لله تعالى حكمة بالغة في غلبة الكفار في هذه الجولة ولو امتدت الى حين. الأحداث متلاحقة وبؤرة الصراع هي العالم الإسلامي. ولكن نصر الله قريب.
بين الأماني والسُنن
لا ريب أن من أعز مقاصد المؤمنين وأشهى مطالبهم وغاية نفوسهم رؤية دينهم ظاهرا وكتابهم مهيمنا وعلو راية التوحيد خفاقة مع قهر أهل الكفر والطغيان وإذلالهم.
إن هذا الهدف الأعظم وتلك الأمنية السامية لا تتحقق عن طريق الدعاوى والأماني بل عن طريق البحث والتنقيب عن سنن الله في النصر، تلك السنن الربانية التي قدّرها، تبارك وتعالى، لنصر حزبه الموحدین وخذلان حزب الشيطان اللعين.
زيف دعوة وحدة الأديان وخطورتها
فيجب علينا معشر المؤمنين حتى نحقق صدق الدعوة ونقيم عليها البينة العادلة أن نتعرف على تلك السنن، وطبيعة الصراع، وحجم التكاليف، وشراسة الأعداء، ومباينة السبل، واختلاف المناهج والغايات والتوجهات بين المؤمنين والكافرين؛ حتى نقضي على فِرية وحدة الأديان وتوحيد الرايات والالتقاء في الطريق تحت ستار الأسرة الواحدة والشرعية الدولية.
إن دين الله الذي اصطفاه لنا ولا يُعبد إلا به، يقتضي أن يكون ـ جل شأنه ـ حاكما لا معقب لحكمه، وأن يوحَّد بالعبادة والتلقي والتوجه، وأن يُفرَد بالولاء، مع الكفر والبراءة والانخلاع من كل ما يعبد من دونه.
ومن هنا وجب إعداد العدة والأخذ بالسنن الربانية لتحقيق النصر المأمول مع الحذر الشديد من العوائق الداخلية والأمراض الفتاكة التي تفتك بجسد الأمة وتسلمها فريسة سهلة لأعدائها لتحول بينها وبين غايتها العظمى ودورها المنشود المناط بها؛ بل المدقق في تلك العوائق الداخلية لَيتيقن أنها الأساس المنيع الذي تستمد منه العوائق الخارجية وجودها وهيمنتها.
إن الله عز وجل بعلمه الشامل وحكمته البالغة قدّر وقضى أن يكون الصراع بين الحق والباطل موجودا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
طبيعة الصراع
وأما عن طبيعة هذا الصراع؛ فسَمْته أنه حرب ضروس لن يخمد لهيبها إلى قيام الساعة. قال تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ [البقرة: 217]، ولا يخفى ما تحويه لفظة: ﴿وَلَا يَزَالُونَ﴾ من الاستمرارية والبقاء دون انقطاع، ولهذا جاء الأمر واضحا من العليم الحكيم لأوليائه: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾ [الأنفال: 39]، والفتنة لن تخلو منها الأرض، بل الساعة تقوم على شر أهلها.
وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة». (1أخرجه البخاري في الجهاد (2850)، وفي المناقب (3644))
هذه السُنة الربانية قد خص بها حشد من النصوص المستفيضة حتى بلغت حد التواتر اللفظي والمعنوي، وعُدت من المعلوم بالاضطرار من هذا الدين، وأصبح المكذِب بها مكذبا بالدين طاعنا على رب العالَمین متبعا غير سبيل المؤمنين.
وهذا من أبلغ الحجج والبراهين على دحض افتراءات العلمانيين والمنافقين الذين وقفوا على طريق جهنم وأعلوا رايتهم ملوِّحين بها للناس أن هلمّوا إلينا ليقذفوهم فيها. الذين يزعمون ويفترون بأن الحرب الدينية اليوم قد انتهت، وحريٌّ بالعالم أجمع أن يجتمع تحت راية واحدة وأن يكونوا کالجسد الواحد المتجانس الشعور والإحساس ولا تحُول معتقداتهم دون هذا البتة، بل يجب أن تبقى هذه المعتقدات حبيسة القلوب وحبيسة دور العبادة والمحاريب ولا تتعدى جدرانها ولا تتخطى حدودها..!!
الركن الشديد يأوي وينصر
ومن المعلوم أن الخصوم في حروبها تلجأ إلى ناصر وولي ومعين؛ تحتمي بحماه وتَقهر بقوته وتعتز بعزته، فالله ـ جل شأنه ـ لم يرتض لأوليائه ناصرا سواه ولا وليا دونه ولا معينا عداه، قال تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: 257]، وقال سبحانه: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَىٰ لَهُمْ﴾ [محمد: 11].
ومن هنا وجب علينا معشر المسلمين وأمة التوحيد أن نتوکل علی مولانا وناصرنا، ونعِي آثار أسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ فنتعبد الله بها وتظهر في القلوب آثارها فتطمئن لوعد الله وتثق بنصره، حتى ولو صال الباطل وانتفش في وقت من الأوقات، فإن المؤمن يوقن أن ما قدّره الله هو الخير ويحوي في طياته الرحمة والنعمة وإن كان ظاهره الألم والمشقة.. ذلك أن رحمة الله سبحانه قد سبقت غضبَه وأن الشر ليس إلى الله عز وجل.
إن حكمة الله عز وجل البالغة اقتضت أن يوجد الباطل لاختبار أوليائه وإظهار آثار أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا، وإلا لو شاء الله عز وجل لم يكن هناك كفر ولا باطل؛ قال تعالى: ﴿ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ﴾ [محمد: 4].
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
“والرضا بالقضاء الكوني القدري، الجاري على خلاف مراد العبد ومحبته ـ مما لا يلائمه، ولا يدخل تحت اختیاره ـ مستحب، وهو من مقامات أهل الإيمان، وفي وجوبه قولان. وهذا كالمرض والفقر، وأذي الخلق له، والحر والبرد، والآلام ونحو ذلك.
والرضا بالقدر الجاري عليه باختياره، مما يكرهه الله ويسخطه، وينهى عنه ـ كأنواع الظلم والفسوق والعصيان ـ حرام يعاقَب عليه. وهو مخالفة لربه تعالى؛ فإن الله لا يرضا بذلك ولا يحبه؛ فكيف تتفق المحبة ورضا ما يسخطه الحبيب ويبغضه..؟
فعليك بهذا التفصيل في مسألة الرضا بالقضاء.
فإن قلتَ: كيف يريد الله سبحانه أمرا لا يرضاه ولا يحبه..؟ وكيف يشاؤه ويكونه..؟ وكيف تجتمع إرادة الله له وبغضه وكراهيته..؟
قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقا، وتباينت عنده طرقهم وأقوالهم.
فاعلم أن «المراد» نوعان: مراد لنفسه، ومراد لغيره.
فالمراد لنفسه: مطلوب محبوب لذاته ولما فيه من الخير، فهو مرادٌ إرادة الغايات والمقاصد.
والمراد لغيره: قد لا يكون في نفسه مقصودا للمريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته. وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده.. فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، ومراد له من حيث إفضائه وإيصاله إلى مراده. فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته. ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما، وهذا كالدواء المتناهي في الكراهية، إذا علم متناوله أن فيه شفاءه، وكقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة جدا إذا علم أنها توصله إلى مراده ومحبوبه. بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب، وإن خفيت عنه عاقبته، وطُويت عنه مغبته ، فكيف من لا تخفى عليه العواقب..؟ فهو سبحانه وتعالى يكره الشيء ويبغضه في ذاته. ولا ينافي ذلك إرادته لغيره، وكونه سببا إلى ما هو أحب إليه من فوْته.
مثال ذلك؛ أنه سبحانه خلق إبليس، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال، والاعتقادات والإرادات، وهو سبب شقاوة العبيد، وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه بكل طريق وكل حيلة.. فهو مبغوض للرب سبحانه وتعالى، مسخوط له، لعَنه الله ومقته، وغضب علي؛ ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالی ترتبت على خلقه، وجودها أحب إليه من عدمها.
منها؛ ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه سبحانه «الحكيم الخبير» الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، ولا ينزله غیر منزلته، التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته.. فلا يضع الحرمان والمنع موضع العطاء والفضل، ولا الفضل والعطاء موضع الحرمان والمنع، ولا الثواب موضع العقاب، ولا العقاب موضع الثواب، ولا الخفض موضع الرفع، ولا الرفع موضع الخفض، ولا العز مكان الذل، ولا الذل مكان العز، ولا يأمر بما ينبغي النهي عنه، ولا ينهى عما ينبغي الأمر به.
ومنها؛ حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، ولكان الحاصل بعضها، لا كلها؛ فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة فيه سبحانه، والمعاداة فيه، والحب فيه والبغض فيه، وبذل النفس له في محاربة عدوه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوي، وإيثار محاب الرب على محاب النفس.
ومنها: عبودية مخالفة عدوه، ومراغمته في الله وإغاظته فيه، وهي من أحب أنواع العبودية إليه، فإنه سبحانه يحب من وليه أن يغيظ عدوه ویراغمه ويسوءه، وهذه عبودية لا يتفطن لها إلا الأكياس.
ومنها: أن يتعبد له بالاستعاذة من عدوه، وسؤاله أن يجيره منه، ويعصمه من كيده وأذاه”. (2مدارج السالكين (2/ 197))
إن المتأمل اليوم في عصرنا الحاضر وما فيه من الصراعات، يجد أن الصراع بين الحق والباطل قد بلغ أشده، وأن مِلل الكفر قد جمعت كل إمكانياتها ضد عدو واحد ألا وهو الإسلام ودعاته الصادقين الذين يصفونهم تارة بالمتطرفين وتارة بالأصوليين وتارة بالإرهابيين.
سِمة الأحداث الحالية
وإن المراقب للأحداث التي ظهرت في السنوات الأخيرة وبالذات بعد أحداث الخليج، ونشوء ما يسمى (النظام العالمي الجديد) لَيلاحظ أنها تتسم بسمتين رئيسيتين هما:
1- التسارع الشديد والمفاجآت التي تصحبها، إلى حد أن المتابع لهذه الأحداث لا يفتأ يسمع بحدث ويبحث عن الموقف منه إلا وتفجؤه أحداث أخر تنسيه أو تشغله عن الحدث الأول.
2- إن أغلب هذه الأحداث ـ إن لم نقل كلها ـ تقع في المنطقة الإسلامية وأن المسلمين فيها هم المستهدَفون بالدرجة الأولى.
إن هذا الصراع الذي نعيشه في الآونة الأخيرة قد رجحت فيه قوة الكفر والكافرين، لِحكمة يعلمها الله عز وجل ـ كما سبق أن بيّنا ـ فاستباحوا بذلك ديار المسلمين ودماءهم وأعراضهم وبلغ المسلمون من الذلة والمهانة واستخفاف أعدائهم بهم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل.
فجر قريب
وفي ظل هذه الحملة الشرسة على ديار المسلمين ودينهم وأعراضهم صار الكثير من الدعاة إلى الله عز وجل يتساءلون مع بعضهم أو مع أنفسهم.
أما آن لهذه المهانة أن تنقشع..؟ متى ينجلي هذا الليل الطويل الذي ناءَ تحت کلکله كلُ مسلم غيور يهمه أمر هذا الدين..؟
متى يبزغ فجر الإسلام؟
وبشكل عام ظهر سؤال كبير؛ ألا وهو ذاك السؤال الذي سأله الرسول صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا معه بعدما أصابتهم البأساء والضراء وزلزلوا فقالوا: متى نصر الله..؟
………………………..
الهوامش:
- أخرجه البخاري في الجهاد (2850)، وفي المناقب (3644).
- مدارج السالكين (2/ 197).
المصدر:
- فضيلة الشيخ/ عبد العزيز الجًليّل، كتاب “”وإذا قلتم فاعدلوا” المجلد الأول، ص183-196.”