أوقات قليلة يقضيها المسلم في ذكر أو قراءة قرآن أو تعلم العلم أو موعظة صالحة؛ تبلغ به أجرا فوق ما يرجو، وترفعه درجات يحمدها يوم يلقى الله تعالى.
مقدمة
خص الله تعالى هذه الأمة بفضائل ومنن، وفتح لهم أبواب الخير والتعبد والتقرب اليه، بعمل قليل وأجر عظيم ودرجات يَسبقون اليها. فبقي مدار الأمر على العزائم؛ ولهذا نذكر هنا بمثال لتلك الفضائل.
غنائم الأجر والثواب في ديننا كثيرة جدًّا وهذا من فضل الله على هذه الأمة المرحومة.
ومن هذه الغنائم القليلة الجهد العظيمة الأجر الأوقاتُ التي رتب الشرع على اغتنامها الأجر الكبير؛ كوقت ما بعد صلاة الفجر حتى شروق الشمس وارتفاعها.. وخصوصًا مع إغلاق الحج والعمرة لهذا العام (1441هـ).
فضائل جلسة الإشراق
فعن أبي أمامة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: «من صلى الصُّبْحَ في مسجد جماعةٍ، ثم مَكَثَ حتى يُسبِّحَ تَسْبيحة الضُّحى، كان له كأجر حاجٍّ ومُعتمِرٍ تامٍّ له حَجَّتُه وعُمْرتُه». (1أخرجه الطبراني في الكبير (7649، 7663) من طريق الأحوص بن حكيم عن أبي عامر عبد الله بن غابِر الأَلْهاني، وقرن في الموضع الأول عُتْبة بن عبدٍ بأبي أمامة)
والأحوص بن حكيم مختلف فيه، إلا أنه ممن يكتب حديثه؛ قال الدارقطني: “يعتبر به إذا حدث عنه ثقة”. اهـ، وقد حدّث عنه في هذا الحديث مروان بن معاوية الفزاري وهو ثقة. وقال أبو أحمد بن عدي ـ عن الأحوص ـ: له روايات وهو ممن يُكتب حديثه وقد حدّث عنه جماعة من الثقات وليس فيما يرويه شيء منكر إلا أنه يأتى بأسانيد لايتابع عليها. اهـ
والأحوص لم ينفرد برواية هذا الحديث؛ بل قد توبع؛ فالحديث له طريق آخر عن أبي أمامة من حديث عثمان بن عبد الرحمن عن موسى بن يحيى عن الحارث عن القاسم عن أبي أمامة رضي الله عنـه قال: قال رسول الله صـلى الله عليه وسلم: «من صلى صلاة الغداة في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم قام فركع ركعتين انقلب بأجر حجة وعمرة». (2رواه الطبراني في الكبير (7741) وفي مسند الشاميين (885)، وسنده لا بأس به في الشواهد والمتابعات إلا موسى بن يحيى فهو مجهول، ولكن يبدو أنَّ بعض المتقدمين قد عرفه ولذلك قال الهيثمي -في المجمع (16938)-: رواه الطبراني وإسناده جيد. اهـ ومثله قال المنذري كما في صحيح الترغيب (467)، ولذلك قال الألباني: حسن صحيح. اهـ والله أعلم)
والحديث مروي عن جماعة من الصحابة غير أبي أمامة رضي الله عنـه؛ إلا أنَّ أسانيدها لا تخلوا من مقال، ومن أقواها حديث الفضل بن موفق قال ثنا مالك بن مغول عن نافع عن عبد الله بن عمر قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا صلى الفَجْرَ، لم يَقُمْ من مجلِسه حتى تُمكِنَه الصلاة ُ، وقال: «مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ جَلَسَ فِي مَجْلِسِهِ حَتَّى تُمْكِنَهُ الصَّلَاةُ، كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ عمْرَةٍ وَحَجَّةٍ مُتَقَبَّلَتَيْنِ». (3عند الطبراني في الأوسط (5602) وغيره)
وفيه الفضل بن الـمُوفَّق؛ قال أبو حاتم: كان شيخًا صالحًا، ضعيف الحديث. اهـ وقد روى عنه أحمد بن حنبل.. والموفق مقبول في عموم الشواهد والمتابعات؛ إلا أنَّ تفرده هنا عن المشهورين يضعف قيمة روايته، وفيما تقدم كفاية، والله أعلم.
وأمَّا عن السنة العملية فقد كان اغتنام هذا الوقت في أذكار الصباح وغيرها معروفًا عن النبي صلـى الله عليه وسلم؛ فعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: «أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ كَثِيرًا، كَانَ لَا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ الصُّبْحَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ…» الحديث. (4رواه مسلم (2322))
وفي رواية: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى الْفَجْرَ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسَنًاء. (5رواها مسلم (670))
وقد كان هذا دأب الصحابة رضي الله عنهـم؛ فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْقَوْمِ وَهُمْ فِي الصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ فَدَخَلَ مَعَهُمْ، ثُمَّ جَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ، فَلَمَّا أَضْحَى قَامَ فَقَضَاهُمَا. (6رواه ابن أبي شيبة (6445) بإسناد صحيح)
وعن ابْن الْمُبَارَكِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ لِلرَّجُلِ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ أَنْ لاَ يَطْعَمَ طَعَامًا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَيُصَلِّى لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ رَكْعَتَيْنِ. (7رواه البيهقي (3153) وسنده صحيح)، وزاد البيهقي عقبه: “وَرُوِّينَا عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَمَا يَتَكَلَّمُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ. وَإِنَّمَا أَرَادَ فِيمَا لاَ يَعْنِيهُمْ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ”.
وليس من شرط حصول هذا الثواب صلاة الركعتين في المسجد، بل لو صلَّاها في البيت أو في أي موضع آخر حصل له أجر الحجة والعمرة، لكن لا بدَّ أن يكون ذلك في وقت صلاة الضحى وهو من طلوع الشمس قيد رمح إلى زوالها.
وقد وصف النبي، صـلى الله عليه وسلم، الغافلين عن التسبيح عند طلوع الشمس والاستقلال عن الأفق بالأغبياء؛ عن عمرو بن عبسة عن رسول الله صـلى الله عليه وسلم قال: «ما تستقل الشمس فيبقى شيء من خلق الله إلا سبَّح الله إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بنى آدم». (8رواه الطبراني في مسند الشاميين (960) وغيره وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5599))
قال المناوي: «ما تستقل الشمس»: أي ترتفع وتتعالى.اهـ (9فيض القدير (5/ 557))
وقال الصنعاني: «ما تستقل الشمس»: ترتفع وتتعالى، وكأن المراد قدْر الرمح، فإنه الوقت الذي تزول فيه الكراهة. اهـ (10التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 376))
وقال أيضًا: «فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله»: مأخوذ من الآية ـ ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الإسراء: 44] وفي هذه الساعة تكون صلاة الإشراق.ا.هـ (11التنوير (3/ 336))
وصلاة الإشراق هي صلاة الضحى كما قال ابن زيد في قوله تعالى: ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ﴾: حين تشرق الشمس وتضحى. (12رواه الطبري بسند حسن عنه (21/ 168))
وقال قتادة: يسبحن مع داود إذا سبح بالعشي والإشراق. (13رواه الطبري بسند صحيح)
وقال رسول الله صـلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأسرع كرة وأعظم غنيمة من هذا البعث؟ رجل توضأ في بيته فأحسن وضوءه، ثم تحمل إلى المسجد فصلى فيه الغداة، ثم عقب بصلاة الضحى، فقد أسرع الكرة وأعظم الغنيمة». (14رواه أبو يعلى (6473) وابن جبان (2527) بإسناد حسن. وقال المنذري في الترغيب: رجال إسناده رجال الصحيح. وجود إسناده الألباني في الصحيحة (2531))
الاشتغال بغير الذكر
وجاء في السنة الاشنغال بأمور أخرى مشروعة مع الذكر؛ ومنها:
تأويل الرؤى
وكان وقت ما بعد صلاة الصبح ـ إضافة إلى الذكر ـ يستمع فيه النبي صـلى الله عليه وسلم للرؤى ويُعبِّرها لهم، لما في هذا الوقت من صفاء الذهن، ولما في الرؤى من بشارات يبدأ بها اليوم؛ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ رضي الله عنـه قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمُ الْبَارِحَةَ رُؤْيَا؟». (15رواه البخاري (1386) ومسلم (2275) واللفظ له)
زاد البخاري:… قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ: «هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟» قُلْنَا: لَا. قَالَ: «لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ…» الحديث.
قال النووي، شارحًا هذا الحديث:
“… وفيه استحباب السؤال عن الرؤيا والمبادرة إلى تأويلها وتعجيلها أول النهار لهذا الحديث، ولأنَّ الذهن جمع قبل أن يتشعب بإشغاله في معايش الدنيا، ولأنَّ عهد الرائي قريب لم يطرأ عليه ما يهوش الرؤيا عليه، ولأنَّه قد يكون فيها ما يستحب تعجيله؛ كالحث على خير أو التحذير من معصية ونحو ذلك، وفيه إباحة الكلام في العلم وتفسير الرؤيا ونحوهما بعد صلاة الصبح.. اهـ (16شرح مسلم (15/ 35))
طلب العلم وتعليمه وتلاوة القرآن
ومما يستحب ـ أيضًا ـ في هذا الوقت المبارك طلب العلم وتعليمه وتلاة القرآن؛ فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ كُلَّ يَوْمٍ إِلَى بُطْحَانَ، أَوْ إِلَى الْعَقِيقِ، فَيَأْتِيَ مِنْهُ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ فِي غَيْرِ إِثْمٍ، وَلَا قَطْعِ رَحِمٍ؟» فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ نُحِبُّ ذَلِكَ. قَالَ: «أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ، أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ». (17رواه مسلم (803))
والغُدوّ: هو أول النهار، وصلاة الغداة: هي صلاة الفجر.
الموعظة والتذكير
كما تشرع المواعظ في هذا التوقيت المبارك فعنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةَ مُوَدِّعٍ، فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا بِدْعَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ». (18رواه الطبراني (623) وغيره وصححه الألباني في الصحيحة (2735))
خاتمة
تلك العبادات والأجور العظيمة بين يديك يمكنك تحصيل الكثير، لكن لشأن في العزائم والتوجهات.. فبإمكانك إيُّها المسلم تحصيل أجر حجة وعمرة تامة كل يوم في هذا الوقت اليسير بفضل الله وكرمه..
………………………
الهوامش:
- أخرجه الطبراني في الكبير (7649، 7663) من طريق الأحوص بن حكيم عن أبي عامر عبد الله بن غابِر الأَلْهاني، وقرن في الموضع الأول عُتْبة بن عبدٍ بأبي أمامة.
- رواه الطبراني في الكبير (7741) وفي مسند الشاميين (885)، وسنده لا بأس به في الشواهد والمتابعات إلا موسى بن يحيى فهو مجهول، ولكن يبدو أنَّ بعض المتقدمين قد عرفه ولذلك قال الهيثمي ـ في المجمع (16938) ـ: رواه الطبراني وإسناده جيد. اهـ ومثله قال المنذري كما في صحيح الترغيب (467)، ولذلك قال الألباني: حسن صحيح. اهـ والله أعلم.
- عند الطبراني في الأوسط (5602) وغيره.
- رواه مسلم (2322).
- رواها مسلم (670).
- رواه ابن أبي شيبة (6445) بإسناد صحيح.
- رواه البيهقي (3153) وسنده صحيح.
- رواه الطبراني في مسند الشاميين (960) وغيره وحسنه الألباني في صحيح الجامع (5599).
- فيض القدير (5/ 557).
- التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 376).
- التنوير (3/ 336).
- رواه الطبري بسند حسن عنه (21/ 168).
- رواه الطبري بسند صحيح.
- رواه أبو يعلى (6473) وابن جبان (2527) بإسناد حسن. وقال المنذري في الترغيب: رجال إسناده رجال الصحيح. وجود إسناده الألباني في الصحيحة (2531).
- رواه البخاري (1386) ومسلم (2275) واللفظ له.
- شرح مسلم (15/ 35).
- رواه مسلم (803).
- رواه الطبراني (623) وغيره وصححه الألباني في الصحيحة (2735).