تبنى الأستاذ سيد قطب رحمه الله قضايا أوضحها وعاش من أجلها، وكانت علامات دالة على فكره وفهمه، بل ومات من أجلها. ولكن ابتعد الناس عن مضمون ما قدّم تحت حجة وغبار التكفير وعدمه، والوقوف على ألفاظ بعينها، بسبب انحراف فكر هؤلاء الناظرين، أو استخدام أمني مقصود، أو لبدع غالبة، أو انحراف نفسي، أو جهل عقيم، أو قصور عقلي غير مسبوق. وتحت هذا الغبار بين الاتهام ونفيه ضاعت القضايا الأصلية، وكانت علامة الخبث الواضحة هي أن من هاجمه لم يلتفت إلى القضايا التي حملها وتبناها، وهي محل إجماع الأمة ومنطوق النصوص المتكاثرة، وغيابُها هو سبب تخلف الأمة وتبعيتها.

وفي المقال السابق [ قضايا سيد قطب التي تبناها، وعاش واستشهد ثمنًا لها (1) ] تعرضنا لبعض هذه القضايا ونكملها في هذه المقالة.

رابع عشر: الجيل الفريد، عوامل نشـأته، وخصائصه

تكلم كثيرًا عن خصائص الجيل الفريد وأثر القرآن فيه -جيل الصحابة الكرام، تربية رسول الله صلى الله عليه وسلم- والفترة الراشدة، كجيل وفترة مقياس للأمة وأفق وضيء يُستهدف الوصول إليه، فيرتفع الناس وهم يسمون إليه، ومنهم من يصل إليه أو قريبًا منه.

وهو جيل كان للقرآن أثره الأساسي فيه، والسنة من أثر القرآن، وأن انطباعهم بالقرآن أعطاهم هذا التفرد، بجمعهم بين العلم والعمل وربط التوجيه بالخطأ ، واعتمادهم منهج التلقي للتنفيذ، وانفراد القرآن -بعمقه- بالتأثير عليهم في تكوينهم ومنهج حياتهم، ثم يتناولون بعد هذا الاطلاع على حضارات الغير فينظرون إليه من خلال ما قرره هذا الكتاب العظيم، كتاب هذه الدعوة. وقال أن الجيل المهيأ للاقتراب من الخلافة الراشدة والجيل الأول والوصول قريبًا منه -مع تفرد الجيل الأول وأنه لا يتكرر- هو هذا الجيل الذي يواجه بالإسلام اليوم مواجهة شاملة أمام ذلك الانحراف الطاغي عن دين الله تعالى، سواء في العالم الغربي والشرقي، أو في داخل البلاد الإسلامية بابتعادها عن تحكيم هذا الدين وتسليمه قيادة الحياة بتصوراته وشرائعه وقوانينه وهويته ورابطته، والاكتفاء بالعقيدة المستكنة في الضمائر والشرائع التعبدية دون الأخذ بالشرائع الربانية التي جاءت لتلبي احتياج البشرية والتي بدونها تضل عن الجادة.

خامس عشر: ضرورة وجود فئة تحمل الإسلام، وتحمل الأمة كلها على الطريق، لتمكين دين الله تعالى

تكلم الأستاذ الشهيد رحمه الله عن ضرورة وجود فئة وتيار يحمل بقية المجتمع، يحمل هذا الدين بفهم صافٍ، وتطبيق فائق، ورؤية بلا غبش، وتربية عميقة، وتضحية نبيلة بإخلاص وتجرد، وصدق في العمل مع الله تعالى، لإقامة الإسلام في الأرض بلا شهوة لمن يحمله ولا نصيب لنفسه في نصر الإسلام إلا مجرد القيام بالعبودية المطلوبة، سواء تم النصر على يد هذه الفئة أو استشهد البعض وأكمل الباقي، إنما هو العطاء في كل لحظة بحسب هذه اللحظة.

سادس عشر: معنى العزلة الشعورية، وضرورتها، مع معايشة الأمة وقضاياها

أمام الانحراف عن هذا الدين أو محاربته ورفض شريعته ورفض حاكميته المهيمنة على الشرائع القانونية.. أمام رفض منهجه في الفن والفكر وتنظيمه الإجتماعي ونظامه الإقتصادي ونظامه السياسي، وأمام الإيغال في الإباحية أو الشرود أو الإعراض عن الاهتمام بقضاياه، وأمام حالة التماهي مع الباطل والغيبوبة العامة.. أمام هذا كله كان ما تكلم عنه من العزلة الشعورية، هي ليست استعلاء على الناس ولا عزلة عن جموع المسلمين وجماهيرهم، إنما هي تطبيق لقوله تعالى {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [الشعراء:216] بمعنى التبري من الانحراف والوقوف بحسم أمام أهله، ولو بالقلب، حتى لا ينحني المسلم أو يشعر بضعف أمام تيار الانحراف وحالات الشرود، وهي براءة وحسم واستعلاء أمام الخنادق المعادية للإسلام الذين يحاربون من أجل الإباحية ويقاتلون من أجل العلمانية ومن أجل تنحية هذا الدين، بل ويحاربون من أجل التبعية للغرب.

في الوقت عينه يقول أننا يجب ألا نترك الناس ولا أن نستعلي عليهم أو نعتزلهم، فإننا حينئذ لم نصنع شيئاً ذا بال، بل يجب مخالطتهم والحنو على ضعفهم بل وأن نتلمس فيهم جوانب الخير لنخاطبهم من خلالها، ولو بحثنا عنها فلن نعدمها، وحينئذ يجب أن ننمي هذا الجانب الخيّر فيهم ونخاطبهم من خلاله، ولو علموا منا الصدق سيتجاوبون معه، نحن عندئذ لا نتملقهم بل نبحث عن الخير، وسنجده لنبني عليه.

هكذا يقول رحمه الله، أما العزلة التي أشار إليها فهي براءة من أي انحراف يراه، خاصة عندما تتبناه رايات محددة ورموز تدعو إليه وأشخاص يجندون أنفسهم من أجله، ويصبح له تيارات تحمله. وهي أمر مهم ومطلوب كذلك لأنها تمثل القوة النفسية والروحية في مواجهة الباطل والبراءة منه حين يطغى الانحراف حتى يصير ظاهرة.

هذه البراءة وهذا الاستعلاء ضروري لئلا يتضعضع المسلم أو يهن أمام الباطل ورموزه وخنادقه؛ فيثق فيما معه ويسمو به ليصحح الانحراف ويعيد الأوضاع إلى دين الله تعالى بعزة وقوة.

سابع عشر: الإسلام هو الحضارة

الإسلام هو الحضارة، هكذا أوضح وبيّن؛ فقرر رحمه الله أن الإسلام هو أسمى حالة تحضر للمخلوق البشري، وأن تحقيقه هو أسمى حالة حضارية للإنسان، وهو أسمى حالة حضارية كذلك للمجتمع الذي يستهدف إقامة هذا الدين وتحقيقه في شكل مؤسسي وجماعي وقيم سائدة وعمل عام، حتى يصبح الإسلام هو المشروع الحضاري للأمة وللمجتمع، وعندئذ فهو في قمة الحضارة في علاقته بربه تعالى وبنفسه وبالكون من حوله، وبالخلق، مؤمنهم وكافرهم.

الإسلام الذي يأتي للعرايا في أفريقيا فيستر عوراتهم ويعرفهم معنى العورة ووجوب سترها، ويعلمهم النظافة والتطهر للصلاة، وحرمة الأعراض والدماء، وحقوق الغير، والحياة الإجتماعية والانتصار للحق واحترام القيادة المسلمة مع احترام الحياة وترقيتها، فها هي الحضارة والتحضر يرفعهم إليها الإسلام؛ فما الحضارة غير ذلك؟

فمع أي مستوى مادي كان فيه الإنسان يستطيع أن يكون في قمة التحضر بهذا الدين.. ولهذا فالإسلام هو الحضارة.

الحضارة التي يحتاجها الرجل الغربي عندما يأتيه الإسلام فيربطه بالله تعالى ويؤلّه رب العالمين، لا المادة ولا الآلة ولا اللذة ولا المنفعة الخاصة الطاغية، ويلغي الإباحية المقيتة والظلم المرير واستعباد الشعوب.. الإسلام هو الحضارة.

ثامن عشر: واقعية وجدية وإيجابية الإسلام كما عرضه

الإسلام الذي عرضه ليس تراتيلاً على مسابح، أو اعتقادًا منعزلاً، أو حملة مباخر لخدمة الطغيان والانحراف، بل الإسلام الذي عرضه هو نسيجٌ وحده، ومنهج متفرد، وفطري، وعميق التأثير في النفوس كما في التاريخ، منهج للبشر، بطاقاتهم وإمكانياتهم، يراعي ضعفهم ورغباتهم وأشواقهم، ومع معرفته بضعفهم فهو يعرف إمكاناتهم ويستطيع بمنهجه الفريد والفطري والناجح أن يرتفع بهم إلى أفق لم يتصوروا وصولهم إليه.. وتجربته ماثلة في التاريخ.

الإسلام الذي عرضه قوة إيجابية، وطاقة بنّاءة، ووسائل مكافئة، ودين واقعي، وتصحيح عميق لأصل الانحراف، ومواجهة جذرية مع الباطل، وموقف مبدئي مع الحق وضد الباطل.

ما عرضه ينهي التشغيب على الحق أو وضعه في موقف الدفاع والتبرير، بل كان يهاجم الباطل ويقض مضاجعه ويقلقه ويجتثه من جذوره في مواجهة لا تنقصها الحقيقة كما لا ينقصها الإيمان بالله تعالى والشعور به والتوكل عليه، بل والشعور بالملأ الأعلى ورفقة الأنبياء والصالحين. إسلام شامل ومنهج كامل وعزيز، منهج يقرر ما يراه صالحًا من القيم والأخلاق والأحكام والأوضاع، ويلغي ما يراه خطأ، ويبني الحياة من جديد ويعيد صياغة النفوس والمجتمعات صياغة خالصة ومتفردة ودون تأثير عليه، مع مرونته واستيعابه لأي مرحلة حضارية من حيث الأدوات المادية.

قرر حقيقة الإسلام بالنصوص لا العرف، وقرر غياب الوجود المؤسسي للإسلام، وعرّى من يعادي الإسلام ومن يجهد في إلغاء وجوده شريعةً وهويةً مع القول باحترامه! وبيّن أن الطواغيت المحليين هم أدوات للصهيونية والصليبية المتحالفة ضد الإسلام، وأنهم قد يصطنعون عداء مع الغرب لقيام بطولة ورَقية زائفة للضحك على الشعوب المقهورة المستذلة لتزداد تمطيا لأعناقها ليركب هؤلاء الطواغيت ويقودوها لحتفها.

تاسع عشر: حقيقة الجهاد في سبيل الله وإيجابيته ودوره التحريري، والفرق بينه وبين الاكراه على العقائد

أوضح رحمه الله بإسهاب وتكرار -لتجلية الأمر وتوضيحه- دور وحقيقة الجهاد في سبيل الله، واللعبة المكررة؛ حيث يقوم أعداء هذا الدين بمهاجمة الاسلام واتهامه أنه دين عدواني وأنه انتشر بحد السيف، وأن الدليل على هذا هو الجهاد في سبيل الله، وأن الجهاد هو أشبه بالهجمات البربرية المتوحشة وشواطىء تقذف جنودًا ينهبون البلاد وخيراتها ويذبحون الشعوب ويجبرونها على تغيير دينها وعقيدتها! وهو كذب مقيت.

والطرف الآخر من اللعبة هو قيام بعض منتسبي هذا الدين، من علمائه ورموزه -بخبث، أو بطيبة وحسن نية- فينفون عن الاسلام هذه الاتهامات -هو أمر صحيح- لكن لا على سبيل بيان الدور الحقيقي للجهاد وإنما على سبيل نفي دور الجهاد وحصره في (الدفاع) عن (حدود) (الأوطان الإسلامية)، كأن الاسلام قد انحصر دوره داخل حدود معينة.

فأوضح رحمه الله دور الجهاد بناء على حقيقة الاسلام، فالاسلام  لو كان عقيدة فقط فالجهاد عندئذ لا يكون الا في إطار الدفاع فحسب، لكن الاسلام (عقيدة ومنهج) (عقيدة تنبثق منها شريعة يقوم على هذه الشريعة نظام ومنهج).

وبالتالي فالإسلام يواجه عقائد مخالفة، كما يواجه أنظمة وأوضاعًا قامت على تلك العقائد وهي حواجز مادية أمام الاسلام، كما أن للإسلام رسالته التحريرية للبشرية وواجب ملقى على أهله أن ينقذوا الخلق من الشرك ومن المصير الذي يقودهم إليه عند لقاء الله تعالى.

ولواقعية الاسلام فإنه يواجه كل عائق بما يكافئه، فالعقيدة لا يجدي معها العنف، فهي تقوم على الإقناع، ولهذا فلا إكراه في الدين، يعني على اعتناق عقيدته.

وأما الأنظمة والأوضاع المخالفة والباطلة والتي تمثل عائقا أمام هذا الدين فتمنع وصوله إلى الناس وتشوه الاسلام وتفتن من أراده، ولهذا فهي تواجَه بالوسائل المادية المكافئة، ولهذا كان الجهاد في سبيل الله تعالى لإزالة تلك العوائق من أجل حرية وصول هذا الدين إلى الناس والأفراد وحرية اعتناقه أورفضه بلا إكراه، لكن في ظل إقامة النظام السياسي والاجتماعي لهذا الدين ليراه الناس مطبقًا بنظامه ومنهجه المتفرد، ثم يترك الخيار للناس في اعتناقه أو عدمه، وقد فرق القرآن بين إعلاء كلمة الله، وهي مجموع ما أنزل تعالى لإقامة منهج الإسلام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي، وبين حرية الايمان والاعتقاد فهذا لا إكراه عليه.

فلا يجب نزع حركة الإسلام التحريرية عنه، كما لا يحصر عمل الإسلام داخل حدود معينة، فمجال عمل الإسلام هو الأرض كلها وموضوعه هو البشرية بجملتها.

عشرون: سماته المتفردة في الظلال

كان من أبرز ما ميزه في (الظلال) هو النظر إلى السورة القرآنية نظرة كلية بحيث يحدد موضوعاتها الرئيسية ومحاورها، ويحدد خطوطها وشخصيتها وجوها وإيقاعها ومشاهدها وألوانها وصورها، وعلاقة هذا الجو والإيقاع والشخصية بالموضوعات والمحاور التي تتناولها. كما تناول خصائص القرآن المكي وقضاياه العقدية وتناوله المتنوع لقضايا العقيدة تناولاً يجعله كل مرة جديدًا، كأنه أول مرة يطرقه، فخاطب الفطرة في حقيقتها ومعرفتها بربها من وراء ركام العقائد الزائفة والأوضاع المنحرفة والمظالم المتراكبة، فاستنقذها وعرفت ربها، وسما بها إلى أفق وضيء عظيم لم تحلم أن تصل إليه.

كما عرض العقيدة في التاريخ البشري ومصارع الأمم الغابرة، كما عرضه في ضعف النفوس في ظلمات الحاجة والاضطرار وهي عارية ضعيفة لا حول لها ولا قوة..كما عرضها في مشاهد الآخرة وأهوالها.

كما عرض للقرآن المدني وتفصيلات أحكامه وملامح النظام الذي يستهدف الإسلام إقامته.

ثم أوضح من خلال (الظلال) المفاهيم العقدية لحقيقة الإسلام، والحركة بهذا الدين، وطبيعة الصراع بين الحق والباطل، ومستوى الإيمان الشفيف والسامق الذي سار عليه موكب الإيمان ورموزه عبر التاريخ.

كما تناول تفاصيل الأحكام التي جاء بها القرآن من حيث دلالته على المنهج الرباني والنظام الإسلامي كسِمات وخصائص.

كما تناول تعامل القرآن مع النفس البشرية ودروبها ومساربها والتواءاتها، وضعفها وطوحها وسموها، وكيف يسمو بها ويربيها وهو يعترف بضعفها كما يعترف بقوتها وإيجابياتها، والتأكيد على عدم تقديس الضعف بل هو لحظة يُعترف بها لا لتمجد بل للخروج منها إلى الخير الذي هو بدوره أصيل في النفس البشرية.

كانت ظلاله رحمه الله تتسم بخاصيتين متلازمتين: الأولى: العمق العلمي والقضايا الجادة التي استهدف بيانها، والثانية: الروح الإيمانية العميقة؛ فما قرأه قارىء إلا ازداد إيمانًا ويقينًا ودمعت عيناه، كما يتعلم ويستوعب قضايا مصيرية وحقائق هذا الدين وحركته عبر التاريخ وعبر النفوس البشرية.. هذا مع الأسلوب المتميز والتعبير الموحي والرائق.

واحد وعشرون: الفرق ما بين أوضحه وعاشه ومات من أجله، وبين ما يلتقطه البطّالون

هذا بعض مما قرره وعاش من أجله.. فتركوا هذه الدرر الثمينة وهذا البيان المتزن لدين الله تعالى القويم، وذهبوا ليلتقطوا كلمة تحتمل أو تعبيرًا يفصلونه عن سياقه وعن بقية كتاباته ويضعون تحته آلاف الخطوط ويوجهون تهمًا وصلت لحد الإسفاف، ليهربوا من الحقيقة الماثلة التي لا يتحملون بيانها لأنها تحتاج إلى رجال، ولأنهم قد يخسرون دنياهم أو شهواتها القذرة ثمنًا لها.

كل من تكلم في تكفيره للمجتمعات أو عدم تكفيره لم يقتربوا من هذه الحقائق الضخمة التي ضاعت في زحمة الاتهامات الباطلة والدفاع عن الاتهامات.

هناك قضية يا أفاضل، هناك صرخة يا سادة، هناك دين محارَب وأمة ضائعة وشعوب تُذبح أو تجهز للذبح!! خلاصُها في هذا الحق فهلّا حملتموه؟ ألا بعض من جدية؟ ألا بعض من صدق؟ ألا نترك الدجل واللف والدوران، بينما الشهداء يتساقطون والمخططات تمر في الأمة مرور السكين في الجبن لا يوقفها إلا قلة استيقظت.

قطب لم يكفر المسلمين، قطب لم يكفر الأمة، بل حمل همّ الأمة وآلامها في قلبه، وقرر مفاهيم الإسلام الصافية لاستئناف الحياة على وفق هذا الدين الرباني، أمانة الله وكلمته ونجاة البشرية ورسالة المسلمين.

نعلم أن هذا الصفاء والوضوح لا يعجب فقهاء الميتة ولحى النصابين وشيوخ المخابرات، لكن في الأمة خير كثير وصادقون كثُر نأمل فيهم الخير والجدية.

كان يبحث عن الفئة التي تعزم العزمة وتمضي في الطريق وتعقد البيعة مع رب العالمين، وقد مضى الرجل موفياً -فيما نحسب- بما قاله وما اعتقده وما دعا إليه، فاتركوا بنيات الطريق وعليكم بالجادة. وليكونن لهذا الحق شأن وإنه ما زال يحدد المسار ويهدي السائرين ويدل على الطريق.. وتعانقه القلوب، وما اقترب منه قلب صادق إلا التقطه وعرفه، ما زال الناس ينهلون من هذا البيان ويميزون بينه وبين المموهين والمدجلين برغم حملات التشويه البشعة والضخمة، والتي تخدم الحق من حيث لا تدري!! والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. وأخيرًا.. الخاتمة

وتبقى الشهادة

سيد قطب.. عندما تتكلم الشهادة

تكلم قطب رحمه الله عن الشهادة قبل أن يؤديها لربه تعالى ثم لأمته..

فللشهادة معانٍ وغايات، والشهادة تؤدي وظيفة في مسيرة هذا الدين وفي حياة هذه الأمة.. وفي الملأ الأعلى..

الشهادة جزء من حركة الحياة وجزء أصيل من تكوين هذا الكون.

حدث في الملأ الأعلى أن قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، وأنهم استفهموا عن كون أن يكون الخليفة يفسد ويسفك، فكان الجواب أن في علم الغيب من الغايات الحميدة ما لا يعلمونه الآن، وقد كانت الشهادة في سبيل الله بأن يقدم هذا الخليفة روحه ودمه لربه راضيًا، محارباً لمسخوطات ربه تعالى وحملاً لمنهجه وأمره، كانت هذه الشهادة بعض الإجابة العملية على سؤالهم، حتى إذا رأوها علموا بعض مرامي حكمة رب العالمين.

الشهادة توقيع عن عقيدة وموقف، توقيع بدم وروح وحياة..

الشهادة صدق عميق فلا تدع مجالاً لكذب النفس أو التوائها أو أن تعاهد فتغدر أو تفجر أو تتأخر أو تتقاعس أو تتلكأ أو تتردد..

الشهادة لحظة اختيار حاسم بين غيب وشهادة بين سماء وأرض بين خلود وفناء.

الشهادة صلة بمن له الوجود الأزلي والأبدي، ليخلد ذلك المخلوق الفاني بارتباطه بربه تعالى. الشهادة طيبة عميقة وغريبة، شخص يحمل قضية ودعوة فلا يكتفي بها لنفسه بل يريدها للخلق كلهم، ثم ينفر المدعوون الشاردون عن الحق وعما يصلحهم، فيقدم الشهيد دعوته إليهم، ثم يقدم عمره كله لإيصال ذلك الخير، فما أحسن أثره على الناس وما أسوأ أثر الناس عليه.

لم يذكر ربك تعالى أن أحدًا يدعو قومه في حياته وبعد مماته إلا الشهيد، فصاحب يس دعا لربه في حياته {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس، من الآية:20]، ثم بعد أن قتلوه ونال الشهادة لم يجد في قلبه حقدًا، بل وجد رغبة في إيصال الخير إليهم، لم يستطع هو إيصالها بنفسه لبعد الديار! لكن أوصلها ربك تعالى، فقال بعد الشهادة {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ . بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26-27].

ولما استشهد بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لهم نفس الشعور الكريم، روى البخاري قال: قَالَ أَنَسٌ: “أُنزِلَ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ: «بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ»”.

ثم نزل القرآن الناسخ الذي يُتلى إلى اليوم عندما وجدوا كرامة الله تعالى لم تضق صدورهم أن ينالها من لم يزل في الحياة بل استبشروا لهم وتمنوا لهم الخير {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169-171].

إنهم ينتظرون إخوانهم ويتمنون لهم الخير، طيبة عميقة تحتاج النفوس اليوم أن تتدرب عليها. الشهادة أثر باق وانفعال متبادل وفعل مؤثر دائم.

الشهادة طاقة تتفجر كل حين.

الشهادة كلمة ثقيلة لا تستطيع الأفواه الكاذبة ولا الإعلام المضلل أن يمحوها.

الشهادة بقتل أولياء الله تعالى توجب غضب الرب وانتقامه فإن الله تعالى ذكر من ضمن حكمة المحن والشهادة {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140-141]، قال ابن القيم أنهم بقتلهم أولياءه تعالى يستحقون غضبه فيمحقهم.

وقال عن المؤمن في سورة يس بعد دخوله الجنة وهناءته فيها؛ أنه وإن تنعم لكن غضب الله تعالى على قاتليه فقال تعالى بعده: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:28-29] فكأن الشهادة استعجال لخطو السماء، واستعجال لفصل القضاء، واستمطار لرحمة الله بالمؤمنين المستضعفين، واستنزال لعقوبته تعالى على المعرضين المحادّين لهذا الدين.

الشهادة كلمة صاخبة جدًا في هدوء شديد، وهادئة بين الصخب؛ حيث صخب النفوس وصراعها على نصيبها من هذه الحياة وتنافسها، فيتقدم الشهيد في هدوء شديد، كأنه يقول: فيم تتقاتلون؟! فيقدم تلك الحياة زهيدة رخيصة عن رضى وطواعية، مشترياً الآخرة والجنة، فتصل رسالة شديدة القرع على النفوس عالية الصخب على القلوب، فتظل تتساءل، حتى ولو هربت من السؤال، لكنه يظل يطاردها لماذا تخلى عن شيء نتنافس نحن ونحلم ببعضه؟ هل ثمة ما هو أغلى قد ذهب إليه واختاره؟

الشهادة صفقة يشتري الآخرة بما فيها ويبيع تلك الدنيا، صفقة يشتري الغيب ويبيع الشهادة. الشهادة قد تكون تتويجًا لعمر وجهد وعمل دؤوب، وقد تكون مكافأة لخبيئة خير في قلب طيب مخلص شفاف، أو لخبيئة خير يجازى أن يغسل صاحبها من ذنوبه بدمه.. لا تنسَ فالشهادة درجات.

الشهادة ليست نهاية فرد ولا نهاية قصة حياة بل هي طاقة جبارة وقوة ايجابية لتعديل مسار الحياة، وقرع صاخب للدلالة على الحق، وإزعاج داوٍ للباطل، وإسقاط عميق له، وإفقاد لشرعيته، وهزيمة لانتفاشته.

الشهادة انبلاج لصبح جديد، يرفع ستاره أطيب الخلق وخيرهم والفئة المصطفاة والمختارة، اتخذها الله شهداء لنفسه ولغيبه ولطريقه ومنهجه، يضعون بصمتهم فتحتفظ بها الحياة في حناياها والنفوس في ثناياها.

تبقى الشهادة ضمن قوله تعالى للملائكة {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.

هذه الشهادة بالموت، وتبقى شهادة أخرى برحلة الحياة ذاتها واختيار الإنسان فيها لدين الله ومنهجه؛ يحيا من أجله لحظة بلحظة، ويعمل من أجله لحظة بلحظة، بل بكل قطرة من دمه؛ قطرةً قطرة، فيحيا شهيدا بحياته ذاتها، سواء توّجت حياته بقتل في سبيل الله أو بقي وفيا صادقا لآخر عمره حيث تسبّح أنفاسه، قال الحواريون: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة من الآية:83]، وهي نوع آخر من الشهادة أشار إليها الأستاذ الشهيد رحمه الله.

قال رحمه الله: “تبقى كلماتنا عرائس من الشموع، فإذا رويناها بدمائنا دبت فيها الحياة”. بقيت كلماته وكلمات إخوانه من الشهداء حية صاخبة تزعج الباطل وتنير الطريق وتهز النفوس وتقرع الأسماع وتوصل الخير والحق إلى ما شاء الله.. عندما تتكلم الشهادة.

المصدر

موقع طريق الإسلام.

اقرأ أيضا

قضايا سيد قطب التي تبناها، وعاش واستشهد ثمنًا لها (1)

لماذا أُحِبُّ سيد قطب؟

أهمية العقيدة في ظلال القرآن

من سيد قطب الى سفر الحوالي .. “المسلمون والحضارة الغربية” (2) قراءة في المقدمة

العقيدة الإسلامية عقيدة ينبثق عنها نظام

الإيمان بالله وقضية الشريعة

التعليقات غير متاحة