القيام بالدعوة الى الله تعالى شرف عظيم؛ ولكن له شروطه للقبول. والموقف المتردد بين الصلاح والفساد موقف مَخُوف. واليقين بالآخرة يحفز المصلحين، ويدفع المترددين لحسم موقفهم.
مقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا وقدوتنا محمد، صلى الله عليه وسلم، وبعد..
فلقد سبق في مقالات الحديث عن اليقين باليوم الآخر وثمراته (راجع: من ثمرات اليقين بالآخرة .. الإخلاص والزهد والرجاء)
وفي هذا المقال سأتوجه بهذه الكلمات إلى ثلاث فئات من الناس، هي التي تتألف منها مجتمعات المسلمين اليوم، ولا يكاد يخرج فرد من الأفراد عنها، وهذه الفئات هي:
الى الفئة المصلحة الداعية إلى الخير
وهؤلاء هم أشراف المجتمع وأحسنهم قولاً وأثراً في الناس، وأنبلهم غاية وأسماهم هدفاً، وهؤلاء هم الذين عناهم الله عز وجل بقوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ (فصلت: 33)، وقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَاًمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104)، وهم الذين عناهم الرسول، صلى الله عليه وسلم، بقوله: «ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى. (1مسلم، (1523))
فإلى إخواني هؤلاء أوجه هذه الكلمات..
اعلموا أنكم سادة المجتمعات وأشرافها بحق، وكيف لا وأنتم تحملون أعظم رسالة وأنبل غاية، ألا وهي تعبيد الناس لرب العالمين وإخراجهم بإذن الله تعالى من الظلمات إلى النور، كيف لا وأنتم تضحّون بأوقاتكم وأموالكم وراحتكم في سبيل إنقاذ أنفسكم وإنقاذ الناس من عذاب الله تعالى في الدنيا وعذابه الأليم في الآخرة؛ فأيُّ غاية أشرف وأنبل من هذه الغاية..؟
كلمات نصحٍ لدعاة الخير
ولما كان هذا العمل بهذه المنزلة، فاللهَ اللهَ أن يضيع سدى أو يصير هباءً بنزغة شيطان أو هوى نفس يلوثان العمل برياء أو إرادة دنيا فانية، أو ابتداع في الدين بما لم يأذن به الله سبحانه. إن صدور هذه الأمراض ممتنع من عبد أيقن باليوم الآخر، وأيقن بيوم الحسرة التي يتحسر فيها العبد على كل عمل لم يخلص فيه لله عز وجل، ولم يتابع فيه الرسول. وإن ذلك ـ والله ـ لكائن في يوم التناد ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ﴾ [القصص: 65]، ويا سعد من كان جوابه: أجبناهم بالاتباع والانقياد وعدم الابتداع، ويا خيبة وخسارة من كان حاله كما قال تعالى: ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءلُونَ﴾ [القصص: 66].
وإن مما يحافظ على شرف الغاية في الدنيا وعظم الجزاء في الآخرة: سلامة الصدور ووحدة الكلمة ونبذ الفرقة والاختلاف..! لأن مما يضعف أثر أهل الخير على الناس تفرقَهم ومنابذة بعضهم لبعض، لأنهم بذلك ينشغلون بأنفسهم عن دعوة الناس؛ كما أن الناس تضعف ثقتهم بأهل الخير إذا رأوا ما بينهم من الأحقاد والإحن، فاللهَ اللهَ في دعوة الله عز وجل، واللهَ اللهَ في العمل الصالح أن يضيع هباءً منثوراً في يوم الفاقة والحاجة، يوم يكون العبد في أمسّ الحاجة إلى حسنة واحدة يثقل بها ميزانه.
إنه لا يمكن لمن أيقن بيوم الجزاء والحساب والوقوف بين يدي الديان عز وجل أن ينفق العمر القصير في قيل وقال وأحقاد وأضغان وافتراق على أمور يجوز الاختلاف عليها، وبقدْر ما يكون من هذه الأمراض في النفوس بقدر ما تؤخر عجلة الدعوة، ويفتح المجال للفئة المفسدة لتبث سمومها في الناس، وتجرهم إلى الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة ـ نسأل الله السلامة.
وإن من أخطر ما تفرزه الفرقة والاختلاف بين أهل الخير: الظلم والعدوان والانتصار للنفس وحظوظها بتأويل، وأحياناً بدون تأويل.
وينبغي لمن أيقن بيوم الفصل، وأيقن بيوم التلاق يوم أن يلتقي الظالم بالمظلوم والجائر بالمجار عليه أن يحسب لهذا المقام حسابه، وألا يتكلم إلا بعلم وعدل، وأن يراعِي حرمة مال المسلم وعرضه وجميع حقوقه، قبل أن يأتي يوم القصاص ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً﴾ [آل عمران: 30].
إن اليقين باليوم الآخر وأهواله واليقين بالتبعة الفردية المذكورة في قوله تعالى: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القِيَامَةِ فَرْداً﴾ [مريم: 95]، إن ذلك كله يفرض على الفئة المصلحة أن يكون الحق رائد كل فرد فيها، وهذا بدوره يخلّص من الحزبية المقيتة ولوثاتها، وما فيها من التعصب للأشخاص أو الهيئات، فكل هؤلاء لا ينفعون عند الله عز وجل إذا لم يكن الحق هو الرائد والموجه للجميع، وهذا يؤكد
على الفئة المصلحة والداعية إلى الخير أن تربط الناس والأتْباع بالدليل الصحيح من الكتاب والسنة وفهْم السلف الصالح لا بآراء الرجال وعقولهم، وهذا لا يعني التنقص من أهل العلم والدعوة وعدم تقديرهم. كلا؛ فلهم التقدير والمحبة والإجلال، ولكن فرق بين التقدير والتقديس.
بما أن من سنة الله عز وجل ابتلاء أوليائه بأعدائه؛ ليبلي المؤمن بلاء حسنا، فإن مما يثبّت به الله عباده المؤمنين ودعاته الصادقين أن يرزقهم الإنابة إلى دار الخلود رجاء ثواب الله عز وجل، وأن الله تعالى ليس بغافل عن الظالمين، فهناك يوم القصاص الأعظم، وذِكْر هذا اليوم مما يصبّر به الله سبحانه دعاته المصلحين، وكلما كان ذكر هذا اليوم العظيم في قلوب الدعاة أكثر، كلما كان صبرهم وتضحيتهم أعظم وأكبر.
وهذا يقود إلى مسألة أخرى، وهي: أن ينتبه أهل الخير والإصلاح إلى دور اليوم الآخر والتذكير به دائماً في تربية النفوس وتهذيبها، وأن يعنوا به عناية كبيرة في البرامج التعليمية والمناهج الدعوية، بل ينبغي أن تربط جميع المناهج على اختلافها باليوم الآخر وأعمال القلوب حتى يكون للمناهج أثرها العملي والتعبدي والأخلاقي، وينبغي ألا يلتفت إلى من يقلل من شأن الحديث في اليوم الآخر والوعظ بأيامه وأهواله بحجة أنه كلام وعظي أو عاطفي أو إنشائي..!! فهذا غلط كبير وتفريط عظيم في رافد عظيم من روافد التربية والتزكية.
هذا وإن كان قصد ذلك المقلِل الإشارة إلى أهمية العلم والتأصيل والاستدلال وليس هو التهوين من ذلك اليوم العظيم، إلا أنه ينبغي التنبيه على أن العلم والتأصيل والاستدلال ينبغي أن يربط ذلك كله بتعظيم الله عز وجل وعبادته والاستعداد بالعلم والعمل للدار الآخرة، وهذا لا يتأتى إلا أن يقوم أهل العلم والتوجيه والإرشاد إلى صبغ دروسهم وحلقات تعليمهم بهذا الأمر سواء أكان العلم في العقيدة، أو في الفقه وأصوله، أو الحديث ومصطلحه، أو السيرة والتاريخ.. إلخ.
الى فئة الأتباع وعامة الناس
وهم الذين لم يصِلوا في أخلاقهم وأهدافهم إلى مستوى الفئة الشريفة المصلحة، ولم يهبطوا إلى مستوى الفئة المفسدة الوضيعة الخائنة.
وإنما هم فئة بين الفئتين ولديهم الاستعداد للخير الذي تدعو إليه الأولى، كما أن لديهم الاستعداد لتلقي الشر والإفساد الذي تسعى إليه الفئة الثانية (2ولذلك يوجد في هذه الفئة: الصالحون والفاسدون حسب نشاط أهل الخير وأهل الشر، وقد يوجد من بينهم أهل العزلة والساكتون). وهذا يؤكد أهمية الدعوة، وقطع الطريق على الفئة المفسدة؛ حتى لا ينحرف الناس عن الصراط المستقيم. والملاحَظ في هذه الفئة أنها السواد الأعظم، بينما يغلب على الفئة المصلحة الداعية الى الخير والفئة المفسدة الداعية الى الشر أنهما قِلة، والدفع بين الفئة المصلحة والمفسدة من سنن الله عز وجل حيث الصراع بين الحق والباطل، قال تعالى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ﴾ [البقرة: 251].
كلمات نُصحٍ لعامة الناس
إن تذكر اليوم الآخر ومشاهده العظيمة من أهم الأسباب التي تقي من شر المفسدين المستكبرين في الدنيا وفي يوم التناد ويوم تخاصم أهل النار، فإذا أيقن العبد بهذه المشاهد وأن الله سبحانه ينادي عباده ﴿مَاذَا أَجَبْتُمُ المُرْسَلِينَ﴾ عندئذ يحذر العبد أن يتبع كل ناعق ملبِّس، وإنما يتبع المرسلين وأتباعهم، كما أن تخاصم أهل النار وما فيه من تبرؤ المتبوعين من الأتباع يجعل العبد يحسب لهذا
المشهد حسابه، حتى لا يعض على يديه حسرة وندامة. وهذا الشعور المخيف يجعل الإنسان في حذر من أهل الشر والإفساد الذين يزينون له الباطل في الدنيا، ويوم القيامة يلعن بعضُهم بعضاً ويتبرأ التابع من المتبوع والمتبوع من التابع، فكفى بتذكر تلك المشاهد العظيمة واعظاً ورادعاً لكل من يحب لنفسه الخير حتى يحْذَر من أهل الشر والفساد، ويلتصق بأهل الخير والإصلاح الذين يسعون لإنقاذ الناس بإذن ربهم سبحانه من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، ويعض عليهم ويبذل لهم المودة والنصرة والدعاء، حيث إنهم أرحم الخلق بالخلق، وهم صمّام الأمان لمجتمعاتهم، فجدير بمن هذه صفاته أن يُحَبّ ويُوالَى ويُنصَر.
خاتمة
لقد أنعم الله سبحانه على عباده بالعقول وإرسال الرسل وإنزال الكتب حتى تَبْيّنَ الرشد من الغي، ولن ينفع التابعين الذين أعطوا قيادهم لدعاة الشر وألغوا عقولهم، لن ينفعهم يوم القيامة إلقاء التبعة على المتبوعين من المفسدين، ولقد قامت حجة الله سبحانه على عباده..
نعم لن يجدي عن الأتباع الذين فتحوا أفكارهم وبيوتهم لأهل الشر ليفسدوا فيها ويمكروا فيها إذا قامت الخصومات بين يدي الحَكم العدل، إنهم بذلك يتحولون إلى فئة المفسدين، شعروا أم لم يشعروا.
وأخيراً لنسمع إلى تحذير الله عز وجل لعباده من طاعة الشيطان وحزبه وبراءته من أتباعه يوم القيامة، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [إبراهيم: 22].
……………………………..
الهوامش:
- مسلم، (1523).
- ولذلك يوجد في هذه الفئة: الصالحون والفاسدون حسب نشاط أهل الخير وأهل الشر، وقد يوجد من بينهم أهل العزلة والساكتون.