مع وضوح هذه السنة وجلائها من القرآن، وبمقتضى العقل والحس، إلا أننا نجد من هو في غفلة عنها وعن مقتضى أسمائه سبحانه وصفاته العلا؛ حيث أدت هذه الغفلة عند بعضنا إلى شيء من اليأس والإحباط، أو إلى شيء من العجلة والتسرع أمام ضغط الواقع، وتسلط الأعداء، وعند انتشار الظلم والفساد.
بعض الوسائل الجالبة لفهم هذه السنة والتخلق بها
1- البصيرة في الدين والتفقه فيه (الفقه الواجب في الدين)
إن أهم جوانب التفقه في الدين الفقه الواجب المتمثل في: فقه العقيدة ، وفقه الأحكام؛ لأنهما من أقوى الوسائل في فهم هذه السنة ، والتأثر بها ، وتفصيل ذلك فيما يلي:
أ- فقه العقيدة ومعرفة الله عز وجل، وتوحيده بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته
وهذه أعظم العلوم وأشرفها ، وكل الوسائل التي تليها مكملة لها ومساعدة ومقوية لها لا تصلح بدونها ؛ لأن هذه المعرفة أهم وأشرف المعارف والعلوم ، وهي أول واجب يجب على المكلف معرفته ، وكلما كان العبد أعرف بربه وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى ، كان أقوى إيمانا وتسليما ومحبة وتوكلا وتفويضا.
وهذه المعرفة لا تتأتى إلابالعلم الصحيح ، والبصيرة النافذة في دين الله عز وجل وشرعه، والذي ليس لنا طريق إليه إلا بما جاءنا في كتاب ربنا عز وجل ، وما بلغه لنا نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم على لسان صحابته الكرام رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان .
وما جاء عن غير هذين المصدرين المنضبطين بفهم السلف الصالح فإنه لن يؤدي إلى المعرفة الصحيحة بالله عز وجل ، وبالتالي لن تحصل تلك الثمار المنشودة من ثمار أسمائه عز وجل وصفاته [“لا تحسبوه شراً لكم” .. طمأنينة وسلامة قلب] ، والتي يثمرها قوله تعالى: (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ).
ولذلك فإن الطوائف الضالة في معرفة الله عز وجل وأسمائه وصفاته كالجهمية والمعتزلة والقدرية وغيرهم هم أبعد الناس عن تذوق طعم هذه الثمار اليانعة ؛ لأن الشجرة التي فسد أصلها لا يرجى منها قطف الثمر.
الأسماء والصفات وآثارها القلبية
وسوف أقتصر في هذه الفقرة على كلمات للإمام ابن القيم رحمه الله تعالی تجلي هذه الحقيقة حيث لم أجد. حسب علمي القاصر. من اعتنى بمسألة الأسماء والصفات وآثارها القلبية والعبوديات التي تجب على العبد الله فيها ، كما اعتنى بها هذا الإمام الجليل رحمه الله تعالى فتراه يقول:
(فالبصيرة في الأسماء والصفات ألا يتأثر إيمانك بشبهة تعارض ما وصف الله به نفسه ، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، بل تكون الشبه المعارضة لذلك عندك بمنزلة الشبه والشكوك في وجود الله ، فكلاهما سواء في البلاء عند أهل البصائر .
وعقد هذا أن يشهد قلبك الرب تبارك وتعالى مستويا على عرشه ، متکلما بأمره ونهيه ، بصيرا بحركات العالم علويه وسفليه ، وأشخاصه وذواته ، سميعا لأصواتهم ، رقيبا على ضمائرهم وأسرارهم ، وأمر الممالك تحت تدبيره ، نازل من عنده وصاعد إليه ، وأملاكه بين يديه تنفذ أوامره في أقطار الممالك ، موصوفا بصفات الكمال ، منعوتا بنعوت الجلال، منزها عن العيوب والنقائص والمثال ، هو كما وصف نفسه في كتابه، وفوق ما يصفه به خلقه، حي لا يموت ، قيوم لا ينام ، عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، بصير يری دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، سميع يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات ، على تفنن الحاجات . تمت كلماته صدقا وعدلا ، وجلت صفاته أن تقاس بصفات خلقه شبها ومثلا ، وتعالت ذاته أن تشبه شيئا من الذوات أصلا ، ووسعت الخليقة أفعاله عدلا وحكمة ورحمة وإحسانا وفضلا. له الخلق والأمر ، وله النعمة والفضل . وله الملك والحمد ، وله الثناء والمجد. أول ليس قبله شيء. وآخر ليس بعده شيء . ظاهر ليس فوقه شيء ، باطن ليس دونه شيء ، أسماؤه كلها أسماء مدح وحمد وثناء وتمجيد ؛ ولذلك كانت حسنى ، وصفاته كلها صفات کمال ، ونعوته كلها نعوت جلال ، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل ، وكل شيء من مخلوقاته دال عليه ، ومرشد لمن رآه بعين البصيرة إليه ، لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا ، ولا ترك الإنسان سدی عاطلا ؛ بل خلق الخلق لقيام توحيده وعبادته ، وأسبغ عليهم نعمه ليتوسلوا بشكرها إلى زيادة كرامته ، تعرف إلى عباده بأنواع التعرفات ، وصرف لهم الآيات، ونوع لهم الدلالات، ودعاهم إلى محبته من جميع الأبواب ، ومد بينه وبينهم من عهده أقوى الأسباب ، فأتم عليهم نعمه السابغة ، وأقام عليهم حجته البالغة، أفاض عليهم النعمة ، وكتب على نفسه الرحمة ، وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته تغلب غضبه.
وتفاوت الناس في هذه البصيرة بحسب تفاوتهم في معرفة النصوص النبوية وفهمها، والعلم بفساد الشبه المخالفة لحقائقها .
وتجد أضعف الناس بصيرة أهل الكلام الباطل المذموم الذي ذمه السلف؛ لجهلهم بالنصوص ومعانيها ، وتمكن الشبه الباطلة من قلوبهم . وإذا تأملت حال العامة – الذين ليسوا مؤمنين عند أكثرهم. رأيتهم أتم بصيرة منهم ، وأقوى إيمانا ، وأعظم تسليما للوحي ، وانقيادا للحق)1(1) مدارج السالكين (1/ 124)..
حقيقة العلم بأسماء الله عز وجل وصفاته
يقول رحمه الله: (وأكمل الناس عبودية: المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر ، فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر ، كمن يحجبه التعبد باسمه “القدير” عن التعبد باسمه “الحليم الرحيم”، أو يحجبه عبودية اسمه “المعطي” ، عن عبودية اسمه “المانع” ، أو عبودية اسمه “الرحيم والعفو والغفور” ، عن اسمه “المنتقم” ، أو التعبد بأسماء “التودد ، والبر ، واللطف ، والإحسان” ، عن أسماء “العدل ، والجبروت ، والعظمة، والكبرياء” ، ونحو ذلك .
وهذه طريقة الكُمل من السائرين إلى الله . وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن ، قال الله تعالى: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأعراف: 180] ، والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ، ودعاء الثناء ، ودعاء التعبد. وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته ، ويثنوا عليه بها ، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها .
وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته .
فهو “عليم” ، يحب كل علیم ، “جواد”، يحب كل جواد ، “وتر” يحب الوتر، “جميل” ، يحب الجمال ، “عفو” يحب العفو وأهله ، “حيي” يحب الحياء وأهله ، “بَر” يحب الأبرار، “شكور” يحب الشاکرین ، “صبور” يحب الصابرين ، “حلیم”، يحب أهل الحلم. فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة ، والعفو والصفح: خلق من يغفر له ، ويتوب عليه ، ويعفو عنه ، وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له ؛ ليترتب عليه المحبوب له المرضي له ، فتوسطه کتوسط الأسباب المكروهة المفضية إلى المحبوب.
فربما كان مکروه العباد إلى محبوبها سبب ما مثله سبب
والأسباب – مع مسبباتها – أربعة أنواع: محبوب يفضي إلى محبوب ، ومكروه يفضي إلى محبوب ، وهذان النوعان عليهما مدار أقضيته وأقداره سبحانه بالنسبة إلى ما يحبه وما يكرهه .
والثالث: مكروه يفضي إلى مكروه .
والرابع: محبوب يفضي إلى مكروه ، وهذان النوعان ممتنعان في حقه سبحانه ؛ إذ الغايات المطلوبة من قضائه وقدره – الذي ما خلق ما خلق ، ولا قضى ما قضى إلا لأجل حصولها. لا تكون إلا محبوبة للرب ، مرضية له)2(2) مدارج السالكين (1/ 420، 421) ..
البصيرة بأسماء الله وصفاته تورث حسن الظن به والاطمئنان إلى اختياره
والحاصل من هذه الوسيلة أن العبد كلما كان أقوى توحيدا وأكثر بصيرة بأسماء الله عز وجل وصفاته ؛ كان أقوى إيمانا وتعبدا لله سبحانه، وكلما كان محبا لربه محسنا الظن بمولاه ، وراضيا بما يقضيه عليه ، موقنا بحكمة الله البالغة ، ورحمته الواسعة فيما يقضيه ويقدره . ولو كان مكروها للعبد. لا تؤثر في قلبه الشبهات ، ولا تضره الخطرات ، ولا يضعف صبره عند ورود الشهوات .
ذلك أن محبته لربه تجعله يعتقد أن ما يختاره الله سبحانه خير ، وأنه أحسن من اختياره لنفسه ؛ وذلك لمعرفة العبد لربه سبحانه بصفات الكمال والجلال ، وإحاطته بكل شيء ، ومعرفته لنفسه بصفات النقص والجهل والهوى . كل هذا يؤدي به إلى الاطمئنان لاختيار الله سبحانه ، وألا يضيق الإنسان ذرعا بذلك ، ولو كان ظاهره الشر والألم ، وصدق الله العظيم: (لا تحسبوه شرا لكم).
ورحم الله السباعي عندما قال:
(يتساءلون عن حكمتك في المرض والجوع ، والزلازل والكوارث ، وموت الأحباء وحياة الأعداء ، وضعف المصلحين وتسلط الظالمين ، وانتشار الفساد وكثرة المجرمين ، يتساءلون عن حكمتك فيها وأنت الرؤوف الرحيم بعبادك؟ فيا عجبا لقصر النظر ومتاهة الرأي ! إنهم إذا وثقوا بحكمة إنسان سلموا إليه أمرهم ، واستحسنوا فعاله وهم لا يعرفون حكمتها.
وأنت .. أنت مبدع السماوات والأرض ، يا خالق الإنسان على أحسن صورة وأدق نظام .. أنت الحكيم العليم . الرحمن الرحيم .. اللطيف الخبير .. يفقدون حکمتك فيما ساءهم وضرهم ، وقد آمنوا بحكمتك فيما نفعهم وسرهم، أفلا قاسوا ما غاب عنهم على ما حضر؟ وما جهلوا على ما علموا؟ أم إن الإنسان كان ظلوما جهولا؟!3(3) هكذا علمتني الحياة (31/1) ..
ب- فقه الأحكام
وهذا هو القسم الثاني من الفقه الواجب في الدين ، والذي يساهم في معرفة حكمة الله عز وجل ورحمته فيما يشرعه سبحانه من الأحكام والأقضية التي فيها الخير والمصلحة للعباد . ولو ظهر ما فيها من المشقة والتكليف على بعض الناس . فالعبرة بالمحصلة النهائية وما فيها من الخير والرحمة واللطف.
ومن تأمل أحكام الله عز وجل وتشريعاته وجدها مبنية على قاعدة عظيمة كريمة هي من لوازم ومقتضيات أسمائه الحسنى وصفاته العلى ، وهذه القاعدة هي ما يسميها الفقهاء بقاعدة (رفع الحرج)، وما يتفرع عنها من قواعد التخفيف والرخص ورفع المشقة وجلب التيسير .
إن معرفة القواعد التي تنطلق منها الأحكام الشرعية ، ومعرفة العلل والمصالح ؛ كل ذلك يساهم بشكل مباشر في تفهم هذه السنة الكريمة ولا تحسبوه شرا لكم ، ويساهم في تطبع القلب بها وتذوق ثمارها يقول الله عز وجل: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [ المائدة : 6].
يقول محمد رشید رضا – رحمه الله تعالى – عند هذه الآية:
(ما نفاه الله تعالى من الحرج في هذه الآية قاعدة من قواعد الشريعة ، وأصل من أعظم أصول الدين تبنى عليه وتتفرع عنه مسائل كثيرة . وقد أطلق هنا نفي الحرج، والمراد به أولا وبالذات ما يتعلق بأحكام الآية ، أو بما تقدم من الأحكام من أول السورة ، وثانيا وبالتبع جميع أحكام الإسلام ؛ ولهذا لم يقل: ما یرید الله ليجعل عليكم من حرج فيما شرعه لكم من أحكام الطهارة مثلا ؛ لأن حذف المتعلق يؤذن بالعموم .
وقد صرح بنفي الحرج من الدين كله في سورة الحج ، فقال: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) [ الحج : 78].
وإنما صرح في هذه الآية بنفي الحرج من الدين كله ؛ لأن سورة الحج من السور المكية التي بينت أصول الإسلام وقواعده الكلية ، وهي تدل على أن القيام بما لابد منه من عزائم الأمور ليس من الحرج في شيء ؛ لأنه نفى الحرج بعد الأمر بالجهاد في سبيل الله حق الجهاد ، وهو بذل الجهد في الطريق الموصل إلى إقامة سنن الله تعالى وحكمته في خلقه ، وكل ما يرضيه من عباده من الحق والخير والفضيلة ، ولا يصعد الإنسان إلى مستوى كماله إلا ببذل الجهد في معالي الأمور.
وإنما الحرج هو الضيق والمشقة فيما ضرره أرجح أو أكبر من نفعه ، كالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة ، والامتناع من سد الرمق بلحم الميتة أو الخنزير أو الخمر لمن لا يجد غيرها ، وكاستعمال المريض الماء في الوضوء أو الغسل مع خشية ضرره ، وكذلك استعماله في البرد بهذا القيد ، أو فيما يمكن إدراك غرض الشارع منه بدون مشقة في وقت آخر كالصيام في المرض والسفر ، وقد صرح القرآن الحكيم بعد بیان فريضة الصيام والرخصة للمريض والمسافر بالفطر بأنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر .
وقد بنى العلماء على أساس نفي الحرج والعسر وإثبات إرادة الله تعالی اليسر بالعباد في كل ما شرعه لهم عدة قواعد وأصول فرعوا عليها كثيرة من الفروع في العبادات والمعاملات ، منها : إذا ضاق الأمر اتسع ، المشقة تجلب التيسير ، درء المفاسد مقدم على جلب المنافع ، الضرورات تبيح المحظورات ، ما حرم لذاته يباح للضرورة ، وما حرم السد الذريعة يباح للحاجة)4(4) تفسير المنار : عند الأية (1) من سورة المائدة ..
والآيات التي تؤكد هذه القاعدة الكريمة كثيرة جدا منها قوله تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف: 157]، وقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) [ البقرة : 286] ، وقوله سبحانه: (يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا) [النساء : 28].
الفقه في الدين ومقاصده وحكمه يزيد اليقين برحمة الله وإرادته اليسر والخير لعباده
والكلام على قاعدة رفع الحرج في الشريعة يطول ، وليس هنا مقام تفصيلها ، وإنما أردت الإشارة إلى أن الفقه في الدين ومقاصده وحكمه يزيد في الإيمان واليقين برحمة الله سبحانه ، وإرادته عز وجل الخير واليسر بعباده في كل أحكامه الكونية القدرية والدينية الشرعية ، ولو ظهر شيء من المشقة والمكروه ؛ فإنما العبرة بالنتائج والمآلات ، وقد لا تظهر للعبد الضعيف الحكمة والمصلحة في حكم من الأحكام في هذه الدنيا ، ولكن المعرفة بالله عز وجل وتوحيده ومعرفة سننه يجعله يوقن ويسلم أن في ذلك الخير والصلاح إما في الدنيا أو الآخرة ، وإذا حصل النعيم الأخروي الذي لا ينفد ، فماذا تساوي كل المشقات والتضحيات والمتاعب التي لا تساوي إلا ساعة من نهار، أو أقل من ذلك في جانب نعيم الآخرة ؟ إنها لا تساوي شيئا ؛ بل لا يذكر العبد منها شيئا عندما يرى النعيم السرمدي ، والراحة الأبدية .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالی:
(والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة ، ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب ، وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم ، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة ؛ فلا فرحة لمن لا هم له ، ولا لذة لمن لا صبر له ، ولا نعيم لمن لا شقاء له ، ولا راحة لمن لا تعب له ؛ بل إذا تعب العبد قليلا استراح طويلا ، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد ، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة ، والله المستعان ، ولا قوة إلا بالله ، وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلا ؛ كان تعب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل ، كما قال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام)5(5) مفتاح دار السعادة (342)..
الهوامش
(1) مدارج السالكين (1/ 124).
(2) مدارج السالكين (1/ 420، 421) .
(3) هكذا علمتني الحياة (31/1) .
(4) تفسير المنار : عند الأية (1) من سورة المائدة .
(5) مفتاح دار السعادة (342).
اقرأ أيضا
“لا تحسبوه شراً لكم” .. سنة جارية
لا تحسبوه شرا لكم..مسلمة قررها القرآن
“لا تحسبوه شراً لكم” .. طمأنينة وسلامة قلب