لقد غابت راية الإسلام عن أرض الإسلام، وحكَمتها نظم علمانية لا دينية تُعلي أحكام الجاهلية، وتتستر بلافتة الإسلام؛ ومن ثَم وجب علي كل من يضطلع بمهمة إحياء الأمة الإسلامية، أن يُسقط هذه اللافتة الكاذبة عن العلمانية لتظهر علي حقيقتها.. “كفراً وشركاً” يناقض التوحيد والإسلام، وليس له أدني “شرعية” في أن يحكم ديار الإسلام.. وليس لحكامه “العملاء” أدني حق في السمع والطاعة من الأمة..

التجارب الديمقراطية في العالم الإسلامي

ومن خلال التجارب الديمقراطية في العالم الإسلامي حاول الإسلاميون الوصول إلى أهدافهم على سلم الديمقراطية، فأبى ذلك السلم إلا أن يسقطهم كما حدث في مصر واليمن والمغرب وتونس وليبيا والجزائر.

ففي مصر استدرج العسكر الإخوان المسلمين وألهوهم بالانتخابات الرئاسية والتشريعية، وهم أثناء ذلك كانوا يرتبون البيت من الداخل، إذ كاد بنيانه أن ينهار بفعل انتفاضة 25 يناير 2011م وعندما رتبوا أمورهم، انقضوا على الإخوان فأزالوهم من موقع الرئاسة، وحلوا مجلس الشعب وزجوا بقيادات الإخوان في السجون.

وفي اليمن كان من أهداف المؤامرة رغبة إقليمية ودولية (أمريكية – خليجية) تصفية إخوان اليمن (حزب الإصلاح) الذي راهن على الديمقراطية لحل مشاكل اليمن فخسر موقعه في السلطة، وتبخر مشروعه الديمقراطي بعد استيلاء الرافضة الحوثيين على مقاليد السلطة في صنعاء. ثم تعقدت القضايا أكثر بتدخل السعودية والإمارات في شؤون اليمن. ولم يحصل اليمن على شيء سوى المعاناة والفقر والمرض والإقصاء، وفقدان الأمن والاستقرار.

وفي تونس انحاز حزب النهضة إلى تيار الليبرالية والنهج العلماني، متنكرا لماضيه الإسلامي مصمما على إرضاء البورجوازية الماسكة بزمام الأمور، والمؤسسة العسكرية التي منحت ولاءها لفرنسا، وتعادي هي والبورجوازية التونسية الشريعة الإسلامية.

وفي المغرب دعا حزب العدالة والتنمية إلى فصل الدين عن السياسة، ومنح ولاءه للملكية، وألبس الإسلام لبوس العلمانية للتلبيس على المسلمين، ولم يف بوعوده الانتخابية، بل زاد الفساد أثناء حكمه في جميع المجالات، وأصبح هذا الحزب ألعوبة في أيدي مستشاري الملك العلمانيين الفرنكوفونيين الذين يعادون كل شيء له علاقة بالإسلام. على أن التنازلات التي قدمها حزب العدالة والتنمية للنظام الملكي لإقصاء الشريعة عن كل مجالات الحياة، تتبين بوضوح في ملتقى النهضة الشبابي الثالث المنعقدة في الكويت في عام 2012م، حيث تحدث أحد الأعضاء البارزين في حزب العدالة والتنمية المغربي وهو سعد الدين العثماني، الذي تولى فيما بعد منصب رئيس الوزراء في الحكومة المغربية، عن تجربة الحركات الإسلامية في المجالات السياسية:

فقال: “بأن النظام الديمقراطي أكثر منطقية من النظام الإسلامي البسيط غير القابل للتطبيق”.

وقال: “بأن الحركات الإسلامية تحتاج لإعادة نظرها بموقف التردد والغموض الذي يحيط بمنهج نظرها للفقه السياسي، ولتحرير الالتباس الذي يحيط بفهمها للعلاقة بين الدين والسياسة. ولا يكون ذلك إلا أن تقبل بالتعددية السياسية، التي تقبل بدساتير تقر بحكم غير إسلامي والإسلامي بصورة تداولية”.

[للمزيد اقرأ: الديمقراطية.. تِلكَ الزَّفَةُ الكَاذِبَة].

هكذا ألبسوا الإسلام لبوس العلمانية

ثم دعا لفصل الدين عن السياسة بقوله: “التمييز بين الهيئة الدعوية والحزب السياسي وبين الفتيا والسياسة، بحيث نقبل أن يكون دور الحركات الإسلامية دعوة الناس للدين وفتياهم بالقضايا العبادية ولا يجب أن نخلط ذلك العمل بالسياسة، ونترك ذلك لأحزاب سياسية دنيوية يكون فيها المسلم وغير المسلم من مواطني البلد، إذ ليس من المقبول وجود أحزاب دينية سياسية”. ثم دعا صراحة إلى عدم الحكم بالشريعة. وهذا يتفق مع قرار حزب النهضة التونسي الأخير، ويمثل مع غيره نقضا لأصول الحكم الإسلامي أو الدولة الإسلامية، حيث قال: “بالتفريق بين آيات التشريع الديني والتدبير السياسي والشريعة مرجع للقانون ولا يلزم أن تحكم بالشريعة. ودورنا أن نصنع انسجاما بين الشريعة والقانون المدني بالوسائل الديمقراطية. ويجب أن نميز في الآيات القرآنية بين ما هو ديني وتلك المتعلقة بالتدبير السياسي أو القانوني المدني المرتبط بزمانها”.

كما جعل المواطنة أساس الارتباط بين الناس ومعقد الولاء بينهم وليس العقيدة الإسلامية، حيث قال: “الولاء الديني يجمع أمة الدين، لكن الولاء السياسي يجمع أمة الدولة السياسية التي تجمع أفرادها بالمواطنة أيا كانت أديانهم أو مذاهبهم، ولهم بذلك حقوق ومشاركات متساوية”. وفي الختام قال: “ليس من مقصد الشريعة أن يحكم الناس بما لا يريدونه، فلابد أن يكون هناك رضا وانسجام من خلال قوانين مدنية تقر بالوسائل الديمقراطية والمعايير الدستورية، حتى نضمن لها قبول الناس”1(1) (أحمد العمير: النهضويون الجدد: قراءة في ملتقى النهضة الشبابي الثالث مجلة المنار الجديد، العدد 58-59، ص 67)..

يا سبحان الله! متى كانت أهواء الناس معيارا لقبول الحق أو رفضه؟! أليس يقول الله جل ذكره في محكم التنزيل: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) [الأحزاب:36]. فماذا أبقى للإسلام وشريعته هؤلاء النهضويون الجدد الذين ألبسوا الإسلام لبوس العلمانية للتلبيس على المسلمين؟! وذلك بعد أن تركوا مورد الشريعة الهنيء العذب، وسلكوا درب ونفق الديمقراطية المظلم، وهي السم الزُّعاف الذي سقاهم الغرب فأرداهم قتلى. فهم في واقع الأمر أجسام وقلوب ميتة تتحرك بلا أرواح وبصيرة، بعيدا عن نور الوحي وهديه وحكمته.

الشريعة هي الضمان الحقيقي لحفظ حقوق الناس وحرياتهم

لقد رفع الناس خلال الانتفاضات في العالم العربي الإسلامي شعارات الحرية والحياة الكريمة، ولم يدرك هؤلاء الناس بأن الشريعة هي أكبر ضمان حقيقي لحفظ حقوق الناس وحرياتهم، ومنع أي تعد على أموالهم وأعراضهم ودماءهم. كما أنها ضمان لإقامة النظام الشوري القائم على العدل والرحمة، وأنها مصدر الأمن الغذائي والسلم الاجتماعي؛ لأن أحكامها منزلة من عند الله تعالى الحكيم العليم، الرحيم والرؤوف بعباده.

أهمية تحكيم الشريعة في البلدان الإسلامية.

على أن تحكيم الشريعة إذا كان غير ممكن في المجتمعات الإسلامية من جهة الواقع، فهو ممكن على مستوى نشر الوعي والمفاهيم بين الناس. وها هنا يتجلى دور العلماء الربانيين؛ فمن الواجب عليهم أن يقدموا رؤيتهم عن أهمية تحكيم الشريعة في البلدان الإسلامية. وأن يبصروا الناس بحقوقهم وحرياتهم التي تكفلها الشريعة. على أن بذل الجهد من طرف العلماء في تصحيح مفاهيم الناس وإصلاح وعيهم هو الكفيل بأن تطالب الشعوب بتطبيق الشريعة الإسلامية. وهذا التصحيح في المرحلة الراهنة من حياة المسلمين، حيث طغى القانون الوضعي وأصبح يهيمن على كافة الشؤون والمجالات، أن يُعنى العلماء والدعاة المصلحون عناية خاصة بإصلاح دين الناس وسلوكهم وتعظيمهم لله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتعظيمهم لأمر الله تعالى، وبإصلاح ما يريد الإسلام منهم، حتى يكونوا أشد مطالبة وتمسكا بتحكيم الشريعة على كافة الصعد، حتى يأتي أوان تطبيقها.

ومن التنبيه بمكان، أنه لما كانت مواقف الجماعات والأحزاب الإسلامية الديمقراطية مجافية للشرع، ومؤسسة على عواطف شخصية وردود أفعال غير محسوبة، لأجل ذلك ينبغي أن لا ينساق المسلمون خلف أهواء هذه الجماعات والأحزاب، بل يجب عليهم أن يلتفوا حول العلماء الربانيين المتقيدين بأحكام العقيدة والشريعة الإسلامية.

 [للمزيد اقرأ: جريمة إقصاء الشريعة].

أيها العلماء الأجلاء: هذا دوركم

وقد آن الأوان ليحمل العلماء العاملون لواء التوحيد وراية التوجيه لتربية الناشئة والشباب تربية قرآنية إيمانية، وتعليمهم أحكام الدين الحقة، وتوعية المسلمين بواقعهم. إذ الملاحظ أن ضغط الواقع الجاهلي على الشباب الغيور على دينه قد أفرز جماعات وأحزاب إسلامية تتحرك من خلال ردود الأفعال والعواطف الجياشة، فتراها تقبل بآراء شاذة عن الشريعة في الحكم على الواقع المعاصر، دون أن يكون مستندها دليل صحيح من الكتاب والسنة، بل تستند إلى مجرد الرأي والقياس العقلي بالرغم من قولها أنها تحتكم إلى الكتاب والسنة.

ولأجل ذلك، أصيب العمل الإسلامي في مقتل حين سلمت قياداته لغير المؤهلين تأهيلا شرعيا. ولأجل ذلك لابد للعاملين في الحقل الإسلامي من الالتقاء على منهاج الكتاب والسنة من خلال فهم العلماء الراسخين، وليس من خلال ضرورات المصلحة التي تتغير من أن لآخر.

لكن للأسف نجد أن العلماء اليوم صنفين: صنف منكفئ على نفسه جالس في بيته، قد اعتزل المجتمع والواقع؛ فهو سلبي بهذا الموقف والسلوك، إذ لا يخدم قضايا المسلمين المصيرية، ولا يقود الناس في معترك الحياة.

وصنف آخر يسير في ركاب السلاطين والرؤساء، ويسوغ الواقع الشركي، وينافق ويتملق أصحاب الجاه والسلطان، ويفتي فتاوى ضالة تلبس على الناس أمر دينهم. وصدق في هؤلاء قول العالم المجاهد المحدث الكبير عبد الله بن المبارك:

وهل أفسد الدين إلا الملوك ** وأحبار سوء ورهبانها.

[للمزيد اقرأ: مصيبة العلماء في واقعنا المعاصر].

ولأجل ذلك يجب على العلماء الربانيين أن يقفوا بالمرصاد لهذه الأحزاب الإسلامية الديمقراطية التي ميعت حياة المسلمين باسم الديمقراطية، ويكشفوا حالها للأمة، ويصدعوا بالحق لا يخافون في الله تعالى لومة لائم، فقد أخذ الله عز وجل العهد والميثاق عليهم: (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران:187].

ولأجل ذلك، فدور العلماء المفصلي يتمثل في:

1- تعليم المسلمين دينهم الحق.

2- ترسيخ العقيدة الصحيحة في نفوسهم.

3 – تربية القيادات الفكرية وإعدادها بالفقه والحكمة والقدوة الحسنة والسلوك الإسلامي.

4- تربية الناس على التزام بالشرع وتطبيقه في الشأن اليومي.

5- تحصين النفوس بالسنة والاتباع.

6- حت الأمة على ترك الفرقة والاختلاف والاجتماع على الحق والالتفاف حول العلماء العاملين.

7- إعداد الأمة علميا بالتفقه في الدين والتبصر فيه.

8- بیان سبيل المجرمين.

9- إعداد الشباب تربويا وسلوكيا، لتكوين النواة الصلبة المؤثرة، وهي عماد الإصلاح؛ لأن التغيير الجاد الطموح لا يمكن أن يتحقق ويكتب له النجاح حتى تستجيب له فئة مصلحة تكون بمثابة النواة الصلبة التي تهيئ الأرضية والمناخ المناسب للأخذ بأيدي الأغلبية من أفراد المجتمع وتحويلهم نحو الإسلام عقيدة وشريعة وسلوكا، حيث تعمل على إبقاء الدعوة الإسلامية حية نابضة في صميم المجتمع، والله تعالى ولي التوفيق.

الهوامش

(1) (أحمد العمير: النهضويون الجدد: قراءة في ملتقى النهضة الشبابي الثالث مجلة المنار الجديد، العدد 58-59، ص 67).

اقرأ أيضا

دور أهل السنة في فضح العلمانية

علاقة الإرجاء بالعلمانية في فكر علماء وجماعات إسلامية

الاسلام شريعة تحكم حياة الأمة

الفرقان بين الإسلام والعلمانية

أهل السنة.. وحسم الموقف من العلمانية

أمور يجب على أهل العلم بيانها للناس

التعليقات غير متاحة