الركون إلى الكفار وإعطائهم بعض الطاعة ولو على سبيل الهزيمة المؤقتة؛ طريقٌ متلف ومهلك؛ فقد أخبر الله أن عاقبته خسارة الطريق كله؛ فاحذر ولا تركن إليهم، فالله هو الملجأ.

مناسبة الآيات

يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]، هذه الآية شبيهة بآية أخرى من سورة آل عمران هي قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران:100]، فهذه الآية نزلت عقيب غزوة أحد، ونعلم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أن غزوة أحد مثلت زلزالاً للمؤمنين، فقد زلزلوا زلزالاً شديداً، حيث قتل سبعون من خيارهم وجرح آخرون، وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض المسلمين ألقوا بأيديهم، وبعضهم ولى مدبراً لما سمع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، وبعضهم تساءل: أنى هذا؟ يعني: كيف نهزم ونحن المؤمنون الموحدون؟ والمنافقون واليهود انتهزوها فرصة من أجل أن يشككوا المسلمين في دينهم، فقال اليهود: لو كان محمد نبياً ما غُلب، ولكنه ملك كسائر الملوك تارة يغلب وتارة يُغلب، فصوروا النبي صلى الله عليه وسلم على أنه طالب ملك، وطالب رئاسة يسري عليه ما يسري على غيره.

وأما المنافقون فقد قالوا للمسلمين: ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا في دينهم، واطلبوا الأمان منهم، فاذهبوا إلى أبي سفيان واطلبوا منه الأمان؛ لأنهم سيغزون المدينة ثانية، فأنزل الله هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، والمراد بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين أطلقت هذه الشائعات من حولهم، والعبرة بعموم اللفظ.

طاعة الكافرين: خسران مبين

وقوله: (إِنْ تُطِيعُوا) الطاعة تطلق على مطلق امتثال أمر من آمر، وقوله تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) الرد: التصيير، كما في قوله تعالى: (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ)، وقوله تعالى: (يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)، فالرد على الأعقاب أي الارتداد والرجوع إلى الشرك، فقوله تعالى: (يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) أي: فترجعوا خاسرين في الدنيا والآخرة.

أما في الدنيا فالذل بعد العز، والخوف بعد الأمن، وحرمان الوعود التي وعدها الله عز وجل لعباده المؤمنين بقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].

وقال الحسن البصري رحمه الله: معنى الآية: إن تستنصحوا اليهود والنصارى؛ وتقبلوا منهم؛ لأنهم كانوا يستغوونهم ويرمون لهم الشبه، فإن تطيعوا هؤلاء وتستنصحوهم وتقبلوا منهم، يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين.

وهذه الآية في معناها آيات كقول الله عز وجل في المنافقين: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89]، وقول الله عز وجل في أهل الكتاب {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ} [البقرة:109]، وقوله تعالى: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [آل عمران:69].

وما زال الكفار في القديم والحديث مثابرين على أن يردوا المسلمين عن دينهم ويزلزلوا عقائدهم، فتارة ببعثات تبشيرية وحملات تنصيرية، وتارة بفعل أهل الاستشراق الذين استغووا كثيراً من أبناء المسلمين ممن ذهبوا إلى بلاد الغرب طلباً للعلم بزعمهم أو عن طريق الحملات العسكرية كما هو حاصل الآن، وهي حملات عسكرية سافرة، أطلقوا عليها الحرب المقدسة، وهذا كله من أجل أن يردوا المسلمين على أعقابهم فينقلبوا خاسرين.

كلام سيد قطب في تفسير الآية

يقول سيد قطب رحمه الله: يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا، فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة وليس فيها ربح ولا منفعة، فبها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر، فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار ويكافح الباطل والمبطلين، وإما أن يرتد على عقبيه -والعياذ بالله- كافراً، ومحال أن يقف سلبياً بين بين، محافظاً على موقفه ومحتفظاً بدينه، فإنه قد يخيل إليه هذا، فيخيل إليه في أعقاب الهزيمة، وتحت وطأة الجرح والقرح أنه يستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين وأن يسالمهم ويطيعهم وهو مع ذلك محتفظ بدينه وعقيدته وإيمانه وكيانه، وهذا وهم كبير.

فالذي لا يتحرك إلى الأمام في هذا المجال لا بد أن يرتد إلى الوراء، والذي لا يكافح الشر والباطل والضلال والطغيان والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين والاستماع إليهم والثقة بهم؛ يتنازل في الحقيقة عن عقيدته وإيمانه منذ اللحظة الأولى، فليست العبرة بهزيمة في معركة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم أحد هزموا بنص القرآن الكريم، فالله عز وجل بين بأنهم نصروا أولاً ثم انكسروا في الأخير، لكن هل شك رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظة؟ لا، والله! فهو صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ودمه ينزف: (اصطفوا لأثني على ربي)، وأثنى على ربه جل جلاله بكلمات وكأنه المنتصر عليه الصلاة والسلام، وهو في حقيقة الأمر منتصر؛ لأن المبدأ والعقيدة ما تغيرت ولا تزلزلت، والأنبياء هكذا سنتهم يدال عليهم مرة ويدالون مرة، وهذه سنة الله عز وجل كما قال جل في علاه: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].

صور من الثبات على المنهج

وكاتب هذه الكلمات سيد قطب رحمه الله تمكن منه أهل الطغيان، وسجن وعذب وأوذي، ثم في ختام الأمر قتل رحمة الله عليه، لكن هل ذهب فكره؟ وهل نسي أمره؟ وهل ذابت عقيدته؟ لا، والله! بقيت كلماته كما قال: إن كلماتنا تبقى عرائس من الشمع حتى إذا رويناها بدمائنا دبت فيها الحياة، فما زال إلى يومنا هذا كثير من أبناء حركة الإسلام والصحوة الإسلامية موجههم الأول هو فكر سيد قطب، وما بثه وما نثره في كتبه.

بل أبلغ من ذلك أبو العباس ابن تيمية شيخ الإسلام رحمة الله عليه، هذا الرجل الذي قاتل التتار، وقاتل الصليبيين، وأحيا السنة، وأمات البدعة، وجاهد في الله حق جهاده، بعض العلماء هددوه وما اتقوا الله فيه، ووشوا به عند السلطان، فألقي في السجن ومات فيه، رحمة الله عليه، فمات في سجن القلعة، لكنه ما هزم، بل ما زال فكره رحمه الله هو المغذي وهو المحرك، وما زال علماء الإسلام يرجعون إلى فتاويه وإلى كتبه وإلى أقواله التي طبقت المشارق والمغارب.

وأبلغ من هذا وأوضح الإمام أحمد رحمة الله عليه الذي جلد بالسياط في فتنة خلق القرآن، لكنه رضي الله عنه ما تنازل ولا تغير؛ فجعل الله العاقبة له وأظهر أمره، وصار إمام أهل السنة.

ومن قبله مالك رحمة الله عليه وأبو حنيفة وسفيان الثوري وغير هؤلاء كثيرون ممن لم يطيعوا الذين كفروا، ولم يداهنوا الذين نافقوا، ولم يتنازلوا عن شيء من الدين، فما ردوا على أعقابهم خاسرين، بل جعل الله لهم رفعة الذكر في الدنيا وإن شاء الله جنة عرضها السموات والأرض في الآخرة.

وهناك أناس يطيعون الذين كفروا شيئاً فشيئاً إلى أن يبلغ بهم الأمر أن يتنازلوا عن الدين كله، نسأل الله السلامة والعافية.

كلام الجصاص في تفسير الآية

قال أبو بكر الرازي الجصاص رحمه الله في أحكام القرآن: فيها دلالة على النهي عن طاعة الكفار مطلقاً، {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149]، لكن أجمع المسلمون على أنه لا يندرج تحته من وثقنا بنصحه منهم، كالجاسوس والخريت الذي يهدي على الطريق، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة كان دليلهم عبد الله بن أريقط وكان كافراً، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ائتمنه ومشى خلفه وهو يصف له الطريق إلى أن بلغ المدينة، فالرسول صلى الله عليه وسلم وثق به، فقد يكون كافر من الكفار خريتاً خبيراً بالطريق، أو يصلح أن يكون جاسوساً للمسلمين، وأوضح من هذا صاحب الرأي ذي المصلحة الظاهرة، والزوجة تشير بصواب، يعني: لو فرض أن إنساناً متزوجاً من كافرة كأن تكون نصرانية أو يهودية فبينك وبينها ولد أو أولاد، فأنت تقول: نذهب بالأولاد إلى مدرسة كذا، وهي قالت: لا، بل نذهب بهم إلى مدرسة كذا والسبب كذا وكذا وكذا وكذا، ووجدت أن رأيها صواب، هنا في هذه الحالة لا نقول: {إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران:149] فإشارة الزوجة -مع كفرها- لو أشارت بالصواب فالقول قولها، كذلك الخبير والجاسوس، وصاحب الرأي ذي المصلحة الظاهرة.

المصدر

موقع الدكتور عبد الحي يوسف.

اقرأ أيضا

“طاعة الكفار” خسران مبين

مخاطر ضعف البراءة من الكافرين

لمن ولاؤك اليوم يا مسلم؟

التهوين من عقيدة الولاء والبراء

وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ .. (2) بين الطاعة والتأله

التعليقات غير متاحة