نعم الله على عباده لا يحصونها؛ لكن ثمة نعمة مقيدة قد تنقلب في حق صاحبها نقمة، وثمة نعمة مطلقة تدوم لصاحبها وتتم له بها نعم الله أبدا.
مقدمة
يتقلب العباد في نعم الله تعالى، وبما أنعم ورحم تعالى قام الخلق، وما من مخلوق إلا وأصابته من رحمة الله تعالى ﴿ربنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا﴾ (غافر: 7)
ونعم الله على عباده نوعان:
النعمة الخاصة: وهي أعظم النعم، وهي نعمة الهداية للإيمان والإسلام، وفيها سعادة الدنيا والآخرة، وهي خاصة بعباد الله الذين اصطفاهم لدينه وهدايته، وهي التي يسميها ابن القيم رحمه الله تعالى: النعمة المطلقة.
النعمة العامة: وهي التي يشترك فيها الخلق جميعًا مؤمنهم وكافرهم؛ كنعمة الصحة والغنى والأكل والجاه، وكثرة المال والولد… إلخ.
ويفصّل القول في هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول: «والنعمة نعمتان: نعمة مطلقة، ونعمة مقيدة.
النعمة المطلقة
فالنعمة المطلقة: هي المتصلة بسعادة الأبد، وهي نعمة الإسلام والسنة، وهي النعمة التي أمرنا الله سبحانه أن نسأله في صلاتنا أن يهدينا صراط أهلها ومن خصّهم بها وجعلهم أهل الرفيق الأعلى؛ حيث يقول تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا﴾. (النساء: 69)
فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة، وأصحابها أيضًا هم المعنيُّون بقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (المائدة: 3)؛ فأضاف الدين إليهم؛ إذ هم المختصون بهذا الدين القيم دون سائر الأمم، والدين تارة يضاف إلى العبد، وتارة إلى الرب؛ فيقال: الإسلام دين الله الذي لا يقبل من أحد دينًا سواه؛ ولهذا يقال في الدعاء: «اللهم انصر دينك الذي أنزلته من السماء».
ونسب الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة مع إضافتها إليه؛ لأنه هو وليُّها ومسديها إليهم، وهم محلٌّ محض لنعمه قابلين لها؛ ولهذا يُقال في الدعاء المأثور للمسلمين: «واجعلهم مُثْنِين بها عليك قَابِلِيها وأَتِمَّها عليهم».
وأما الدين فلما كانوا هم القائمين به الفاعلين له بتوفيق ربهم نسبه إليهم، فقال: ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، وكان الكمال في جانب الدين والتمام في جانب النعمة.
واللفظتان وإن تقاربتا وتوازنتا، فبينهما فرق لطيف يظهر عند التأمل؛ فإن الكمال أخص بالصفات والمعاني ويطلق على الأعيان والذوات، وذلك باعتبار صفاتها وخواصها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد». (1البخاري (3411)، ومسلم «شرح النووي» (15 /198))
وقال عمر بن عبد العزيز: «إن للإيمان حدودًا وفرائض وسننًا وشرائع؛ فمن استكملها فقد استكمل الإيمان».
وأما التمام فيكون في الأعيان والمعاني، ونعمة الله أعيان وأوصاف ومعانٍ، وأما دينه فهو شرعه المتضمن لأمره ونهيه ومحابه، فكانت نسبة الكمال إلى الدين والتمام إلى النعمة أحسن كما كانت إضافة الدين إليهم والنعمة إليه أحسن.
والمقصود: أن هذه «النعمة» هي النعمة المطلقة، وهي التي اختصت بالمؤمنين، وإذا قيل “ليس لله على الكافر نعمة” بهذا الاعتبار؛ فهو صحيح.
النعمة المقيدة
والنعمة الثانية: النعمة المقيدة: كنعمة الصحة، والغنى، وعافية الجسد، وبسط الجاه، وكثرة الولد، والزوجة الحسنة وأمثال هذا؛ فهذه النعمة مشتركة بين البَرِّ والفاجر والمؤمن والكافر.
وإذا قيل: “لله على الكافر نعمة” بهذا الاعتبار؛ فهو حق.
فلا يصح إطلاقًا “السلب” و”الإيجاب” إلا على وجه واحد، وهو أن النعم المقيَّدة لما كانت استدراجًا للكافر ومآلها إلى العذاب والشقاء فكأنها لم تكن نعمة وإنما كانت بليَّة، كما سماها الله تعالى في كتابه كذلك فقال جل وعلا: ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ۖ بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ..﴾ الآية. (الفجر:15-17)
أي: ليس كل من أكرمته في الدنيا ونعّمته فيها قد أنعمت عليه، وإنما كان ذلك ابتلاء مني له واختبارًا، ولا كل مَن قدَّرتُ عليه رزقه فجعلته بقدْر حاجته من غير فضل أكون قد أهنته، بل أبتلي عبدي بالنعم كما أبتليه بالمصائب.
فإن قيل: فكيف يلتئم هذا المعنى ويتفق مع قوله: ﴿فَأَكْرَمَهُ﴾ فأثبت الإكرام ثم أنكر عليه قوله: ﴿أَكْرَمَنِ﴾، وقال: ﴿كَلَّا﴾. أي: ليس ذلك إكرامًا مني وإنما هو ابتلاء؛ فكأنه أثبت «له» الإكرام ونفاه؟
قيل: الإكرام المثبت غير الإكرام المنفي، وهما من «جنس» النعمة المطلقة والمقيدة؛ فليس هذا “الإكرام المقيد” بموجِب لصاحبه أن يكون من أهل “الإكرام المطلق”.
وكذلك أيضًا إذا قيل: إن الله أنعم على الكافر نعمة مطلقة ولكنه رد نعمة الله وبدَّلها؛ فهو بمنزلة من أُعْطِيَ مالًا يعيش به فرماه في البحر كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَار﴾ (إبراهيم:28)
وقال تعالى: ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (فصلت:17)
فهدايته إياهم منةٌ عليهم، فبدَّلوا نعمته وآثروا عليها الضلال، فهذا فصل النزاع في مسألة: هل لله على الكافر نعمة أم لا؟
وأكثر اختلاف الناس من جهتين:
إحداهما: اشتراك الألفاظ وإجمالها.
والثانية: من جهة الإطلاق والتفصيل…
وهذه النعمة المطلقة هي التي يُفرَح بها في الحقيقة، والفرح بها مما يحبه الله ويرضاه، وهو لا يحب الفرحين؛ قال الله تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (يونس:58).
وقد دارت أقوال السلف على أن فضل الله ورحمته: “الإسلام والسنة”.
وعلى حسب حياة القلب يكون فرحه بهما، وكلما كان أرسخ فيهما كان قلبه أشد فرحًا، حتى أن القلب ليرقص فرحًا إذا باشر روح السُنة أحزن ما يكون الناس، وهو ممتلئ أمنًا أخوف ما يكون الناس”. (2«اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص33-38) باختصار)
ويتحدث صاحب «الظلال» رحمه الله تعالى عن النعمة المطلقة ـ وهي الهداية إلى الإيمان والتي يخص الله تعالى بها من يشاء من عباده ـ وذلك عند قوله تعالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (الحجرات:17)؛ فيقول:
“إن الإيمان هو كبرى المنن التي ينعم بها الله على عبد من عباده في الأرض؛ إنه أكبر من مِنّة الوجود الذي يمنحه الله ابتداء لهذا العبد، وسائر ما يتعلق بالوجود من آلاء الرزق والصحة والحياة والمتاع.
إنها المنة التي تجعل للوجود الإنساني حقيقة مميزة، وتجعل له في نظام الكون دورًا أصيلًا عظيمًا.
وأول ما يصنعه الإيمان في الكائن البشري، حين تستقر حقيقته في قلبه، هو سَعَة تصوُّره لهذا الوجود، ولارتباطاته هو به، ولدوره هو فيه، وصحة تصوره للقيم والأشياء والأشخاص والأحداث من حوله..
وطمأنينته في رحلته على هذا الكوكب الأرضي حتى يلقى الله، وأنسه بكل ما في الوجود حوله، وأنسه بالله خالقه وخالق هذا الوجود، وشعوره بقيمته وكرامته، وإحساسه بأنه يملك أن يقوم بدور مرموق يرضى عنه الله، ويحقق الخير لهذا الوجود كله بكل ما فيه وكل من فيه…
ومن هذا التصور الواسع الرحيب يستمد موازين جديدة حقيقية للأشياء والأحداث والأشخاص والقيم والاهتمامات والغايات، ويرى دوره الحقيقي في هذا الوجود، ومهمته الحقيقية في هذه الحياة؛ بوصفه قدرًا من أقدار الله في الكون، يوجهه ليحقق به ويحقق فيه ما يشاء، ويمضي في رحلته على هذا الكوكب ثابت الخَطْوِ، مكشوف البصيرة، مأنوس الضمير.
ومن هذه المعرفة لحقيقة الوجود حوله، ولحقيقة الدور المقسوم له، ولحقيقة الطاقة المهيأة له للقيام بهذا الدور، من هذه المعرفة يستمد الطمأنينة والسكينة والارتياح لما يجري حوله، ولما يقع له..
فهو يعرف من أين جاء؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين يذهب؟ وماذا هو واجد هنالك؟ وقد علم أنه هنا لأمرٍ، وأن كـل مـا يقـع لـه مقـدر لتـمام هـذا الأمـر، وعلـم أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأنه مجزي على الصغيرة والكبيرة، وأنه لم يخلق عبثًا، ولن يترك سدى، ولن يمضي مفردًا”. (3«في ظلال القرآن» (6 /3351-3354) باختصار)
ويقول في موطن آخر:
“ولا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين، ولا يقدرها قدرها، من لم يعرف حقيقة الجاهلية ومن لم يذق ويلاتها ـ والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه الله..
فهذا الذي عرف الجاهلية وذاق ويلاتها ـ ويلاتها في التصور والاعتقاد، وويلاتها في واقع الحياة ـ هو الذي يحس ويشعر، ويرى ويعلم، ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة الله في هذا الدين.
الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى، وويلات الحيرة والتمزق، وويلات الضياع والخواء في معتقدات الجاهلية وتصوراتها في كل زمان وفي كل مكان؛ هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الإيمان”. (4المصدر نفسه (2 /844))
خاتمة
لما كانت الهداية هي النعمة الحقيقية التي تجعل كل نعمة مقيدة نعمة مطلقة تدوم لصاحبها وتنفعه؛ ولما كان افتقاد الهداية يقلب النعم في حق صاحبها نقمة؛ لمعصيته وتنكّبه الطريق..
لهذا لزم للعبد أن يراها كما عرضها ربه تعالى في كتابه، وأن يكون وقْعها في قلبه ومكانتها في تصوره بهذا التصور القرآني وبهذا الاعتبار الرباني..
ولزم للعبد أن يقدرها قدرها ويضعها في محلها اللائق من قلبه وموازينه.
ولزم كذلك للعبد أن يجأر لربه ضارعا سائلا مُلحّا، ومخلصا في طلبه للهداية. ولهذا لم يكن ثمة سؤال أنفع ولا أحوج ولا أجمع للعبد من قوله ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾.
وقد قال أهل العلم انه لم يُعط أحد قدرا من الإمامة ولا الخير إلا بقدر إخلاصه في هذا الدعاء الكريم.
نسأل الله تعالى الهدى، وأن يتم علينا هداه، وأن يُلزم قلوبنا إياه حتى نلقاه، ويتم علينا نعمه تعالى في الدارين.
……………………………………..
الهوامش
- البخاري (3411)، ومسلم «شرح النووي» (15 /198).
- «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص33-38) باختصار.
- «في ظلال القرآن» (6 /3351 – 3354) باختصار.
- المصدر نفسه (2/844).