لا معنى للدين أصلاً إذا هو تخلى عن تنظيم الحياة الواقعية؛ بتصوراته الخاصة، ومفاهيمه الخاصة، وشرائعه الخاصة، وتوجيهاته الخاصة.
الارتباط بين التصور الاعتقادي والنظام الاجتماعي
هنالك ارتباط وثيق بين طبيعة (النظام الاجتماعي) وطبيعة (التصور الاعتقادي) .. بل هنالك ما هو أكبر من الارتباط الوثيق. هنالك الانبثاق الحيوي: انبثاق النظام الاجتماعي من التصور الاعتقادي.. فالنظام الاجتماعي بكل خصائصه هو أحد انبثاقات التصور الاعتقادي؛ إذ هو ينبت نباتاً حيويا وفطريا، ويتكيف بعد ذلك تكيفاً تاما بالتفسير الذي يقدمه ذلك التصور للوجود، ولمركز الإنسان في هذا الوجود، ولغاية وجوده الإنساني.
وهذا الانبثاق ثم هذا التكيف هو الوضع الصحيح للأمور. بل هو الوضع الوحيد. فما من نظام اجتماعي يمكن أن ينشأ نشأة طبيعية سوية، وأن يقوم بعد ذلك قياماً صحيحاً سليماً، إلا حين ينبثق من تصور شامل لحقيقة الوجود؛ ولحقيقة الإنسان، ولمركز الإنسان في هذا الوجود، ولغاية الوجود الإنساني.. إذ أن غاية أي نظام اجتماعي ينبغي أن تكون هي تحقيق غاية الوجود الإنساني.. كذلك فإن الحقوق المخولة للإنسان بحكم حقيقة مركزه في هذا الوجود هي التي ترسم خط سيره، وتحدد وسائله التي له حق استخدامها لتحقيق غاية وجوده، كما تحدد نوع الارتباطات التي تقوم بينه وبين هذا الوجود، ونوع الارتباطات التي تقوم بين أفراد جنسه ومنظماته وتشكيلاته.. إلى آخر ما يعبر عنه باسم (النظام الاجتماعي)..
وكل نظام اجتماعي يقوم على غير هذا الأساس، هو نظام غير طبيعي. نظام متعسف. لا يقوم على جذوره الفطرية.. ولا أمل في أن تعمر مثل هذه النظم طويلاً. ولا أمل في تناسق حركة (الإنسان) في ظلها مع الحركة الكونية. ولا مع الفطرة البشرية؛ ولا مع احتياجات الإنسان الحقيقية.
ومتى فقد هذا التناسق فلا مفر من تعاسة الناس وشقوتهم بمثل هذه النظم، مهما استطاعت أن توفر لهم من التسهيلات المادية والإنتاجية.. ثم لا مفر بعد ذلك من تحطم هذه النظم، لتعارضها مع فطرة الكون، وفطرة الإنسان..
الارتباط بين التصور الاعتقادي ومنهج الحياة كله
هذا الانبثاق ثم هذا التكيف وجه من وجوه الارتباط بين التصور الاعتقادي والنظام الاجتماعي.. يمكن تعميمه حتى يشمل لا مجرد النظام الاجتماعي، بل منهج الحياة كله، بما فيه مشاعر الأفراد وأخلاقهم وعباداتهم وشعائرهم وتقاليدهم؛ وكل نشاط إنساني في هذه الأرض جميعاً.
كما أن للمسألة كلها وجهاً آخر.. إن كل (دين) هو منهج للحياة بما أنه تصور اعتقادي.. أو بتعبير أدق بما أنه يشمل التصور الاعتقادي وما ينبثق منه من نظام اجتماعي. بل من منهج يحكم كل نشاط الإنسان في هذه الحياة الدنيا.
كذلك عكس هذه العبارة صحيح.. أن كل منهج للحياة هو (دين). فدين جماعة من البشر هو المنهج الذي يصرف حياة هذه الجماعة..
غير أنه إن كان المنهج الذي يصرف هذه الجماعة من صنع الله-أي منبثقاً من تصور اعتقادي رباني- فهذه الجماعة في (دين الله).. وإن كان المنهج الذي يصرف حياة هذه الجماعة من صنع الملك، أو الأمير او القبيلة أو الشعب-أي منبثقاً من مذهب أو تصور أو فلسفة بشرية- فهذه الجماعة في (دين الملك) أو (دين الأمير) أو (دين القبيلة) أو (دين الشعب) .. وليست في (دين الله) لأنها لا تتبع منهج الله، المنبثق ابتداء من دين الله، دون سواه!.
الشيوعية وسائر المذاهب ليست مجرد نظام اجتماعي
والمحدثون من أصحاب المذاهب والنظريات والفلسفات الاجتماعية لم يعودوا يحجمون، أو يتحرجون، من التصريح بهذه الحقيقة: وهي أنهم إنما يقررون (عقائد)؛ ويريدون أخذ الناس بها في واقع الحياة؛ وأنهم يريدون إحلال هذه العقائد الاجتماعية أو الوطنية أو القومية محل العقيدة الدينية..
فالشيوعية ليست مجرد نظام اجتماعي.. إنما هي كذلك تصور اعتقادي. تصور يقوم على أساس مادية هذا الكون، ووجود المتناقضات في هذه المادية.. هذه المتناقضات المؤدية إلى كل التطورات والانقلابات فيه. وهو ما يعبر عنه بالمادية الجدلية، كما يقوم على التفسير الاقتصادي للتاريخ، ورد التطورات في الحياة البشرية إلى تطور أداة الإنتاج.. الخ. ومن ثم فهي ليست مجرد نظام اجتماعي، إنما هي تصور اعتقادي يقوم عليه-او يدعي انه يقوم عليه-نظام اجتماعي.. وذلك بغض النظر عما بين اصل التصور وحقيقة النظام الذي يقوم الآن من فجوات ضخام!
كذلك سائر مناهج الحياة وأنظمتها الواقعية، يسميها أصحابها (عقائد) ويقولون: (عقيدتنا الاجتماعية) او(عقيدتنا الوطنية) او(عقيدتنا القومية).. وكلها تعبيرات صادقة في تصوير حقيقة الأمر: وهو أن كل منهج للحياة او كل نظام للحياة هو (دين) هذه الحياة، ومن ثم فالذين يعيشون في ظل هذا المنهج او في ظل ذلك النظام.. دينهم هو هذا المنهج او دينهم هو هذا النظام.. فان كانوا في منهج الله ونظامه فهم في (دين الله).. وان كانوا في منهج غيره او نظامه، فهم في (دين غير الله).
والأمر فيما نحسب واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.
الدين الإلهي ليس مجرد عقيدة وجدانية
ونظراً لهذه الحقيقة البسيطة لم يكن هناك دين إلهي هو مجرد عقيدة وجدانية، منعزلة عن واقع الحياة البشرية في كل مجالاتها الواقعية. ولا مجرد شعائر تعبدية يؤديها المؤمنون بهذا الدين فرادى أو مجتمعين. ولا مجرد (أحوال شخصية) تحكمها شريعة هذا الدين، بينما تحكم سائر نواحي الحياة شريعة أخرى مستمدة من مصدر آخر، تؤلف منهجاً آخر للحياة غير منبثق انبثاقاً من (دين الله).
وما يملك أحد يدرك مفهوم كلمة (دين) أن يتصور إمكان وجود دين إلهي ينعزل في وجدان الناس، أو يتمثل فحسب في شعائرهم التعبدية، أو (أحوالهم الشخصية)، ولا يشمل نشاط حياتهم كله، ولا يهيمن على واقع حياتهم كله، ولا يقود خطى حياتهم في كل اتجاه، ولا يوجه تصوراتهم وأفكارهم ومشاعرهم وأخلاقهم ونشاطهم وارتباطاتهم في كل اتجاه..
ليس في دين الله “دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله”
لا.. وليس هناك دين من عند الله هو منهج للآخرة وحدها، ليتولى دين آخر من عند غير الله وضع منهج للحياة الدنيا!
هذا تصور مضحك لحقيقة الواقع الكوني والبشري.. وذلك أن مقتضى هذا التقسيم المفتعل أن يكون لله-سبحانه-جانب واحد من جوانب هذه الحياة ينظمه، ويشرف عليه، وينحصر (اختصاصه) فيه، ويكون لغير الله جوانب أخرى كثيرة ينظمها ويشرف عليها (أرباب) آخرون، يتعلق بها اختصاصهم.
إنه-كما ترى- تصور مضحك للغاية، مضحك إلى حد أن الذين يفكرون على هذا النحو، سيضحكون من أنفسهم، ومن تفكيرهم، ويسخرون من سذاجتهم وركة أفكارهم.. لو أنهم رأوا الأمر حقيقة من هذه الزاوية الصحيحة، وتحت هذا النور الهادئ الهادي..
منهج واحد يحكم الشعور الوجداني والواقع العملي
على أن للمسالة وجهاً آخر.. إن (الشخصية الإنسانية) (وحدة). وحدة في طبيعتها وكينونتها. وحدة تؤدي كل وظائفها كوحدة. وهي لا تستقيم في حركتها ولا تتناسق خطواتها إلا حين يحكمها منهج واحد منبثق في أصله من تصور واحد..
فأما حين تحكم ضمير الإنسان ووجدانه شريعة، ثم تحكم واقعه ونشاطه شريعة.. وكل من هذه وتلك ينبثق من تصور مختلف .. هذه من تصور البشر، وتلك من وحي الله.. فإن شخصيته تصاب بما يشبه داء الفصام (شيزوفرنيا)! ويقع فريسة لهذا التمزق بين واقعه الشعوري الوجداني، وواقعه الحركي العملي، ويصيبه القلق والحيرة.. كما نشاهد اليوم في أرقى البلاد الأوروبية والامريكية، ثمرة للصراع بين بقايا الوجدان الديني الذابلة وواقع الحياة العملية، القائم على تصورات وقيم لا علاقة لها بالوجدان الديني.. وذلك بعد (الفصام النكد) الذي وقع هناك بين الدين والحياة، وكانت له أسبابه الخاصة في تاريخ النصرانية بها.
من ثم جاء كل دين من عند الله، يقدم للبشر الأساس التصوري الاعتقادي، الذي يقوم عليه نظام حياتهم كلها: الوجدانية والعملية.. جاء ليرد البشر إلى ربهم؛ ويرد نظام حياتهم إلى منهجه المتفرد.. كما يقع التواؤم والتناسق بين ضميرهم وواقعهم؛ وبين وجدانهم ونشاطهم؛ وبين حركتهم ونواميس الكون أيضاً..
وجاء كل دين من عند الله لينفذ في الدنيا الواقع، وليتبعه الناس في نشاطهم الحيوي كله، لا ليبقى مجرد شعور وجداني قابع في ضمائرهم. ولا مجرد تهذيب روحي في أخلاقهم. ولا مجرد شعائر تعبدية في محاريبهم ومساجدهم؛ ولا مجرد أحوال شخصية في جانب واحد من حياتهم: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّه) ..[النساء: 64].
التوراة تتضمن العقيدة والشريعة
وهكذا جاءت التوراة تتضمن عقيدة وشريعة، وكلف أهلها أن يتحاكموا إليها في كل شؤون حياتهم؛ لا أن يجعلوها مواعظ تهذيبية لا تتجاوز وجدانهم، ولا شعائر تعبدية يقيمونها في هياكلهم:
( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة:44-45].
وهذا الذي ذكره القرآن من شريعة التوراة مثل للكثير الذي تحتويه، والذي نظم به موسى-عليه السلام- ومن بعده أنبياء بني إسرائيل حياتهم الواقعية عدة قرون.
المسيح -عليه السلام- جاء مصدقاً لشريعة التوراة
ثم جاء المسيح-عليه السلام- بالنصرانية.. أرسله الله إلى بني إسرائيل -فهو أحد أنبيائهم- ومن ثم جاء مصدقاً لشريعة التوراة- مع بعض تعديلات خفيفة، لرفع بعض الأثقال التي فرضت عليهم في صورة عقوبات تأديبية، أو كفارات عن معصية؛ كالذي أشار إليه القرآن الكريم:
(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ۖ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ۚ ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) [الأنعام:146].
وقد أقرت هذه الشريعة المعدلة لتكون نظاما للحكم والحياة أيضاً:
(وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [المائدة:46-47].
الإسلام الرسالة الأخيرة الشاملة للبشرية كافة
ثم جاء محمد-صلى الله عليه وسلم- بالإسلام، لا ينقض الشرائع السماوية الصحيحة قبله، ولكن يصدقها، ويهيمن عليها. بما أنه الرسالة الأخيرة الشاملة للبشرية كافة، المعلنة عن الرشد الإنساني، المتضمنة للتفسير الواسع الكلي، الذي يقوم عليه نظام الحياة الإنسانية، الذي يخرج الناس من (الجاهلية) إلى (الربانية) ويكل واقعهم إلى شريعة الله، كما يكل ضمائرهم إلى تقوى الله:
(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة:48-50].
منهج الأنبياء واحد
ومن قبل هذه الديانات الرئيسية جاء كل دين ليرد الناس إلى ربوبية الله وحده؛ وإلى منهج الله وحده.. ومنذ نوح-عليه السلام- توالت الرسل على هذا المنهج الواحد، يختلف في تفصيلات الشريعة ويتفق في أصل التصور؛ وفي الغاية الأساسية الكبرى؛ وهي: إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله دون سواه. وإبطال الألوهيات والربوبيات الزائفة ورد الألوهية والربوبية إلى الله دون سواه..
وفي موضع آخر يُجمل القرآن الكريم هذه الحقيقة.. ويبين طبيعة ذلك المنهج الواحد الموصول بالله. بما أن الله هو خالق الكون والناس، وبيده مقاليد الكون والناس؛ ويبين كذلك مقام هذا الدين الأخير، وسبب مجيئه مهيمناً على الجميع، ويعلن المفاصلة بين أهل هذا الدين، وسائر الجاهليين:
(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا ۖ يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ۚ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ * وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ * فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ۖ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ ۖ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ۖ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۖ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ۖ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى:10-15] .
حكاية القرآن الكريم عن شعيب عليه السلام
وفيما يروي لنا القرآن عن شعيب-عليه السلام-وعن قومه، أهل مدين، يرد ذكر التشريع للحياة العملية، واعتراض القوم عليه، لعدم إدراكهم طبيعة الدين: وأنه منهج للحياة شامل، لا للضمير المكنون وحده، ولا للشعائر التعبدية في الهياكل-شأنهم شأن أهل الجاهلية الحاضرة سواء!:
(وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۚ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ۚ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ * قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ ۖ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)[هود:84-87].
حكاية القرآن الكريم لقول صالح عليه السلام
كذلك تبدو تلك الحقيقة في حكاية القرآن الكريم لقول صالح-عليه السلام-لقومه:
(فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) [الشعراء:150-152].
فهو يردهم إلى دين الله ومنهجه للحياة، عن دين المسرفين المفسدين ومنهجهم.. أي انه يردهم من العبودية للعبيد، إلى العبودية لله في نظام الحياة.
وظيفة الكتاب ووظيفة الرسل
وفي موضع آخر يحدد الله وظيفة الرسل كافة، ووظيفة كتاب الله عامة: بأنها الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه:
(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) [البقرة:213].
فينتهي كل جدل في وظيفة الكتاب وفي وظيفة الرسل. ويتحدد معنى دين الله، ومرادفته لنظام الحياة الذي يريده الله..
ولا حاجة بنا إلى الإطالة أكثر من هذا عن طبيعة (الدين) وشموله لنظام الحياة الواقعية. فإنه لا معنى للدين أصلاً إذا هو تخلى عن تنظيم الحياة الواقعية؛ بتصوراته الخاصة، ومفاهيمه الخاصة، وشرائعه الخاصة، وتوجيهاته الخاصة، فهذه الحياة الإنسانية لابد أن يقوم نظامها الأساسي على قاعدة التصور الاعتقادي، الذي يفسر حقيقة الوجود، وعلاقته بخالقه، ومركز الإنسان فيه، وغاية وجوده الإنساني، ونوع الارتباطات التي تحقق هذه الغاية. سواء الارتباطات بين الإنسان وربه. أو الارتباطات بين الإنسان والكون من حوله. أو الارتباطات بين الإنسان وسائر الأحياء. أو الارتباطات بين بني الإنسان. كما يرتضيها الله لعباده.
وإلا يجئ هذا التفسير الشامل الكامل من عند الله، وإلا يقيم نظام الحياة كله على هذا التفسير الشامل الكامل، فهي إذن أهواء البشر. وهي إذن (الجاهلية) التي جاء كل دين من عند الله لإخراج الناس منها، ورفعهم إلى (الربانية).
وإلا تكن العبودية لله وحده-ممثلة في التلقي عنه في هذا كله-فهي العبودية للعبيد.. وقد جاء دين الله لتحرير العباد من عبادة العبيد!
المصدر
كتاب: “المستقبل لهذا الدين” للأستاذ سيد قطب رحمه الله، ص12-24 بتصرف يسير.
اقرأ أيضا
الإسـلام شريعـة تحكـم حيـاة الأمـة
دين الأنبياء واحد ودعوتهم واحدة