الركون الى الكفار وإعطائهم بعض الطاعة ولو على سبيل الهزيمة المؤقتة؛ طريقٌ متلف ومهلك؛ فقد أخبر الله أن عاقبته خسارة الطريق كله؛ فاحذر ولا تركن اليهم، فالله هو الملجأ.

مقدمة

هناك نوعان من الطاعة؛ طاعة التشريع وهي متصلة بالعقيدة مباشرة، ولا تجوز إلا لله.

وثمة طاعة أخرى وهي طاعة الركون للقوى الغالبة. وقد حرم الله تعالى على المؤمنين لأن تصدر منهم هذه الطاعة تحت ضغط هزيمة في جولة أو استضعاف في زمان أو مكان. قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 149].

يحذّر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الكفار، فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة، وليس فيها ربح ولا منفعة، فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر، فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار، ويكافح الباطل والمبطلين، وإما أن يرتد على عقبيه. والذي لا يكافح الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان لا بد أن يتخاذل ويتقهقر. والذي لا تعصمه عقيدته وإيمانه من طاعة الكافرين، والاستماع إليهم، والثقة بهم، فإن خسارته تكون كبيرة.

قال الحافظ ابن كثير:

“يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين، فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة”. (1التفسير (1/ 412))

وقد وقع المسلمون في هذه العصور الأخيرة فيما نهاهم الله عنه من طاعة الذين كفروا. فأسلموا إلى الكفار عقولهم وألبابهم، وأسلموا إليهم ـ في بعض الأحيان ـ بلادهم، وصاروا في كثير من الأقطار رعيّة للكافرين من الحاكمين، وأتْباعا لدول هي ألدّ الأعداء للإسلام والمسلمين، ووضعوا في أعناقهم ربقة الطاعة لهم، بما هو من حق الدولة من طاعة المحكوم للحاكم. بل قاتل ناس ينتسبون للإسلام من رعايا الدول العدوة للإسلام ـ إخوانَهم المسلمين في دول كانت إسلامية إذ ذاك. (2عمدة التفاسير (3/ 51))

وهذا نهْي من الله للمؤمنين أن يطيعوا الكافرين من المنافقين والمشركين، فإنهم إن أطاعوهم لم يريدوا لهم إلا الشر، وهم قصْدهم ردهم إلى الكفر الذي عاقبته الخيبة والخسران. (3تفسير السعدي، تفسير سورة آل عمران)

وقوله: ﴿فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ﴾ أى فترجعوا خاسرين لخيرى الدنيا والآخرة، أما خسران الدنيا فبسبب انقيادكم لهم، واستسلامكم لمطالبهم.. وأما خسران الآخرة فبسبب ترككم لوصايا دينكم ومخالفتكم لأوامر خالقكم، وتوجيهات نبيكم صلّى الله عليه وسلّم وكفى بذلك خسارة شنيعة. (4تفسير الآلوسي، تفسير سورة آل عمران)

“ثم عمَّ البلاء، فظهر حكام في كثير من البلاد الإسلامية يدينون بالطاعة للكفار ـ عقلا وروحا وعقيدة ـ واستذلوا الرعية من المسلمين وبثوا فيهم عداوة الإسلام بالتدريج، حتى كادوا يردوهم على أعقابهم خاسرين، وما أولئك بالمسلمين”. (5حكم الجاهلية، الشيخ أحمد شاكر)

طاعة الكافرين وعاقبتها

وهذا بيان لقاعدة عامة في سير المؤمنين في كل أمورهم، فالفشل والخلل إنما يقع للمسلمين إذا أطاعوا الكافرين، أو تقربوا إليهم بالتنازل عن مبادئهم، أو تركوا بعض ما أمرهم الله به خوفًا من الكافرين، أو طمعًا فيما عندهم، فلا يمكن أن يقع ذلك إلا ترتبت عليه أحداث عظيمة، ومحن تضر بهذه الأمة، فلذلك ناداهم، وربط هذا النداء بالإيمان الذي هو الدافع العقدي الذي يدفعهم إلى التضحية والبذل، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.

ثم ربط هذا الأمر بالشرط المشكك، فإنّ (إنْ) ـ كما سبق ـ للمشكوك فيه؛ أي: أن ذلك مستغرب أن يقع من المؤمنين، وهو طاعتهم للكافرين، كيف يطيعونهم في مقابل طاعتهم لله..؟! فالطاعة إنما تكون على أساس الخوف، أو الطمع، أو المحبة. وهذه الثلاثة كلها منقطعة بالنسبة للكفار.

فالمؤمنون يعلمون أن الكفار لا يملكون لهم ولا لغيرهم نفعًا ولا ضرًّا ولا حياةً ولا موتًا ولا نشورًا، ويعلمون أنهم لو كان لديهم نفع لبدءوا به بأنفسهم. ولا يحبونهم؛ لأنهم يعادونهم في الدين، فكل ذلك يقتضي منهم عدم طاعتهم، فلهذا قال: ﴿إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾.

وهذه الطاعة جاءت بصيغة الفعل الذي يقتضي الإطلاق، فهو يشمل الطاعة في القليل والكثير، فطاعتهم بالامتثال لما يأمرون به ويخططونه، حتى لو كان ذلك أمرًا يسيرًا مدعاة للهزيمة والمذلة في المؤمنين.

ولهذا فإن الكفار قد يأمرون بأمر يسير، ولا يترتب عليه في الظاهر كبير خلل، ولكن من سنة الله تعالى أنهم إذا أطاعهم المؤمنون فيه، جاءت نكبة من عند الله تعالى تصيب المؤمنين؛ لتنبيههم على الخطأ الذي وقعوا فيه، وعلى الخطر الذي ينتظرهم إذا استمروا على هذا الطريق، وهو طاعة الكافرين، فلذلك قال: ﴿إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا.

والطاعة: هي امتثال ما يأمرون به، أو اجتناب ما ينهون عنه، والطاعة امتثال أو اجتناب، فلا يدخل في ذلك مجرد العلاقة التي تقع بين الوالد وولده، أو بين الجار وجاره، أو بين الشريك وشريكه، فكل ذلك لا يدخل في الطاعة المنهي عنها هنا، فإنما الطاعة بامتثال الأوامر واجتناب النواهي في مقابل طاعة الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾. (6تقويم الله لغزوة أحد [3] – (للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي))

الارتداد عن الدين وعاقبته

(يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) وهي تدل على أن هذا الانقلاب والرجوع حقيقي، يترتب عليه مسخ الصورة، ومسخ التصور، ومسخ العمل، وغير ذلك من أنواع المسخ، حتى إن الإنسان في فكره يمسخ، فيتعجب الإنسان الآن لكثير من أصحاب المبادئ الذين كانوا يدافعون عنها، ويتمدحون بها بعد موالاتهم للكفار، يرجعون عن تلك المبادئ ويتنكرون لها بالكلية، فكثيرًا من الذين كانوا يتمدحون بالقومية العربية، وقد أصبحوا تظهرهم التلفازات وهم يصافحون إخوان القردة والخنازير من اليهود المحتلين المستعمرين.

وكل هذا يدل على أن الرجوع رجوع حقيقي في التصورات، وفي المحبة، وفي الكره، وفي غير ذلك، وهو رجوع إلى الوراء بكل المعايير، وبكل القيم والمفاهيم، وهو شامل كذلك لجهل الإنسان ما علمه؛ لأن الإنسان إذا علم من الحق شيئًا فقد قطع مسافة في الطريق، فإذا عمل على خلاف ما علم فقد انتكس على عقبيه ورجع مسافة أخرى. (7تقويم الله لغزوة أحد [3] – (للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي))

طاعة الكافرين وتعارضها مع إقامة الدين

يقول سيد قطب رحمه الله:

“لقد جاءت هذه الأمة المسلمة لتنشئ في الأرض طريقها على منهج الله وحده، متميزة متفردة ظاهرة. لقد انبثق وجودها ابتداء من منهج الله؛ لتؤدي في حياة البشر دورا خاصا لا ينهض به سواها. لقد وُجدت لإقرار منهج الله في الأرض، وتحقيقه في صورة عملية، ذات معالم منظورة، تترجم فيها النصوص إلى حركات وأعمال، ومشاعر وأخلاق، وأوضاع وارتباطات.

وهي لا تحقق غاية وجودها، ولا تستقيم على طريقها، ولا تنشئ في الأرض هذه الصورة الوضيئة الفريدة من الحياة الواقعية الخاصة المتميزة، إلا إذا تلقّت من الله وحده، وإلا إذا تولت قيادة البشرية بما تتلقاه من الله وحده. قيادة البشرية.. لا التلقي من أحد من البشر، ولا اتباع أحد من البشر، ولا طاعة أحد من البشر..

إما هذا وإما الكفر والضلال والانحراف..

هذا ما يؤكده القرآن ويكرره في شتى المناسبات. وهذا ما يقيم عليه مشاعر الجماعة المسلمة وأفكارها وأخلاقها كلما سنحت الفرصة. وهنا موضع من هذه المواضع، مناسبته هي المناظرة مع أهل الكتاب، ومواجهة كيدهم وتآمرهم على الجماعة المسلمة في المدينة، ولكنه ليس محدودا بحدود هذه المناسبة، فهو التوجيه الدائم لهذه الأمة، في كل جيل من أجيالها. لأنه هو قاعدة حياتها، بل قاعدة وجودها.

لقد وجدت هذه الأمة لقيادة البشرية. فكيف تتلقى إذن من الجاهلية التي جاءت لتبدلها ولتصلها بالله، ولتقودها بمنهج الله؟ وحين تتخلى عن مهمة القيادة فما وجودها إذن، وليس لوجودها – في هذه الحال – من غاية..؟!”. (8تفسير سورة آل عمران، في ظلال القرآن الجزء الأول)

خاتمة .. دور القيادة

إذا كان الدور هو القيادة فقد..

“وُجدت للقيادة: قيادة التصور الصحيح. والاعتقاد الصحيح. والشعور الصحيح. والخلق الصحيح. والنظام الصحيح. والتنظيم الصحيح.. وفي ظل هذه الأوضاع الصحيحة يمكن أن تنمو العقول، وأن تتفتح، وأن تتعرف إلى هذا الكون، وأن تعرف أسراره، وأن تسخر قواه وطاقاته ومدخراته.

ولكن القيادة الأساسية التي تسمح بهذا كله وتسيطر على هذا كله، وتوجهه لخير البشر لا لتهديدهم بالخراب والدمار، ولا لتسخيره في المآرب والشهوات.. ينبغي أن تكون للإيمان، وأن تقوم عليها الجماعة المسلمة، مهتدية فيها بتوجيه الله، لا بتوجيه أحد من عبيد الله.

وهنا في هذا الدرس يحذر الأمة المسلمة من اتباع غيرها، ويبين لها كذلك طريقها لإنشاء الأوضاع الصحيحة وصيانتها. ويبدأ بتحذيرها من اتباع أهل الكتاب، وإلا فسيقودونها إلى الكفر لا مناص (9المصدر السابق)

فلا تترك الطريق ولا تركن اليهم شيئا قليلا..

الهوامش:

  1. التفسير (1/ 412).
  2. عمدة التفاسير (3/ 51).
  3. تفسير السعدي، تفسير سورة آل عمران.
  4. تفسير الآلوسي، تفسير سورة آل عمران.
  5. حكم الجاهلية، الشيخ أحمد شاكر.
  6. تقويم الله لغزوة أحد [3] – (للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي).
  7. تقويم الله لغزوة أحد [3] – (للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي).
  8. تفسير سورة آل عمران، في ظلال القرآن الجزء الأول.
  9. المصدر السابق.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة