كلمات لها تاريخ: إذا نوديت يوم القيامة أين محمود الذي كسر الصنم ، أحب إليّ من أن يقال أين محمود الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا … محمود الغزنوي.

من هو محمود الغَزنوي؟

هو السلطان محمود بن سُبُكْتِكِين (360- 421 هـ) ، وقد كان سلطانًا على بلاد غَزْنة وما والاها ، وذلك في فترة ضعف الدولة العباسية ، والتي نشأت فيها دول عدة مستقلة عن الخلافة الإسلامية (إقليم غَزْنة يقع الآن في جنوب شرقي أفغانستان). وقد اشتهر رحمه الله بفتوحاته الكثيرة في بلاد الهند وغيرها وتحطيمه لأصنامهم ، حتى لقبه بعضهم بمحطم الأصنام .

لماذا لُقب بمحطم الأصنام؟!

ومناسبة مقولته التي أشرنا إليها أنه كان من أصنام الهنود صنمٌ عظيمٌ يسمى (سُومَنات) . وكان من شأنه كما ذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ، في أحداث سنة 418 هـ : أن الهنود كانوا يفدون إليه من كل فج عميق، كما يفد الناس إلى الكعبة البيت الحرام وأعظم، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية، ومدينة مشهورة، وقد امتلأت خزائنه أموالاً. وعنده ألف رجل يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه، وثلاثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه، لما يضرب على بابه الطبول والبوقات . فلما بلغ السلطانَ محمود خبر هذا الصنم استخارَ اللهَ في السير بجيشه إليه لتحطيمه ‏.‏

قال ابن كثير في البداية والنهاية (12/ 24): (وقد ذكر غير واحد‏:‏ أن الهنود بذلوا للسلطان محمود أموالاً جزيلة ليترك لهم هذا الصنم الأعظم، فأشار من أشار من الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم، فقال‏:‏ حتى أستخير الله عز وجل‏.‏ فلما أصبح قال‏:‏ إني فكرتُ في الأمر الذي ذُكر ، فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة‏:‏ أين محمودُ الذي كسر الصنم؟‏ أحب إليّ من أن يقال: أين محمود الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا . ثم عزم فكسره رحمه الله‏.‏ فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلئ والذهب والجواهر النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة، ونرجو من الله له في الآخرة الثواب الجزيل الذي مثقال دانق منه خير من الدنيا وما فيها، مع ما حصل له من الثناء الجميل الدنيوي، فرحمه الله وأكرم مثواه‏).

وبهذا سار هذا السلطان المجاهد سيرة السلف رضوان الله عليهم في إيثار الآخرة على الأولى ، مقتفياً سنة الخليلين محمد وإبراهيم عليهما السلام في تحطيم الأصنام وإزالة كل مظاهر الشرك والوثنية .‏

بعض أعماله رحمه الله

وقد كان محمود بن سبكتكين رحمه الله سائراً بالعدل في رعيته ، ميالاً للأثر مجانباً للبدع وأهلها، وكانت السُّنة في أيامه ظاهرة والبدع مقموعة ، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في (مجموع الفتاوى:4/ 22).

وقال عنه الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية ( 12/ 32) في حوادث سنة 421 : (وقام في نصر الإسلام قياماً تاماً ، وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها ، وعظم شأنه واتسعت مملكته ، وامتدت رعاياه وطالت أيامه لعدله وجهاده وما أعطاه الله إياه . وكان يخطب في سائر ممالكه للخليفة القادر بالله (العباسي) ، وكانت رسل الفاطميين من مصر تفد إليه بالكتب والهدايا لأجل أن يكون من جهتهم فيحرق بهم ويحرق كتبهم وهداياهم . وفتح في بلاد الكفار من الهند فتوحات هائلة لم يتفق لغيره من الملوك لا قبله ولا بعده … وكان مع هذا في غاية الديانة والصيانة وكراهة المعاصي وأهلها ، لا يحب منها شيئاً ، ولا يألفه ، ولا أن يسمع بها ، ولا يجسر أحد أن يظهر معصية ولا خمراً في مملكته ، ولا غير ذلك ، ولا يحب الملاهي ولا أهلها، وكان يحب العلماء والمحدثين ، ويكرمهم ويجالسهم ، ويحب أهل الخير والدين والصلاح، ويحسن إليهم).

الغزنوي على مذهب الكرَّامية في الاعتقاد

ومن الأمانة العلمية أن نذكر هنا أن ابن سبكتيكين رغم كل هذا الذي ذكرناه من ديانته وفضله وجهاده ، إلا أنه كان يعتقد معتقد الكرَّامية . قال الذهبي في السير ( 17/ 486) : ( وكان السلطان مائلاً إلى الأثر إلا أنه كان من الكرَّامية ) . وقال ابن كثير في البداية والنهاية : ( 12/ 32) : (وكان على مذهب الكرَّامية في الاعتقاد) . والكرامية هم أتباع عبد الله بن كرَّام . وهم فرقة من الفرق الكلامية التي تخالف مذهب سلف الأمة في بعض الأصول ، ومنها كونهم مُرجئةً في باب الإيمان ، حيث يقولون إن الإيمان هو النطق باللسان فقط ، فيُخرجون من مسمى الإيمان التصديقَ بالقلب والعملَ بالأركان . وهذا مخالف لمعتقد أهل السنة والجماعة الذين يقولون: إن الإيمان قول وعمل . أو : إنه تصديق بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان . ولا شك أن إخراج التصديق من مسمى الإيمان هو قول فاسد ؛ إذ يلزم منه أن المنافقين مؤمنون كاملو الإيمان ، وأنهم من أهل الجنة في الآخرة ، وإن كانوا هم لا يقولون بأن المنافقين من أهل الجنة ، وإنما يرون أنهم مؤمنون في الدنيا فقط ،كما ذكر ذلك عنهم ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 7/  216) .

إنصاف الأئمة وعدلهم واعترافهم لأهل الفضل بفضلهم

والمقصود أنَّ وقوع ابن سبكتكين في مثل هذا الأمر لم يمنع ابن تيمية وتلاميذه كالذهبي وابن كثير ، من الاعتراف له بما عنده من الحق ، والثناء عليه بما يستحقه ، والإشادة بمآثره في نصر الإسلام ، وبخاصة أنه رحمه الله كان شديداً على أهل البدع كالشيعة الروافض ، والجهمية ومن سار على نهجهم في نفي الصفات الإلهية أو تأويلها ، وقد ذكر الذهبي في السير ، ( 17/ 487) أن ابن فُورك دخل على السلطان محمود فقال: (لا يجوز أن يوصف الله بالفوقية ؛لأن لازم ذلك وصفه بالتحتية، من جاز أن يكون له فوق جاز أن يكون له تحت ، فقال السلطان: ما أنا وصفته حتى يلزمني ، بل هو وصف نفسَه ، فبهت ابن فورك ، فلما خرج من عنده مات فيقال انشقت مرارته) . وقال ابن تيمية في درء التعارض ( 3/ 229) : (وأظهر السلطان محمود بن سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر ، وأظهر السنة . وتناظر عنده ابن الهيصم وابن فورك في مسألة العلو فرأى قوة كلام ابن الهيصم – أي في إثبات صفة العلو لله تعالى وعدم تأويلها – فرجح ذلك). وهذا من إنصاف أولئك الأئمة وعدلهم ، واعترافهم لأهل الفضل بفضلهم، وإنْ جانبهم الصواب في بعض أمرهم .

المُلا عمر على سيرة الغزنوي رحمهما الله

وبعد: فإني أختم بمقولة منسوبة للمُلا عمر رحمه الله -زعيم حركة طالبان السابق بأفغانستان – يبدو فيها تأثره رحمه الله بالسلطان الغزنوي (سلفه في بلاد الأفغان)  . فقد بلغني من بعض من كان متواجداً في أفغانستان ، إبان فترة حكم طالبان الأولى ، أنه لما عزمتْ الحركة على تفجير صنم بوذا في باميان ( عام 2001م ) ، وذهب إليهم الشيخ القرضاوي رحمه الله محاولاً إثناءهم عن هذه الفكرة ، فإنه –أي القرضاوي- قد عرض على الملا عمر أن يبيع صنم بوذا بدلاً من تحطيمه ، وأخبره أن الصين مستعدة لشرائه منه بثمن كبير ، فأجابه الملا عمر : (لأن يُنادى عليَّ يوم القيآمة: أين عمر هادم الصنم أحبُّ إليَّ من أن يُنادى عليَّ أين عمر بائع الصنم).

رحم الله الجميع وغفر لنا ولهم .

المصدر

صفحة الدكتور عبد الآخر حماد على منصة ميتا.

اقرأ أيضا

اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً

إن رعي الجمال خير من رعي الخنازير

نور الدين الشهيد.. حامل رايتيْ العدل والجهاد

أمثلة رائدة في الجمع بين العلم وذِروة سَنام الإسلام

عبد الله بن أنيس فدائي من عصر الرسول

التعليقات غير متاحة