استقامة حياة الإنسان تأتي باستقرار قضية التوحيد في قلبه ورسوخها في ضميره وأن تكون عاملة في واقع حياته.
دوام قضية لا إله إلا الله في حياة البشرية
لا إله إلا الله هي الركن الأول _والأكبر_ في الإسلام.. قبل الصلاة والصيام والزكاة والحج.. وقبل كل شيء في هذا الدين.
ومن يتدبر القرآن يلحظ ولا شك الأهمية العظمى التي يوليها كتاب الله لقضية التوحيد.. قضية لا إله إلا الله، بحيث تشغل الحيز الأكبر من القرآن كله، وإن كان التركيز عليها في السور المكية أشد.
وقد يتبادر إلى الأذهان لأول وهلة أن هذا الاهتمام البالغ بقضية لا إله إلا الله في كتاب الله كان سببه أن المخاطبين بهذا القرآن أول مرة كانوا قوما مشركين، فكان من المناسب أن يركز الحديث لهم في قضية التوحيد لتصحيح اعتقاداتهم الباطلة وتصوراتهم الفاسدة في قضية الألوهية.
ولكن استمرار الحديث عن هذه القضية في السور المدنية، بعد استقرار العقيدة، وقيام المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، والتزام ذلك المجتمع بتكاليف الإسلام ومقتضياته. وعلى رأسها الجهاد في سبيل الله.. كل ذلك له دلالته الواضحة على الأهمية الذاتية لهذه القضية، حتى بالنسبة للمؤمنين الذين تخاطبهم الآيات المدنية مبدوءة بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا..) وأن قضية التوحيد – قضية لا إله إلا الله – ليست حديثًا يذكر لفترة من الوقت ثم ينتقل منه إلى غيره، إنما هي حديث يذكر ثم ينتقل معه إلى غيره.. حديث لا ينقطع في أي وقت من الأوقات.
وربما كانت هذه الآية في سورة النساء حاسمة الدلالة فيما ذهبنا إليه : (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ ءَامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَـٰبِ ٱلَّذِی نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَٱلۡكِتَـٰبِ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ مِن قَبۡلُۚ وَمَن یَكۡفُرۡ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَـٰلَۢا بَعِیدًا ). سورة النساء [ 136 ].
فالذين يُدعَون إلى الإيمان هم المؤمنون بالفعل : « يا أيها الذين آمنوا » ! والذي يُدعون إلى الإيمان به هو الذي آمنوا به بالفعل ! فهم يُدعون إلى الإيمان بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل، والله يقول عنهم في آخر سورة البقرة : (ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِ مِن رَّبِّهِۦ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۚ كُلٌّ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَمَلَـٰۤىِٕكَتِهِۦ وَكُتُبِهِۦ وَرُسُلِهِۦ لَا نُفَرِّقُ بَیۡنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ.. ) [البقرة ٢٨٥].
فقضية لا إله إلا الله إذن قضية دائمة في حياة البشرية.. لا يُدعی إليها الكفار وحدهم لكي يؤمنوا، ولا المشركون وحدهم ليُصححوا اعتقادهم، ولكن يُدعى إليها المؤمنون بها كذلك ويذكرون بها، لكي تظل حية في قلوبهم، راسخة في ضمائرهم، عاملة في واقع حياتهم، لا يفتُرون عنها، ولا يغفلون عن مقتضياتها : « يا أيها الذين آمنوا، آمنوا.. »
استقامة حياة الإنسان بجعل لا إله إلا الله منهجًا لحياته
ولا عجب أن تكون قضية لا إله إلا الله هي القضية !
وليس السبب في اهتمام القرآن بها أنه کتاب دین ! إنما السبب في ذلك أنه الكتاب الذي يحدد منهج الحياة للإنسان!
فحياة الإنسان لا تستقيم حتى يعلم «الحق» الذي خلقت به السماوات والأرض، وحتى تتوافق حياته مع ذلك الحق، فلا تنحرف عنه، ولا تشذ عن مقتضياته.
والحق أنه لا إله إلا الله.. هو الخالق وحده، وهو الرازق وحده، وهو المسيطر وحده، وهو المدبر وحده، وهو القيوم وحده.. ولا أحد غيره يخلق أو يرزق أو يدبر الأمر..
ومقتضى ذلك كله أن يعبد وحده، لا يشرك به غيره، ولا توجه العبادة لأحد سواه…
وفضلا عن كون ذلك هو حق الله على عباده، إذ أن حق الخالق الرازق المنعم المتفضل ألا توجه العبادة إلى غيره ممن لم يخلق ولم يرزق ولم ينعم ولم يتفضل..
فضلا عن ذلك فهي قضية الإنسان ذاته..
استغناء الله عن عبادة العباد له
فالله الخالق الرازق المنعم المتفضل حقيق بأن تفرد له العبودية لأنه هو المتفرد بالألوهية والربوبية. ولكنه – سبحانه وتعالى – غنيٌّ عن العباد وعبادتهم، لا يؤثر في ملكه أن يعبده عباده أو يكفروا به !
يقول الله في الحديث القدسي : «يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكُم وجنَّكُم كانوا على أفجَرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منْكم ما نقصَ ذلِكَ مِن مُلْكي شيئًا يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ ما زادَ ذلِكَ في مُلْكي شيئًا». 1أخرجه مسلم (٢٥٧٧).
ويقول تعالى في محكم التنزيل على لسان موسى – عليه السلام – : (وَقَالَ مُوسَىٰۤ إِن تَكۡفُرُوۤا۟ أَنتُمۡ وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعًا فَإِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِیٌّ حَمِیدٌ) سورة إبراهيم [۸].
الإنسان إمّا عابد لله أو لغير الله
أما الإنسان فأمره مختلف..فهو من ناحية لا يستغنى عن فضل الله لحظة واحدة من حياته : (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡۚ هَلۡ مِنۡ خَـٰلِقٍ غَیۡرُ ٱللَّهِ یَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِۚ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ فَأَنَّىٰ تُؤۡفَكُونَ) سورة فاطر [۳].
ومن ناحية أخرى هو عابد بفطرته. لا تمر عليه لحظة من عمره لا يكون فيها عابدًا لشيء ما، واعيًا بذلك أم على غير وعي منه حتى الذين يقولون إنهم «ملحدون» لايؤمنون بشيء ولايعبدون شيئًا, هم عابدون لأهوائهم وشهواتهم كما يقول سبحانه وتعالى : (أَفَرَءَیۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُۥ هَوَىٰهُ) سورةالجاثية [ 23 ].
وهو – في أي لحظة من حياته – بين أمرين اثنين لا ثالث لهما : إما أن يكون عابدًا لله وحده بلا شريك. وإما أن يكون عابدًا لشيء آخر غير الله، معه أو من دونه، كلاهما سواء ! مما يسميه الله – سبحانه وتعالى – عبادة الشيطان، لأنه استجابة لدعوة الشيطان : (أَلَمۡ أَعۡهَدۡ إِلَیۡكُمۡ یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ أَن لَّا تَعۡبُدُوا۟ ٱلشَّیۡطَـٰنَۖ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوٌّ مُّبِین.* وَأَنِ ٱعۡبُدُونِیۚ هَـٰذَا صِرَ اطٌ مُّسۡتَقِیم) سورة يس [60-61].
كما أن في تركيب الإنسان – في فطرته التي فطره الله عليها – حبًّا عميقًا للشهوات، يصفه – سبحانه وتعالى – على هذه الصورة 🙁 زُیِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَ اتِ مِنَ ٱلنِّسَاۤءِ وَٱلۡبَنِینَ وَٱلۡقَنَـٰطِیرِ ٱلۡمُقَنطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلۡفِضَّةِ وَٱلۡخَیۡلِ ٱلۡمُسَوَّمَةِ وَٱلۡأَنۡعَـٰمِ وَٱلۡحَرۡثِۗ ذَ لِكَ مَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۖ.. ) سورة آل عمران [14].
وهذه الشهوات – وإن كانت مركبة في فطرة الإنسان لحكمة يريدها الله – فهى هي المداخل التي يستدرج الشيطان منها الإنسان ليٌبعده عن عبادة الله، بٌعدًا مؤقتًا كما يقع في المعصية : «لا يَزْنِي الزّانِي حِينَ يَزْنِي وَهو مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهو مُؤْمِنٌ.. »,2البخاري (ت ٢٥٦),صحيح البخاري ٦٧٨٢. أو بعدًا کاملًا ينقطع فيه مابينه وبين الله، في شرك أو كفر وجحود : قال : (قَالَ فَبِمَاۤ أَغۡوَیۡتَنِی لَأَقۡعُدَنَّ لَهُمۡ صِرَاطَكَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ * ثُمَّ لَـَٔاتِیَنَّهُم مِّنۢ بَیۡنِ أَیۡدِیهِمۡ وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ وَعَنۡ أَیۡمَـٰنِهِمۡ وَعَن شَمَاۤىِٕلِهِمۡۖ وَلَا تَجِدُ أَكۡثَرَهُمۡ شَـٰكِرِینَ) سورة الأعراف [16- ۱۷ ].
الفرق في حياة الإنسان عابدًا لله أو عابدًا للشيطان
ولا تستوى حياة الإنسان عابدًا لله وعابدًا للشيطان :
( أَفَمَن یَمۡشِی مُكِبًّا عَلَىٰ وَجۡهِهِۦۤ أَهۡدَىٰۤ أَمَّن یَمۡشِی سَوِیًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسۡتَقِیم ) سورة الملك [۲۲].
( قُلۡ هَلۡ یَسۡتَوِی ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِیرُ أَمۡ هَلۡ تَسۡتَوِی ٱلظُّلُمَـٰتُ وَٱلنُّورُۗ ) سورة الرعد [۱6].
ومن فضل الله وكرمه أنه حين يؤدى العباد حق الله عليهم، من إفراده بالألوهية والربوبية، وتوجيه العبادة خالصة إليه، يكونون في أحسن تقويم كما خلقهم الله. وتكون حياتهم في الدنيا خير حياة وأنظف حياة وأجمل حياة، ويكون لهم في الآخرة ما وعدهم الله من الجزاء، بينما يتمتعون في الدنيا – إذا كفروا – متاع الحيوان، ويكون لهم في الآخرة ماتوعد الله به من الجزاء.
( وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یَتَمَتَّعُونَ وَیَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَـٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوًى لَّهُمۡ ) سورة محمد[ 12].
( وَٱلَّذِینَ ٱجۡتَنَبُوا۟ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن یَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰۚ فَبَشِّرۡ عِبَادِ ) سورة الزمر [ ۱۷ ]..
من أجل ذلك يحتاج الإنسان دائمًا إلى لا إله إلا الله.. يحتاج إليها وهو كافر أو مشرك ليصحح أصل اعتقاده، ويحتاج إليها وهو مؤمن ليتنبه ويعذر، ويضيّق في نفسه مداخل الشيطان، لكي لا يفتنه عن العبادة الحقة الواجبة لله.
وفي جميع الأحوال تؤدي لا إله إلا الله مهمة معينة في حياة الإنسان، ولا تكون (كلمة) تطلق في الهواء بغير مقتضى لها ولا أثر في واقع الحياة.
الهوامش:
- أخرجه مسلم (٢٥٧٧).
- البخاري (ت ٢٥٦),صحيح البخاري ٦٧٨٢.
المصدر:
كتاب “مفاهيم ينبغي أن تصحح” للأستاذ محمد قطب رحمه الله، ص17-23 بتصرف يسير.