ادّعاء الصلاح هو شعار المنافقين، وتحريف النصوص بتأويلات باطلة، وإحداث الفتنة بين المؤمنين، هو دأب المنافقين وأبرز أدوراهم.
مقدمة
بعد بيان الجزء الأول لدور النفاق وخطورته، وتحذير الله تعالى منه، ومواجهة رسول الله صلى الله عليه وسلم له، وبيان نفاق الرافضة، وبيان بعض وسائل المنافقين من المؤتمرات الخادعة، وتشويه أهل الخير والصلاح، وإبراز ادعاءات كاذبة، يستكمل هذا الجزء بيان بقية من شعاراتهم وأدوارهم المدمرة.
يرفعون شعار “إنما نحن مصلحون”
إظهارهم لفسادهم بمظهر الإصلاح وإرادة الخير بالأمّة، كما قال الله، عز وجل، عنهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ (البقرة: 11).
يقول سيِّد قطب، رحمه الله تعالى، عن هذه الآية:
“إنَّهم لا يقفون عند حدِّ الكذب والخداع، بل يضيفون إليهما السفه والادعاء:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ﴾ لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد، بل تجاوزوه إلى التبجٌّح والتبرير: ﴿قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾.
والذين يفسدون أشنع الفساد، ويقولون “إنّهم مصلحون”، كثيرون جداً في كلّ زمان، يقولونها لأنَّ الموازين مختلّة في أيديهم.. ومتى اختلّ ميزان الإخلاص والتجرٌّد في النفس اختلّت سائر الموازين والقيم، والذين لا يُخلصون سريرتهم لله يتعذَّر أن يشعروا بفساد أعمالهم؛ لأن ميزان الخير والشرِّ والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربّانية”.
تحريفُ النصوص بتأويلات باطلة
وممَّا يدخل في هذه الصورة من صور الخداع والتلبيس ما يستخدمه منافقوا زماننا من تحريف لنصوص الشريعة، وتأويلات باطلة لها؛ في تسويغ فسادهم ومواقفهم الجائرة.
فهم مع جهلهم بأحوال الشريعة نراهم يخوضون فيها بلا علم، إلاّ ما أُشربوا من أهوائهم فنراهم يسوِّغون الترخٌّص بل التحلٌّل من الشريعة بقواعد التيسير، ورفع الحرج، وتغير الفتوى بتغيٌّر الحال والزمان.. إلى آخر هذه القواعد التي هي حقُّ في ذاتها، لكنَّهم خاضوا فيها بجهل وهوى فاستخدموها في غير محلِّها، فهي حقُّ أُريد بها باطل.
ومع جهلهم بالشريعة وظهور القرائن التي تدلٌّ على خبث طويتهم، إلا أنَّ هناك من ينخدع بهذه الشُبه والتحريفات الباطلة.
ومن عجيب أمر القوم أنَّهم يرفضون الحكم بما أنزل الله، عز وجل، والتحاكم إليه، ولا يذعنون له؛ ومع ذلك نراهم في أحيانٍ قليلة يرجعون إلى بعض الأدلّة الشرعية ليمرِّروا ويبرِّروا من خلال بعضها فسادهم أو مواقفهم الباطلة؛ فما حاجتهم إلى الشرع في هذه المرّة وهم كانوا يكفرون به من قبل؟
إنَّه الهوى والخداع والتلبيس على الناس، قال تعالى في فضح هذا الصنف من النَّاس: ﴿وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (النور: 48 – 50).
فينبغي لكلّ مسلم أن يحْذر من شُبه المنافقين وخداعهم، وأن يقول لهؤلاء الذين يسوِّغون فسادهم بتحريف الأدلّة الشرعية: ادخلوا في السلم كافّة، وحكِّموا في الناس شرع الله عز وجلّ، وارفضوا ما سواه.. أمّا أن تنحٌّوا شرع الله، عز وجل، عن الحكم حتّى إذا كان لكم هوى في تمرير فسادكم بشبهة دليل رجعتم إليه فهذا الذي قاله الله عز وجل عن أهله: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ (البقرة: 85).
فتنةٌ داخل الصفّ الإسلامي
وهذا شأنُ المنافقين في كلّ زمان فعندما تخفق جهودهم في الوقوف في وجه أهل الخير والصلاح، وعندما ينشط الدعاة ويظهر أثرهم في الأمّة..
فإنَّ المنافقين يلجأون إلى وسيلة ماكرة وفتنة شديدة ألا وهي التظاهر بالحماس للدعوة، والدخول في أوساط الدعاة مظهرين التنسٌّك والغيرة على الدين، والحرص على العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى ينخدع بكلامهم المعسول بعض الطيِّبين من الدعاة، فتحصل الثقة بهم، حتى إذا تمكّنوا من مراكز التوجيه والدعوة بدؤوا فتنتهم الكبرى على الدعوة وأهلها مع استمرارهم في إظهار الخير والحماس لهذا الدين، وتسويغ ما يقومون به من الممارسات بالحرص على مصلحة الدعوة وتميٌّزها وصلابتها.
ومن أخطر صور الفتن التي تنشأ من هذا الصنيع ما يلي:
فتنة التفريق وإثارة العداوات بين دعاة الإسلام
وهذه من أعظم فتن المنافقين داخل الصف الإسلامي وفي أوساط الدعوة إلى الله عز وجل، وقد فضح الله عز وجل المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار، وأظهر أهدافهم الخبيثة بقوله سبحانه: ﴿وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ﴾ (التوبة: 107).
قال المفسِّرون لهذه الآية:
“لأنّهم كانوا جميعاً يصلون في مسجد قباء فبنوا مسجد الضرار ليصلِّي فيه بعضهم فيؤدِّي ذلك إلى الخلاف وافتراق الكلمة”.
وهذا الضرب من الفتن لا يحتاج إلى تدليل، فالواقع المرّ شاهد بذلك، ومع أنَّ للافتراق أسباباً كثيرة كالجهل والهوى… إلخ، إلاّ أنَّ أثر المنافقين الذين يدخلون في صفوف الدعاة لا يجوز إغفاله والتهوين من شأنه.
وكون الفُرقة تحصل بين أهل طريقتين مختلفتين في الأصول فإنَّ هذا الأمر واضح ومعقول ومقبول؛ أما أن يفترق أهل الطريقة الواحدة؛ طريقة أهل السنّة والجماعة، وطريقة سلف الأمّة؛ فهذا أمرٌ لا يُعقل ولا يُقبل، ولا يكون إلاّ وهناك يدٌ خبيثةٌ خفية وراء هذا الافتراق فينبغي على الدعاة الحذر من هذه الأيدي والتفتيش عنها وفضحها، وتطهير الصف المسلم منها.
فتنة التخذيل والتشكيك
وهذه أيضاً من أعمال المنافقين المندسين في الصف المسلم، حيث يسعون إلى بثّ فتنة التخذيل، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك بدعاوى وشُبهٍ شرعية خادعة مؤدّاها توهين عزائم الدعاة وإضعاف هممهم، وبثّ الخوف في النفوس من الباطل وأهله، وتهويل قوة الأعداء وخططهم بصورة تبثّ اليأس في النفوس الضعيفة.
فتنة الإيقاع بالدعوة والدعاة
لا تقف مساعي المنافقين في إيصال الشر والأذى للدعوة وأهلها عند حدّ، فمن هذه المساعي الخبيثة التي يقومون بها داخل صفوف الدعاة بعد إظهار الحماس، وبعد كسب الثقة والسماع لأقوالهم، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ (المنافقون: 4).
وتحت ستار الغيرة على الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله عز وجل؛ فإنَّهم يبدؤون في دفع بعض الدعاة إلى مواجهات مع الباطل وأهله، والزجِّ بالدعوة في أعمال خطيرة تفتقد المستند الشرعي من جهة، وتؤدِّي بالدعوة وأهلها إلى الضمور والانكماش من جهة أخرى، إن لم يُقضَ عليها قضاءً مبرماً، وهذا هو ما يريده المنافقون المخادعون الذين قال الله، عز وجل، عن أمثالهم: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ (التوبة: 47).
يقول الإمام البغوي ـ رحمه الله تعالى ـ عند تفسير هذه الآية:
“﴿لَوْ خَرَجُوا﴾ يعني المنافقين ﴿فيكم﴾ أي معكم ﴿مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا﴾ أي: فساداً وشرَّاً، ومعنى الفساد: إيقاعُ الجبن والفشل بين المؤمنين بتهويل الأمر، ﴿وَلأَوْضَعُوا﴾ أسرعوا ﴿خلالَكُم﴾ وسطكم بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة، ونقل الحديث من البعض إلى البعض، وقيل: ﴿وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ﴾ أي: أسرعوا فيما يخلٌّ بكم ﴿يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ﴾ أي: يطلبون لكم ما تفتنون به، يقولون: لقد جُمع لكم كذا وكذا، وإنّكم مهزومون، وسيظهر عليكم عدوّكم ونحو ذلك، وقال الكلبي: يبغونكم الفتنة، يعني: العيب والشر، وقال الضحاك: الفتنة الشرك، ويقال: بغيته الشر والخير أبغيه بُغاءً إذا التمسته له، يعني: بغيت له.
﴿وفيكُم سمَّاعُون لَهُم﴾ قال مجاهد معناه: وفيكم محبٌّون لهم يؤدٌّون إليهم ما يسمعون منكم وهم الجواسيس، وقال قتادة معناه: ﴿وفيكم مطيعون لهم﴾ أي: يسمعون كلامهم ويطيعونهم ﴿والله عليمٌ بالظَّالمين﴾”. (1)
خاتمة
يجب البحث عن الفتنة غير المبررة؛ فإن أصابع النفاق ثّمّ. كما أن خلف الادّعاءت الكاذبة والشعارات المزورة؛ فإنه أيضا ثَمّ.
الإيقاع بالدعاة والدعوة في استعجال مواجهات معلومة العاقبة باستئصال الدعوة وأهلها، هو دور للنفاق يجب الحذر منه، وخلف دخان التشكيك والتخذيل والإرجاف أصابعهم النجسة.
يجب الالتفات الى الأدوار الخفية والظواهر المبالَغ فيها والحذر من العدو المستتر الذي قال تعالى فيه: ﴿هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (المنافقون: 4).
………………………………….
هوامش:
- تفسير البغوي، سورة المنافقون.