بينما كان النفاق سابقا يختبئ أو ينفصل عن المجتمع المسلم؛ إذ نجد اليوم ظواهر مناقَضة الإسلام والطعن فيه والانتماء لحضارات أخرى، مع منع المسلمين من البيان. ثم الاستمرار في قيادة المجتمع..!

مقدمة

يقلق المسلمين ـ وخاصة الدعاة والعلماء والمفكرين ـ بعض ظواهر الانجراف خلف دعوات ومظاهر غربية وعقائد مستوردة لها بهرج وزخرف وحقيقتُها هي حقيقة الكفر أو الإلحاد التاريخية التي سطر القرآن ظواهرها وأظهر عوارها ورد شبهاتها.

الفَلْسَفَةُ التِي حَمَلَتْهَا أُورُوبَا إِلَى الشَّرْقِ

حملت أوروبا إلى الشرق الفلسفات التي قامت على إنكار أسس الدين وإنكار القوة المصرفة لهذا العالم، القوة الواعية التي أخرجت هذا العالم من العدم إلى الوجود وبيدها زمام الكون (الإله، الخلق والأمر) وعلى إنكار عالم الغيب والوحي والنبوات، وإنكار الشرائع السماوية، وإنكار القيم الروحية والخلقية، منها ما تبحث في علم الحياة والنشوء والارتقاء، ومنها ما تتصل بالأخلاق، ومنها ما تدور حول علم النفس، ومنها ما موضوعها الاقتصاد والسياسة، ومهما اختلفت هذه الفلسفات في ألوانها وأهدافها وأسسها، فإنها جميعًا تلتقي على النظرية المادية المحضة إلى الإنسان وإلى الكون والتعليل المادي لظواهرهما وأفعالهما.

غزَت هذه الفلسفات المجتمع الشرقي الإسلامي وتغلغلت في أحشائه وكانت أعظمها انتشارًا وأعمقها جذورًا وأقواها سيطرة على العقول والقلوب، وأقبل عليها زهرة البلاد الإسلامية وزبدتها عقلاً وثقافةً، وساغتها وهضمتها ودانت بها كما يدين المسلم بالإسلام والمسيحي بالمسيحية بكل معنى الكلمة، فهي تستميت في سبيلها وتقدس شعارها وتجل قادتها وَدُعَاتِهَا وتدعو إليها في أدبها ومؤلفاتها، وتحتقر كل ما يعارضها من الأديان والنظم والعقليات وتؤاخي كل من يدين بها، فأفرادها أمة واحدة وأسرة واحدة ومعسكر واحد.

الدِّيَانَةُ اللاَّدِينِيَّةُ..!

وما هي هذه الديانة وإن أبى أصحابها أن يسموها ديانة..؟

إنها إنكار لفاطر الكون العليم الخبير الذي قَدَّرَ فهَدى، وإنكار للمعاد وحشر الأجساد ووجود الجنة والنار والثواب والعقاب، وإنكار النبوات والرسالات وإنكار الشرائع السماوية والحدود الشرعية وإنكار الرسول الأعظم وهو الذي فرض الله طاعته على جميع الخلق وحصر الهداية والسعادة في اتِّبَاعِهِ، وأن الإسلام هو الرسالة الأخيرة الخالدة المتكفلة لجميع السعادات الدنيوية والأخروية ونظام الحياة الأمثل الأفضل، وهو الدين الذي لا يقبل الله غيره ولا يسعد العالم سواه أو إنكار أن الدنيا خلقت للإنسان وأن الإنسان خلق الله.

هذه ديانة الطبقة المثقفة الممتازة التي تملك زمام الحياة في أكثر البلدان الإسلامية، وإن لم تكن كلها طبقة واحدة في الإيمان بها والتحمس لها، وفيها، ولا شك، مؤمنون بالله متدينون بالإسلام، ولكن سِمَة هذه الطبقة التي تغلب عليها وفلسفة الحياة الغربية التي قامت على الإلحاد.

إنها ردة، أعود فأقول: اكتسحت العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه وغزت الأُسَرَ والبيوتات، والجامعات والكليات والثانويات والمؤسسات، فما من أسرة مثقفة ـ إلا من عصم ربك ـ إلا وفيها من يَدين بها أو يحبها أو يجلّها وإذا استنطقْته أو خلوْت به أو أثرته عرفت أنه لا يؤمن بالله، أو لا يؤمن بالآخرة، أو لا يؤمن بِالرَّسُولِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو لا يؤمن بالقرآن كالكتاب المعجز الخالد ودستور الحياة وأفضلهم من يقول أنه لا يفكر في مثل هذه المسائل ولا يهتم بها كبير اهتمام. (1نلفت النظر الى أن كتابة الشيخ رحمه الله كانت قديمة والوضع الآن قد يختلف عن وصف الشيخ لعصره وكأن الالحاد قد عم وطم ولم يبق بيت الا دخله وفي هذا مبالغة  ونحن ضد من يقول أن الإلحاد اليوم ظاهرة)

إنها ردة ولكنها لم تلفت المسلمين، ولم تشغل خاطرهم، لأن صاحبها لا يدخل كنيسة أو هيكلاً ولا يعلن رِدَّتَهُ وانتقاله من دين إلى دين، ولا تنتبه له الأسرة فلا تقاطعه ولا تقصه بل يظل يعيش فيها ويتمتع بحقوقها وقد يسيطر عليها، ولا ينتبه لها المجتمع فلا يحاسبه ولا يعاتبه ولا يفصله بل يظل يعيش فيه ويتمتع بحقوقه وقد يسيطر عليه.

قضية ولا أبا بكر لها

إنها قضية العالم الإسلامي الكبرى، إنها مشكلة الأُمَّةِ الإسلامية الكبرى، رِدَّةٌ تنتشر وتغزو المجتمع الإسلامي ثم لا ينتبه لها أحد، ولا يفزع لها العلماء ورجال الدين، لقد قالو قديمًا: «قَضِيَّةٌ وَلاَ أَبَا حَسَنٍ لَهَا» وأقول: «قَضِيَّةٌ وَلاَ أَبَا بَكْرٍ لَهَا».

إنها قضية لا تطلب حربًا ولا تطلب تهييج الرأي العام، ولا تطلب ثورة، ولا تطلب عُنْفًا، بل إن العنف يضرها وَيُهَيِّجُهَا، والإسلام لا يعرف محاكم التفتيش ولا يعرف الاضطهاد، إنها تطْلب عزمًا وتطلب حكمة وتطلب صبرًا واحتمالاً وتطلب دراسة.

سِرُّ انْتِشَارِ هَذِهِ الدِّيَانَةِ

لماذا انتشرت هذه الديانة في الشرق الإسلامي؟

لماذا استطاعت أن تغزو المسلمين في عُقْرِ دارهم؟

ولماذا استطاعت أن تسيطر على العقول والنفوس هذه السيطرة..؟ إن كل ذلك يطلب التفكير العميق الدقيق .. والدراسة الواسعة.

ضعُف العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر المسيحي في الدعوة والعقيدة والعقلية والعلم، وبدا عليه الإعياء والشيخوخة، والإسلام لا يعرف الشيخوخة والهرم، إنه جديد كالشمس وقديم كالشمس وشاب كالشمس؛ ولكن المسلمين هم الذين شاخوا وضعفوا، فلا سعة في العلم ولا ابتكار في التفكير والانتاج، ولا عبقرية في العقل، ولا حماسة في الدعوة، ولا عرضًا جميلاً ومؤثرًا للإسلام ومزاياه ورسالته إلا النادر القليل.

ولا صلة بالشباب المثقف والتأثير في عقليتهم وهم أمة الغد والجيل المُرْتَجَى، ولا محاولة لإقناعهم بأن الإسلام هو دين الإنسانية والرسالة الخالدة، وأن القرآن هو الكتاب المعجز الخالد الذي لا تنقضي عجائبه ولا تنفذ ذخائره ولا تَبْلَى جِدَتُه، وأن الرسول هو المعجزة الكبرى، ورسول الأجيال كلها وإمام العهود كلها، وأن الشريعة الإسلامية هي الآية في التشريع وهي الصالحة لمسايرة الحياة وقضاء مآربها الصالحة والإشراف عليها، وأن الإيمان والعقيدة والأخلاق والقيم الروحية هي أساس المدنية الفاضلة والمجتمع الكريم، وإن الحضارة الجديدة لا تملك إلا الوسائل والآلات، وإن تعاليم الأنبياء هي مصادر العقيدة والخُلُقِ والغايات، ولا مطمع في المدنية الصالحة المتزنة إلا بالجمع بين الوسائل والغايات.

وفي هذه الساعة هجمت أوروبا بفلسفاتها التي تعب في تدوينها وتهذيبها كبار الفلاسفة ونوابغ العصر، وصبغوها بصبغة علمية فلسفية يخيل إلى الناظر أنها غاية ما يصل إليها التفكير الإنساني ومنتهى الدراسات والاختيارات ونتاج العقول البشرية وعصارة التأملات. وكان فيها ما يقوم على الاختبار والمشاهدة وتصدقه التجربة، وما يقوم على الافتراض والتحكم والتخييل والتوهم، وفيها الحق والباطل والعلم والجهل والحقائق الراهنة والتخيلات الشعرية، وليس الشعر محصورًا في النظم والقوافي بل هو في الفلسفة والعلم أيضًا.

ووردت هذه الفلسفات مع الغزاة الأوروبيين فخضعت لها العقول والنفوس البشرية وأذعنت لها وقبلتها الطبقة المثقفة في الشرق، وفيها من يفهمها ـ وهو القلة القليلة ـ وفيها من لا يفهمها ـ وهم الكثرة الكاثرة ـ ولكن كل مؤمن بها مسحور بسحرها يرى الطرفة والكياسة في اعتقادها ويرى ذلك شعار المثقفين الأحرار.

وهكذا انتشر الإلحاد والارتداد في الأوساط الإسلامية من غير أن يبثه له الآباء والأساتذة المربون وأهل الغيرة ولم يسجدوا لصنم ولم يذبحوا لطاغوت، وكان ذلك دليل الارتداد والكفر والزندقة في العهد القديم.

نِفَاقٌ وَإِلْحَادٌ

وكان المارقون القدماء يخرجون من المجتمع الإسلامي وينضمون إلى مجتمع الديانة التي يدينون بها جديدًا ويعلنون عقيدتهم وَتَحَوُّلِهِمْ بصراحة وشجاعة، ويحتملون كل ما يخسرونه في سبيل عقيدتهم الجديدة ولا يلحّون على البقاء في المجتمع القديم ليحافظوا على ما كانوا يتمتعون به من حقوق وحظوظ.

أما الذي يقطع صلته عن دين الإسلام اليوم فلا يريد أن يقطع صلته عن المجتمع الإسلامي، مع أن المجتمع الإسلامي هو المجتمع البشري الوحيد الذي يقوم على العقيدة ولا يتحقق هذا المجتمع من غير عقيدة، ويلحّون على أن يعيشوا في مراكزهم متمتعين بثقة هذا المجتمع، متمتعين بالحقوق التي يُخَوِّلُهَا الإسلام، إن هذا وضع شاذ لم يعرفه التاريخ الإسلامي.

خاتمة

وأخيرا ثمة حقيقة مهمة. وهي أن كثيرا من هذه الظواهر تنتهي بقوة المجتمع المسلم وإطلاق طاقاته. وهي تلك الطاقات التي يعطلها مندوبو الغرب من الحكام العلمانيين الذين يستعملون القوة لإرهاب المسلمين ووأد طاقاتهم وإمكاناتهم. ولو تمتع المجتمع المسلم بالحرية ـ حرية الدعوة والبيان والحراك الإسلامي ـ لأصلح أحوال بلاده ولأسقط شبهات الملحدين جميعا بل ولأظهر عوار الحضارات المادية المعاصرة، ولضمرت أمامه عقائد الإلحاد ذابلة، ولدخل الناس في يدن الله أفواجا.

……………………………….

هوامش:

  1. نلفت النظر الى أن كتابة الشيخ رحمه الله كانت قديمة والوضع الآن قد يختلف عن وصف الشيخ لعصره وكأن الالحاد قد عم وطم ولم يبق بيت الا دخله وفي هذا مبالغة ونحن ضد من يقول أن الإلحاد اليوم ظاهرة.

المصدر:

  • “رِدَّةٌ وَلاَ أَبَا بَكْرَ لَهَا”، ص (1-13)، علي أبو الحسن الندوي.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة