ثمة مجالات يجب على المؤمن أن يقدم فيها التسليم، ويؤخر دور العقل، ويعلم أن دور العقل التلقي لا الحجاج، والفهم لا الاعتراض.
مقدمة
هناك بعض المجالات التي للعقل فيها إعمال وتدبر وتفهم، وفي مقابل ذلك هناك مجالات لا دور للعقل فيها، إلا التسليم والإذعان والقبو؛، وهذا هو لُب العبودية وصلب شجرة الإيمان.
من مجالات التسليم والإذعان
ومن هذه المجالات:
التسليم للمغيبات
وهذا من أهم صفات المؤمن، قال الله تعالى: ﴿الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾ [البقرة: 1-3].
والغيب هو ما غاب عن شهود العباد ومدرَكات عقولهم.
والغيب منه ما هو نسبي إضافي، مثل ما يغيب عن حاسة شخص، لكن يدركه غيره بخبرة أو آلة: كالعلم بمنازل الشمس والقمر وكسوفها، والعلم بحال الجنين. ومنه ما يغيب في الحياة الدنيا لكنه يدرَك في حال البرزخ ويوم القيامة. ومنه ما استأثر الله بعلمه: كقيام الساعة، وحقيقة أوصافه سبحانه.
والحقيقة أن الإيمان بالغيب شيء فطري في كيان الإنسان، فالإنسان لا بد أن يؤمن بالغيب، لا تنفك نفس الإنسان من مغيبات يؤمن بها، فإن لم يؤمن بالغيب الحقيقي الذي جاء به الوحي، ودلّت على اعتباره الدلائل العقلية، فإنه لا بد أن يؤمن بالخرافات والظنون الكاذبة، وهو ما يفسر لك أن بعض المجتمعات التي تدَّعي العقلانية فتغلو في المادية وتنفي الإيمان والوحي، تنتشر فيها الخرافة والسحر والدجل والشعوذة..!
کما یدخل في المغيَّبات الأخبار التي جاءت في الكتاب والسنة، سواء كانت قصصا أو أخبارا ماضية أو أخبارا بالمستقبل وأحوال يوم القيامة، فكل ما جاء من الأخبار في كلام الله عز وجل أو کلام رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حق وصدق، يجب التسليم لها وقبولها وتصديقها التصديق المطلق، دون كيف ولماذا. قال سبحانه: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنعام: 115] صِدقا في الأخبار، وعدلا في الأحكام.
التسليم للأحكام الشرعية
وهي الأوامر والنواهي وغيرها من الأحكام. وتقبُّلُها بالإذعان والقبول والعمل، سواء أدرك العبد حكمة التشريع فيها أم لم يدرك؛ فحَسْبه أن يعلم أنها من العليم الخبير العزيز الحكيم الرؤوف الرحيم، وأن الله عز وجل لم يشرعها إلا لكونها في مصلحة الإنسان في دنياه وأخراه وهذه هي حقيقة العبودية. قال سهل بن حنیف رضي الله عنه: «اتهموا الرأي، فلقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره لرددت، والله ورسوله أعلم». (1البخاري (4189) ومسلم (1785)) وقد ظهرت حكمة الأمر النبوي بعد ذلك، فظهر للصحابة جميعا كيف كان صلح الحديبية فتحا وخيرا لهم. ومثل هذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قبل الحجر الأسود: «إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك». (2البخاري (1597) مسلم (1270)) (انظر: التسليم للنص الشرعي د. فهد العجلان ص 30-33 باختصار وتصرف)
التسليم للأحكام الكونية القدرية
واليقين بأن لله عز وجل الحكمة البالغة، وأنها كلها خير للمؤمن.
أشكال الانحرافات بالعقل عن التسليم للنصوص الشرعية
يقول الدكتور فهد العجلان حفظه الله تعالى:
“مَن أحب أن يقدّر العقل حق قدره فليضعْه في مقامه الحقيقي، حیث یکون العقل مخلوقا لله تعالى، يعمل في الفضاء الذي يُحسن ويتقن العمل فيه. ولا شيء أكبر ظلما للعقل من أن يحْرِف بالعقل عن طريقه الصحيح، وأن يحمل من الأعباء ما لا يحتمل؛ فمن العقل أن يكون العقل لصيقا بالنقل وتابعا للوحي، وبقدْر ما ينحرف العقل عن هذا المسار بقدر ما يحلّ عليه الشقاء والاضطراب.
ومعارضة النصوص بالعقل لم تنشأ إلا بعد عصر الصحابة وكبار التابعين، ومعلوم أن عصر الصحابة وكبار التابعين لم يكن فيه من يعارض النصوص بالعقليات.
وانظر هل كان في الصحابة مَن إذا سمع نص رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضه بقياسه أو ذوقه ووجده أو عقله أو سياسته..
ولقد عانَی العقل قديما وحديثا من طرائق عدة، تسعى لإبعاده عن طريقه الصحيح، زاعمة أنها تريد أن تعلو بالعقل وتصعد به، فجاءت أشكال الانحرافات الآتية:
أولا: تقديم العقل على النقل
وهذه هي أم شبهات هذا الباب، وهي القاعدة التي تجري على لسان كل مَن في قلبه شك أو ريب من أي نص شرعي. وكلما ضعف التسليم والانقياد لله ورسوله عظمت هذه القاعدة.
ومن أخطر مفاسد تقدیم العقل على النقل:
أ- العبث والحيرة وتكليف العقل ما لا يطاق.
ب- فقدان الثقة بالنقل والجرأة على النصوص الشرعية بالرد، وضعف تعظيمها في القلوب. وهذا يخدم الزنادقة والمنافقين من علمانيين وليبراليين في رفضهم لشريعة الإسلام، وإبعاد الدين عن الحياة؛ كما يسهل على عامة الناس التحلل من الشريعة والترخص في ترکها.
ج- الطعن في الرسالة والإساءة لها، وذلك بأن تكون الشريعة المعصومة قد جاءت بما يخالف العقول.
د- انقطاع طرق الهداية والوصول إلى الله عز وجل ، لأن الإنسان إذا فتح على نفسه باب الاعتراض على الشريعة بالعقل، يحفر في القلب من الشكوك والظنون والحيرة ما يحْرمه الطمأنينة وعدم استقرار الإيمان في قلبه، وسد باب الهداية عليه.
ثانيا: استقلالية العقل
من طبيعة الانحراف أنه يبتعد عن الدليل والمنطق تدريجيا، حتى يصل إلى دركات شديدة من الانحراف، فبعد القول بـ “تقديم” العقل على النقل يتجه الإنسان تدريجيا إلى “تقديس” العقل، والاعتماد عليه، والغرور به، والثقة التامة به، وجعله حَكَما وفيصلا في كل الأمور والتشريعات.
ثالثا: إنكار ما كان خارج الحس
والاعتماد على التجرِبة في إثبات الحقائق؛ فكل ما كان خارج محيط المختبر والتجربة فهو محل شك أو إنكار؛ وقد وقع بسبب هذا رد للمعجزات والكرامات التي ثبتت في الشريعة كتابا وسنة. (3انظر: التسليم للنص الشرعي د. فهد العجلان ص 34 باختصار وتصرف)
رابعا: مدعي العقلانية والتنوير الجُدد
من إشكالات انحراف العقل عن مساره واعتراضه وعدم تسليمه ما ظهر في الأزمنة الأخيرة من بعض التيارات، التي هي امتداد لمدرسة أهل الاعتزال والكلام، وذلك في غرورهم بالعقل وتقديسهم له ووصفهم لأنفسهم بأنهم عقلانيون وتنويريون وعصرانيون. وخابوا وخسروا؛ فما هم بعقلانيين ولا تنويريين، ولكنهم أهل أهواء وبدع.
يقول الدكتور جعفر شيخ إدريس حفظه الله تعالى في مقال له بعنوان: “ليسوا عقلانيين، وإنما هم أهل الأهواء”:
“شاع في عصرنا اصطلاح (العقلانيين) وصفا لأصحاب المناهج المنحرفة عن المنهج الصحيح، لفهم الدين وتفسير نصوصه واستخلاص النتائج منها. وهذا مصطلح غیر سدید.
أولا: لأن فيه اعترافا ضمنيا بأن العقل يمكن أن يكون مخالفا للشرع؛ هذا مع أن المستعملين لهذا الاصطلاح يؤمنون بموافقة صريح المعقول لصحيح المنقول؛ فلماذا إذن نستعمل اصطلاحا يتضمن تقريرا لأمر ننكره؟
ثانيا: لأننا لا نجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، أن إنسانا ضل بسبب عقله، وإنما نجد أن الضالين هم الذين لا يعقلون، ولا يتدبرون ولا يتفكرون ولاينظرون، وأن المهتدين هم أصحاب العقول وأولو الألباب: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 18].
ثالثا: لأن هنالك فرقا بين العقل والهوى؛ فالإنسان يضل بهواه لا بعقله، ولذلك كان السلف يسمون المعتزلة وأمثالهم: “أهل الأهواء”، لا العقلانيين، كما يسميهم الآن بعض المعاصرين تقليدا لبعض المستشرقين.
رابعا: ولأن هنالك فرقا بين الرأي والعقل، فما كل رأي هو على مقتضى العقل حتى لو كان صاحبه مجردا عن الهوى، وإنما الرأي رأيان: رأي صائب فهو موافق للعقل ضرورة، ورأي غالط فلا يمكن أن يكون من مستلزمات العقل.
خامسا: لأن وصف أمثال هؤلاء بـ “العقلانيين” فيه فتنة لهم؛ فقد يزيد أحدهم غرورا، فيذهب يقول متباهيا: أجل نحن العقلانيون، نحن المفكرون. وما أنتم إلا حشوية جامدون مرددون لما لا تفقهون.
سادسا: لأن أئمة أهل السنة من أمثال “أبي سعيد الدارمي” و”ابن تيمية” لم يكتفوا بالكلام المجمل في أن المذهب الحق هو الموافق للعقل؛ بل بینوا ذلك بيانا مفصلا شافيا، کما ساقوا البراهين العقلية الدالة على مخالفة أهل الأهواء لمقتضيات العقل، ودللوا على أن ما ادعوا بأنه عقليات إنما هو جهليات، وما أنزل الله بها من سلطان”. (4انظر المقال في مجلة البيان العدد (141) ص82)
خاتمة
ما الخير والنجاة إلا في التزام الوحي المنزل، الموافق للعقل المخلوق. ومنزل الوحي هو خالق العقل؛ فمن رام أن يرد هذا بذاك ندم لتركه لمقتضاهما ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ..﴾ [تبارك:10].
وقواعد أهل السنة أن العقل ناظر من وراء الشرع، يسرحه فيما سرّحه فيه ويكف عما كفه عنه.
…………………………
الهوامش:
- البخاري (4189) ومسلم (1785).
- البخاري (1597) مسلم (1270).
- انظر: التسليم للنص الشرعي د. فهد العجلان ص 34 باختصار وتصرف.
- انظر المقال في مجلة البيان العدد (141) ص82.