الدِّين،إنها الكلمه الأكثر تداولاً في عالمنا المعاصر. فما هو الدين؟ وما هو مفهوم الدين فى القرآن الكريم؟.

انتشر في هذه الأيام مصطلح “الدين الإبراهيمي”، يريد به أصحابه مفهومًا باطلًا معارضًا للكتاب والسنة والإجماع، ناهيك عن أن أكثر الناس يفهم كلمة “دين” أساسًا بمفهوم مغلوط، ليس هو المفهوم الصحيح، الذي تعرفه العرب والذي دلَّ عليه الكتاب

والسنة، فنريد في هذا المقال تصحيح مفهوم كلمة “دين”.

الدِين هو نظام كامل للحياة

ما هو الدِين؟ فكثير من الناس يفهم كلمة “دِِين” أنه مجرد انتساب إلى نِحلة أو ملَّة، فيقال مثلًا: هذا في دِين اليهودية، وذاك في دِين النصرانية، وهذا في دِين الإسلام.. ويعنون بذلك مجرد الانتساب إلى النِّحلة، وفي أحسن الأحوال إقامة بعض الطقوس والشعائر التعبدية لكل نِحلة.

والحقيقة أن كلمة “دِين” هي نظام كامل للحياة في جانبها الاعتقادي العلمي، وفي جانبها العملي التشريعي. ويتضح لنا هذا المعنى من خلال نموذج من الآيات القرآنية.

قال تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ﴾ [المؤمنون: 2].

فالمراد بــــ”دِين الله” في هذه الآية هو: إقامة حدِّ الزنا، وعدم تعطيله.

قال عطاء بن أبي رباح: “يعني في إقامة الحد أن لا تعطَّل. فأما الضرب، فضرب ليس بالتبريح”. 1[رواه ابن أبي حاتم بسند حسن].

وقال تعالى: ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ [يوسف: 76].

فالمراد بــــ”دِين الملك” شريعته وقانونه وعرفه المتَّبع في حُكم السارق، فإنه كان يُغرِّم السارق ضعفي ما سرق، بينما كان السارق في شريعة يعقوب عليه السلام يُسْتَرَقُّ ويُستعبد..

قال قتادة: “ما كان في قضاء الملك أن يُستعبد رجل بسرقة”. 2[رواه الطبري بسند صحيح].

وقال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ 36 إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ [التوبة: 36-37].

فقوله: “ذلك الدِين القيم” أي: تحريم أربعة أشهر من الأشهر الاثني عشر.

ومثل ما تقدم من الآيات قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21].

وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ﴾ [الأنعام: 137].

وقوله تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ [يوسف: 40].

وهذا المعنى الشمولي لكلمة “دِين” في القرآن، هو المعروف عند العرب، فالعرب تقول: ما زال هذا دِيني ودَيدني. أي: دأبي وعادتي وطريقتي.

معاني أخرى لكلمة “دِين” في القرآن وفي كلام العرب

ولكلمة “دِين” معاني أخرى في القرآن وفي كلام العرب لا تعارض هذا المعنى بل تنسجم معه، فمن ذلك:

  • الجزاء والحساب. كما في قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 4].

وتقول العرب: كما تَدين تُدان. أي: كما تَصنع يُصنع بك. وحكى القرآن عن الكافرين قولهم: ﴿أَءِنَّا لَمَدِینُونَ﴾ [الصافات: 53]، أي: لمحاسبون؟!

  • القهر والطاعة. تقول العرب: دِنتهم فدَانوا. أي: قهرتهم فأطاعوا، وديَّنته القوم: ولَّيته سياستهم.

قال الحطيئة يخاطب أمه:

لقد دُيِّنت أمر بنيك حتى      تركتهمُ أدقَّ من الطحين

ويقال: دَيان، للغالب الحاكم القاهر على بلد أو قبيلة أو أمة، قال الأعشى الحرمازي:

… … … … …         يا سيد الناس ودَيان العرب

وبهذا الاعتبار يُقال للعبد المملوك: مَدين، وللأمَة: مدينة.

قال الأخطل:

… … … … …       ربت وربا في حجرها ابن مدينة

أي: ابن أَمَة.

ومنه قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ 86 تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الواقعة 86-87].

كلمة “دِين” تنتظم أربعة معاني، بينها ارتباط منطقي

كلمة دين بمعناها الشامل

ويمكن أن نقول أن كلمة “دِين” تنتظم أربعة معاني، بينها ارتباط منطقي:

  1. القهر والسلطة من ذي سلطان.
  2. الخضوع والإطاعة من خاضع لذي سلطان.
  3. النظام العلمي والعملي المتكون بين السلطة والخاضعين لها.
  4. الجزاء والحساب على التزام ذلك النظام، ومعاقبة من خالفه.

وقد جاءت كلمة “دِين” بمعناها الشامل الذي ينتظم هذه المعاني جميعها في مواضع كثيرة من القرآن، كما في قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29].

فالدِين الحق الذي عبرت به هذه الآية هو يشمل هذه المعاني مجتمعة.

فقوله: ﴿لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ ينتظم المعنى الأول والثاني.

وقوله: ﴿وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ ينتظم المعنى الرابع.

وقوله: ﴿وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ﴾ ينتظم المعنى الثالث.

فعبر عن مجموع هذه المعاني بـــــ﴿دِينَ الْحَقِّ﴾. 3[انظر المصطلحات الأربعة للمودودي].

فمن حَكَم بالتوراة والإنجيل المنسوخة كفر، فكيف بمن حَكَم بالقوانين الوضعية؟! قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44].

المقصود  بكلمة “دين” فى القرآن

والأصل إذا أطلقت كلمة “دِين” في القرآن فهي لمعناها الشامل كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ [آل عمران: 19]، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: 85]، وقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ [التوبة: 33]. فمن حَكَّم أي شريعة غير شريعة الإسلام فليس في دِين الإسلام، بل هو في دين اليهودية، أو النصرانية، أو دين الـمَلِك، أو دين الجمهورية، أو دين القبيلة..

أمَّا إذا دل الدليل أو القرينة على أن المراد بــــــ”دِين” في بعض النصوص أحد معانيه فيُصار إليه، وعليه فالدِين الذي دعا إليه النبي صـلى الله عليه وسلم، وقاتل عليه، كان ينتظم ثلاثة أمور:

العقائد التصورية.

الشعائر التعبدية.

الشرائع القانونية.

قال صلى الله عليه وسلـم: «أُمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النّاسَ حتّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، ويُؤْتُوا الزَّكاةَ، فَإِذا فَعَلُوا ذلكَ عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهُمْ وأَمْوالَهُمْ إلّا بحَقِّ الإسْلامِ، وحِسابُهُمْ على اللَّهِ.».4[رواه البخاري (25)، ومسلم (22)].

وقال تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ﴾ [التوبة: 5]، وقال تعالى: ﴿فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [التوبة: 11].

وهذا المعنى هو الذي سار عليه الصحابة رضوان الله عليهم بعد موت النبي صـلى الله عليه وسلم وارتداد العرب، وقد كانت وفود العرب تأتي لأبي بكر الصديق رضي الله عنـه تقرُّ بالشهادتين والصلاة، وتمتنع عن الزكاة فأبى عليهم، وقاتلهم، واعتبرهم مرتدين؛ لأنهم أرادوا تبديل الدين.

دين الأسلام

قال الإمام البخاري: “ثُمَّ تَابَعَهُ بَعْدُ عُمَرُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى مَشُورَةٍ إِذْ كَانَ عِنْدَهُ حُكْمُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ”. 5[صحيح البخاري (9/112)].

قال أبو عبيد القاسم بن سلام: “والمصدق لهذا جهاد أبي بكر الصديق -رحمة الله عليه- بالمهاجرين والأنصار على منع العرب الزكاة، كجهاد رسول الله صـلى الله عليه وسلم أهل الشرك سواء، لا فرق بينها في سفك الدماء, وسبي الذرية, واغتنام المال، فإنما كانوا مانعين لها غير جاحدين بها”. 6[الإيمان ص17].

اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه.

الهوامش

  1. رواه ابن أبي حاتم بسند حسن.
  2. رواه الطبري بسند صحيح.
  3. انظر المصطلحات الأربعة للمودودي.
  4. رواه البخاري (25)، ومسلم (22).
  5. صحيح البخاري (9/112).
  6. الإيمان ص17.

اقرأ أيضاً:

التعليقات غير متاحة