وقوع الشدائد والكروب سنة في هذه الحياة الدنيا، وانجلاؤها سنة أخرى، ولا بد من فقه جريان السنن وصحة التفكير واستقامة التناول بروح مختلفة.

مقدمة

في هذه الآية خير عظيم، إذ فيها البشارة لأهل الإيمان بأن للكَرب نهاية مهما طال أمده، وأن الظُلمة تحمل في أحشائها الفجر المنتظر.

وتلك الحالة من التعاقب بين الأطوار والأوضاع المختلفة تنسجم مع الأحوال النفسية والمادية لبني البشر، والتي تتأرجح بين النجاح والانكسار والإقبال والإدبار، كما تنسجم مع صنوف الابتلاء الذي هو شرعة الحياة وميسمها العام.

وقد بثَّتْ هذه الآية الأمل في نفوس الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ حيث رأوا في تكرارها توكيداً لموعود الله، عز وجل، بتحسن الأحوال، فقال ابن مسعود: «لو كان العسر في جُحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه».

وذكر بعض أهل اللغة أن (العسر) معرّف بأل، و (يسراً) منكَّر، وأن العرب إذا أعادت ذكر المعرفة كانت عين الأولى، وإذا أعادت النكرة فكانت الثانية غير الأولى (1انظر البحر المحيط 8/ 488)، وخرَّجوا على هذا قول ابن عباس: «لن يغلب عسرٌ يسرين». (2السابق، وبعض المحدثين يرفعه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم)

تطمين ذوي الكُربة

وفي الآية إشارة بديعة إلى اجتنان الفرَج في الشدة والكُربة مع أن الظاهر أن الرخاء لا يزامن الشدة، وإنما يعقبها، وذلك لتطمين ذوي العسرة وتبشيرهم بقرب انجلاء الكرب.

ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى الاستبشار بهذه الآية حيث يرى المسلمون الكثير من صنوف الإحباطات والهزائم وألوان القهر والنكد؛ مما أدى إلى سيادة روح التشاؤم واليأس، وصار الكثيرون يشعرون بانقطاع الحيلة والاستسلام للظروف والمتغيرات. وأفرز هذا الوضع مقولات يمكن أن نسميها بـ “أدبيات الطريق المسدود”..! هذه الأدبيات تتمثل بالشكوى الدائبة من كل شيء، من خذلان الأصدقاء، ومن تآمر الأعداء. من تركة الآباء والأجداد، ومن تصرفات الأبناء والأحفاد..!

وهؤلاء المتأزمون يسلطون أشعة النقد دائماً نحو الخارج؛ فهم في ذات أنفسهم على ما يرام، وغيرهم هو الذي يفعل كل ما يحدث لهم! وإذا رأوا من يتجه إلى الصيغ العملية بعيداً عن الرسم في الفراغ أطفؤوا حماسته بالقول: “لن يدعوك تعمل”، و”لن يدعوك تربي”، و”لن يدعوك تمسي عملاقاً”، و”لن يدعوك…”

وكل ذلك يفضي إلى متحارجة (كذا) تنطق بالصيرورة إلى العطالة والبطالة، إلى أن يأتي المهدي، فيكونون من أنصاره أو يُحدث الله تعالى لهم من أمره فرجاً ومخرجاً..!

أسباب الحالة البائسة

ولعلنا نلخص الأسباب الدافعة إلى تلك الحالة البائسة فيما يلي:

التربية الخاصة الأولى التي يخضع لها الفرد

وتلك التربية قد تقوم ببث روح التشاؤم واليأس من صلاح الزمان وأهله، كما تقوم ببث نوع من العداء بينه وبين البيئة التي ينتمي إليها؛ فإذا ما قطع أسبابه بها وانعزل شعورياً بحث عن نوع من الانتماء الخاص إلى أسرة أو بلدة أو جماعة حتى ينفي عنه الشعور بالاغتراب. لكن يكتشف أن ما كان يعتقد فيه المثالية، ويتشوق إلى تحقيق أماله من خلاله لا يختلف عن غيره كثيراً، مما يورثه الإحباط واليأس؛ حيث يفقد الثقة بكل ما حوله وتكون النتيجة التبرم والتأفف من كل شيء وردود الأفعال السلبية تجاه التحديات المختلفة.

التعامل مع الواقع على أنه كتلة صلدة

يميل أكثر الناس إلى النظرة التبسيطية التي لا ترى لكل ظاهرة إلا سبباً واحداً، ولا ترى في تركيبها إلا عنصراً واحداً.

وهذه النظرة الخاطئة تفضي إلى معضلة منهجية كبرى، هي عدم القدرة على تقسيم المشكلة موضع المعاناة إلى أجزاء رئيسية وأخرى ثانوية، كما تؤدي إلى عدم القدرة على إدراك علاقات السيطرة في الظاهرة الواحدة، وعدم القدرة بالتالي على تغييرها أو تبديل مواقعها.

والنتيجة النهائية هي الوقوف مشدوهين أمام مشكلة متكلسة مستبهمة لا نرى لها بداية ولا نهاية، والمحصلة النهائية هي الاستسلام للضغوط وانتظار المفاجآت، مع أننا لو باشرنا العمل الممكن اليوم لصار ما هو مستحيل اليوم ممكنا غداً.

عدم الانتباه للعوامل الداخلية للمشكلة

يندر أن نرى اليوم ظاهرة كبرى لا تخضع في وجودها واشتدادها واتجاهها لعدد من العوامل الداخلية والخارجية، ويظل العامل الخارجي محدود التأثير ما لم يستطع إزاحة أحد العوامل الداخلية والحلول محله.

ونستطيع أن نطبق ذلك على أية مشكلة كبرى نواجهها اليوم. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة الباهرة حين قال: ﴿وإن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً﴾ [آل عمران 120].

والذي يحدث أننا كثيراً ما نبصر المؤثرات الخارجية ـ وهي مؤثرات قاهرة حقاً ـ ونغض الطرف عن العوامل الداخلية؛ فنحن مثلاً لا نملك إقناع الأعداء بأن يخففوا من غلوائهم في عدائنا، كما لا يملك بنو البشر جميعاً أن يمنعوا الثلوج من التساقط؛ لكن الذي نستطيعه هو تقوية أنفسنا حتى لا نكون لقمة سائغة، كما يفعل الناس في مواجهة ظروف المناخ.

لكن المشكلة أن أصعب أنواع المواجهات هي مواجهة الذات، وأن أرقى أنواع الاكتشاف هي اكتشاف الذات..!

عدم إدراك حركة الجدل بين الأحوال

تتعاقب الأحوال كما يتعاقب الليل والنهار، وما بعد رأس القمة إلا السفح وما بعد السفح إلا القاع. وإن دفع أية قضية إلى حدودها القصوى سيؤدي في النهاية إلى كسر ثورتها أو إنهائها بصورة تامة. وحين تصل تجربة أو نظرية أو منهج إلى طريق مسدود فإن الناس لن يتلبثوا إلا قليلاً حتى يجدوا المخرج الذي قد يكون مناسباً، وقد لا يكون.

وهنا يأتي دور الثلاثي النكد من “الأذكياء” و”العملاء” و”البلهاء” الذين يحاولون ـ على اختلاف القصود – عدم وصول أي مشكلة إلى مرحلة الانفجار حتى تظل مستمرة إلى ما لا نهاية..! والمشكلات في عالمنا الإسلامي لم تدُم تلك القرون المتطاولة إلا نتيجة الهندسة الإخراجية لذلك الثلاثي..!!

وهنا يأتي أيضاً دور المفكرين الذين يمتلكون رؤية نقدية شاملة ينقلون من خلالها مشكلات مجتمعاتهم إلى حس الناس وأعصابهم حتى لا يتكيف الناس معها سلبياً، وحتى يتاح بالتالي تجاوزها.

خاتمة

إذن إن حقيقة أن مع العسر يسرا يكتنفه ويحوطه؛ بل يسرين؛ هي حقيقة ربانية ولها مظهرها المجتمعي وطرق الحصول عليها والفوز بها من خلال صحة التناول وجدية المأخذ، ومعرفة السنن وابتكار الحلول.

﴿فإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً * إنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً﴾، وإن النصر مع الصبر وإن الفرج مع الكرب، وإن في رحم كل ضائقة أجنّة انفراجها ومفتاح حلهّا، وإن لجميع ما نعانيه من أزمات حلولاً مناسبة إذا ما توفر لها عقل المهندس ومبضع الجراح وحرقة الوالدة.. وعلى الله قصد السبيل.

__________

هوامش:

  1. انظر البحر المحيط 8/ 488.
  2. السابق، وبعض المحدثين يرفعه إلى النبي، صلى الله عليه وسلم.

المصدر:

  • د. عبد الكريم بكار، مجلة البيان العدد 60.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة