لا يزال انتشار وباء فيروس “كورونا” مستمرا، ولا يزال فزع العالَم منه قائما؛ يتحسس الناس فوت اللذات وذهاب الدنيا وهم ينسون سنة الله التي أجراها في عباده.
مقدمة
يحترم الناس قوانين الطبيعة والفيزياء والكيمياء ويبنون عليها حضارتهم المادية؛ لكنهم يرفضون الاعتراف بالقانون الأعظم الذي يسير عليه العالَم، ويتنكّرون له.
وهذا القانون هو ﴿مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِه﴾ (النساء: 123). وهو أثر لخلق السماوات والأرض بالحق، ولحقيقة ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى﴾ (القيامة: 36). وبالتالي المسؤولية عن الأفعال.
ومن ثم تبدو الحقيقة أنه مع كل عمل مسؤولية، ومع كل تفريط أو ذنب عقوبة مقترنة..
فمع كل افتراء على الله أو كذب عليه أو على خلقه عقوبة مقترنة، ومع كل تفريط في الأعراض أو دياثة عقوبة مقترنة، ومع اللذة المحرمة عقوبة مقترنة، ومع كل كِبر عقوبة مقترنة، ومع كل تفريط عقوبة مقترنة، ومع كل استهتار عقوبة مقترنة، ومع كل تشويه لبريء وظلم له؛ عقوبة.. وهكذا.
وهذه العقوبة لا تحددها أنت، ولا يحددها المجتمع، ولا تحددها الحضارة الغربية، ولا الجاهلية المعاصرة؛ بل يحددها رب العالمين فهو الملك ونحن عبيده، وتلك أفعالنا ومسؤولياتنا.
ولا يملك الناس رفاهية أن يتعدوا حدود الله أو يتنكروا لشرعه أو يضيعوا حقوقه، ثم يرفضون العقوبة المقترنة أو يتصورون أنها لا تكون..! هذا وهْم.
فالقاعدة هي المسؤولية عن الأفعال. فإذا نلت ما حرم الله وارتكبت أو تعديت حدوده أو تركت ما أمر؛ وتريد أن تأخذ هذا الجانب دون عقوبته فأنت تعاند القانون الأساس الذي قام عليه العالَم. وهذا ليس لك؛ بل عليك العمل، ولله تعالى الحكم والعقوبة، ولذا قال المتحسّرون في الآخرة ﴿إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾ (غافر: 48). فالحكم لله تعالى لا لأحد من دونه.
هكذا إذن؛ إن الحياة جادة. والقوانين التي أجرى الله عليها العالم في شأن حقه تعالى ووظيفة العبودية التي خلق الناس من أجلها هي قوانين حق، وسنة قائمة لا تبديل لها، وهي سنة دقيقة دقة ما تراه من المعادلات الكيميائية ومسلَمات الفيزياء التي تبني عليها الحضارة المعاصرة.
فعلى المستوى الفردي؛ إن أعرضت عن ذكر الله كانت المعيشة الضنك، وإذا تكبرت عاقبك بالصَغار والهوان، وإذا حقدت أو حسدت أكلا قلبك، وإذا فحُشت افتقرت.. وغير ذلك مما ارتبطت فيه العقوبة بالمخالفة والجريمة أو بالتضييع والتفريط.
وعلى المستوى الجماعي فكما أخبر سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأمم:
إذا انتشرت الفواحش وأصبح التعري قاعدة للحياة وعلّموا الأولاد الصِغار “حق الشذوذ..!” وسرَت الدياثة في الرجال ـ إن افترضنا كونهم رجالا..! ـ انتشرت الأوبئة والطواعين والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم؛ فكان “الزهري” و”السيلان” و”الإيدز” و”سارس” ثم “كورونا”، وإن لم ينتهوا سيأتي جديد.
وإذا منعوا الزكاة والصدقة ولم يصبحا نظاما عاما تقوم عليه الدولة بجندها وعمالها وروعي الفقير؛ عوقبوا بمنع القَطر من السماء وجف النيل وتحكم أوباش الأرض في شريان الحياة لأرض الكنانة.
ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله وخانوا العهود وتراجعوا عن مبادئهم ومواقفهم، وتكلم الناس بالأمر وعكسه، وأصبحوا على موقف وأمسوا على آخر؛ إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم عليهم، بل من أوباش مجتمعاتهم وتقافزت القرود على دفة قيادة الأمة.
وإذا تركوا الحكم بما أنزل الله وجاء العلمانيون وتحكم العسكر وظهر الملاحدة جعل الله بأسهم بينهم، وتعادَى الناس، وتباغضوا، وتففكت المجتمعات وخرج أسوأ ما في الناس، واشتكى الناس من توحش أفراد المجتمع ومن نزع التراحم وافتقاد الترابط..
وإذا ظلموا الأبرياء وشوَّهوا الشرفاء وتعايش المجتمع مع الظلم وهو مرتاح لا يشتكي ولا يرفض ولا يئن..! إلا عمت ظلمات الظلم على المجتمع..
هكذا وجدنا العقوبات. كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم.
نفحة من عذاب ربك
فإذا وجدت عقوبة الوباء المنتشر مرعبة يخفق قلبك لها، وتنظر حولك فتخشى خسارة أحبابك أو تخشى قدومك على الله ـ إن كنت مؤمنا ـ أو خسارة حياتك وملذاتك ـ بمنطق الملاحدة ـ ؛ فاعلم أنها مجرد نفحة من عذاب الله، وأنها لا شيء أمام بدايةِ مباشَرة الغيب عند معاينة رسل الله من الملائكة عند الاحتضار أو ما في البرزخ والقبور، أو يوم لقاء الله القريب.
فإذا قُيّض لك من يأتي في الإعلام فينكر الآخرة ويجحد لقاء الله تعالى، وقعد لك على الطريق في هذه اللحظات الحرجة التي نعيشها اليوم ويأخذ بيدك لتخسر دينك في لحظات ينبغي فيها الإقبال على الله؛ فاعلم أنها خطة السوء فالشياطين تخاف بعد جهدها الطويل خلال السنوات السابقة أن يتوب غاوٍ وأن يهتدي ضال؛ فأجلبت عليك بقاذوراتها البشرية من يوسوس لك حتى الرمق الأخير ليضمن لك الهلاك.
وإذا رأيت من يعالج الأزمة على أنها أزمة دنيوية تتطلب المرح والرقص في الحجر الصحي، والموسيقى والمهرجانات..! فإنها موجة غفلة يزيدها المغفلون داءا فوق الداء وقيحا فوق الصديد.
خاتمة
يا أيتها البشرية ويا أيها المسلمون..
لن يمر قتل مئات آلاف المسلمين بلا عقوبة، ولن يمر سجن العلماء والدعاة والشرفاء وخيرة الأمة وأولياء الله، بلا عقوبة.
ولن تنتشر الإباحية ويتواطأ الناس على الفجور والمجون والتعري، بلا عقوبة. ولن يستطيل الظلم وتركن له المجتمعات بلا عقوبة. ولن يقود السفهاء والمجرمون بلا عقوبة.
فإذا أدركت هذا وأردت الخروج من سوء ما قُدّر فاخرج من سوء الأفعال. فإذا تصورت الخروج الفردي؛ فاعلم أنه لا بد من الخروج الجماعي من الذنوب وتغيير الحال على المستوى العام ﴿أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (المائدة: 74).
فكما كانت المخالفات عامة يتواطأ عليها المجتمع وتدفع اليها الحكومات؛ فالرجوع والخروج من المخالفات يجب أن يكون جماعيا؛ تعود فيه “المجتمعات” و”المؤسسات” والأفراد الى رب العالمين.
هذا هو الطريق كما أخبر الله، فمن عرفه وسلكه فاز؛ وإلا فحق قول ربنا ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ (الزخرف: 76)
……………………………..
هوامش:
- هذا مضمون حديث رسول الله، صلى الله عليه وسلم: « يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، ولم يُنقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم». (رواه ابن ماجه في سننه)
وهو مثال على العقوبات لبقية الجرائم. نسأل الله العافية.