؤمن في كل زمن: ﴿إِذَا رَأَيْتَ﴾ أيها المؤمن ﴿الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا﴾ المنزَلة، من الكفار المكذِبين، أو من أهل الأهواء المفرِقين، ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أي: انصرف عنهم وأَرِهِمْ عُرْض ظهرك، بدلًا من القعود معهم، أو الإقبال عليهم بوجهك، ﴿حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾؛ أي: غير ذلك الحديث الذي موضوعه الكفر بآيات الله والاستهزاء بها من قِبَل الكفار، أو تأويلها بالباطل من قبل أهل الأهواء، لتأييد ما استحدثوا من المذاهب والآراء، وتفنيد أقوال خصومهم بالجدل والمراء؛ فإذا خاضوا في غيره فلا بأس بالقعود معهم.

وقيل: إن الضمير في ﴿غَيْرِهِ﴾ للقرآن لأنه هو المراد بالآيات فأعيد الضمير عليها بحسب المعنى.

وسبب هذا النهي أن الإقبال على الخائضين والقعود معهم أقل ما فيه أنه “إقرار” لهم على خوضهم، وإغراء بالتمادي فيه، وأكبره أنه “رضاء” به و”مشاركة” فيه، والمشاركة في الكفر والاستهزاء كفر ظاهر لا يقترفه باختياره إلا منافق مُراءٍ أو كافرٌ مجاهر.

وفي التأويل لنصر المذاهب أو الآراء مزلقة في البدع واتباع الأهواء، وفتنته أشد من فتنة الأول؛ فإن أكثر الذين يخوضون في الجدل والمراء من أهل البدع وغيرهم تغشهم أنفسهم بأنهم ينصرون الحق ويخدمون الشرع، ويؤيدون الأئمة المهتدين، ويخذلون المبتدعين المضلين؛ ولذلك حذّر السلف الصالحون من مجالسة أهل الأهواء أشد مما حذروا من مجالسة الكفار؛ إذ لا يُخشى على المؤمن من فتنة الكافر ما يُخشى عليه من فتنة المبتدع؛ لأنه يَحذر من الأول على ضعف شبهته، ما لا يَحذر من الثاني وهو يجيئه من مأمنه، ولا يعقل أن يقعد المؤمن باختياره مع الكفار في حال استهزائهم بآيات الله وتكذيبهم به وطعنهم فيها، كما لا يقعد مختارًا مع المجادلين فيها المتأولين لها، وإنما يتصور قعود المؤمن مع الكافر المستهزئ في حال الإكراه وما يقرب منها، كشدة الضعف، ولا سيما إذا كان في دار الحرب، ولم تكن مكة دار إسلام عند نزول هذه الآيات، ويدخل في أهل الأهواء المقلدون الجامدون الذين يحاولون تطبيق آيات الله وسنن رسوله على آراء مقلَديهم بالتكلف، أو يردّونها ويحرمون العلم بها بدعوى احتمال النسخ أو وجود معارض آخر…”. (3«تفسير المنار» (7/ 506، 507))

نهْي السنة عن مجالسة أهل الباطل

أما ما ورد في السنة من النهي عن سماع الباطل والخوض في آيات الله عز وجل، فكما روى اللالكائي بسنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن نفرًا كانوا جلوسًا بباب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا..؟! قال: فسمعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج فكأنما فُقئ في وجهه حب الرمان فقال: «بهذا أمرتم ـ أو: بهذا بعثتم ـ أن تضربوا القرآن بعضه ببعض..؟! إنما هلكَت الأمم قبلكم في مثل هذا، فانظروا الذي أُمرتم به فاعملوا به، وانظروا الذي نُهيتم عنه فانتهوا عنه». (4«شرح أصول اعتقاد أهل السنة» (1/ 129)، وقال المحقق: سنده حسن)

فهذا نبي الله صلى الله عليه وسلم غضب أشد الغضب وأمرَهم بالكَفّ، ولم يفتح لهم باب الحوار والمناظرة بحجة “حرية الرأي والفكر”؛ لأنه صلى الله عليه وسلم رحيم بأمته يخاف عليهم مما يكون سببًا في زيغهم وانحرافهم.

نهي السلف عن أهل البدع

وأما ما جاء عن السلف رحمهم الله من التشديد على أهل البدع وعدم السماع منهم، أو إعطائهم المجال لطرح أفكارهم وآرائهم؛ فالروايات في ذلك كثيرة .

فهل بعد كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومواقف سلفنا الصالح من كلام أو اجتهاد لمجتهد يرى فتح الباب لأهل الأهواء ليقولوا باطلهم بحرية ثم يَرد عليهم بعد ذلك من شاء..؟!

خاتمة

ويا ليت أن الأمر اقتصر عندهم على سماع الباطل من مواقع أهل الفساد؛ إذن لكان الخطب أهون، ولكن المصيبة أن يفتح بعض الإسلاميين صحف ومجلاتهم، ومواقعهم، وبيوتهم ومنتدياتهم، ويدْعون أهل الأهواء إليها ضيوفًا مكرَمين، يتصدرون المجالس، والصفحات، ليقولوا فيها باطلهم، ويعطون من الوقت والكتابة ما لا يُعطَى لأهل الحق وأتْباع السلف..!

إن هذا الأمر خطير ينبغي الإقلاع عنه حتى لا يحمل فاعله وزر نفسه، ووزر من يضلهم بأقوال المبطلين بحجة النقاش الحر وحرية التفكير زعموا..!

أضف الى هذا ما يبدو من ضعف وتهافت من يتصدى للرد عليهم من المنتسبين للسنة المختارين للدفاع والردود..! فهنا يستحكم الهوى وتَنفَق البدعة وتنتشر مقالة السوء. يجب أن نعقل الأمر ونتدبره، والله العاصم.

……………………………

الهوامش:

  1. «الجواب الكافي» (ص136).
  2. «تفسير السعدي» (2/ 33).
  3. «تفسير المنار» (7/ 506، 507).
  4. «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» (1/ 129)، وقال المحقق: سنده حسن.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة