لا شك في أن الفتح الإسلامي لبلاد المغرب قد أحدث تغييرا دينيا وسياسيا واجتماعيا، وهو ما عجز عنه الغزو الروماني أو البيزنطي لهذه البلاد؛ وكان ذلك لاختلاف الهدف بين الفريقين، فعلى حين كان المسلمون يتطلعون إلى نشر الدين الإسلامي واستمالة البربر نحوه، وزيادة مساحة الدولة الإسلامية، كان البيزنطيون يهدفون إلى استعباد الشعوب واستغلال ثروات البلاد.

أولا: حسان بن النعمان والقضاء على مقاومة الروم والبربر “73-85هـ/ 693-705”

كان لا بد للخليفة عبد الملك بن مروان من القيام بعمل كبير يمحو به عن المسلمين ما خلفته تلك السنوات الطوال من الجهاد في الجناح الغربي للدولة الإسلامية، ولكنه لم يكن في وضع يسمح له بالعمل الإيجابي في المغرب؛ فقد كان مشغولا بمحاربة منافسة عبد الله بن الزبير “أحد أبطال سبيطلة”. وبعد أن انتهت هذه الأزمة السياسية بمقتل ابن الزبير “سنة 73هـ/ 693م” واجتمع المسلمون على خلافة عبد الملك انصب تفكيره واهتمامه على الإعداد لملحمة جديدة؛ فعهد بولاية المغرب إلى أحد مشاهير قادة الشام، وهو حسان بن النعمان الغساني -الملقب بالشيخ الأمين- “سنة 73هـ/ 692م”، وأمده بجيش بلغت عدته أربعين ألف مقاتل، وأمره بالمقام في مصر، وفوضه في أموال خراجها للإنفاق منه على الفتح.

عودت بعض السيطرة البيزنطية عقب استشهاد زهير بن قيس

أما أحوال “إفريقية” عقب استشهاد زهير بن قيس في الفترة من “69هـ/ 688م” إلى “73هـ/ 692م” -بإيجاز- فقد عادت بعض السيطرة البيزنطية على أجزاء من الساحل الإفريقي، وخاصة في “قرطاجنة”. كما أن قبيلة “أوربة” -البرنسية التي كان كسيلة الأوربي يتزعمها- بدأت في التقهقر عن مركز الصدارة في جبال “الأوراس”، تاركة المجال لقبيلة أخرى شديدة المراس تدعى “جراوة” -من قبائل البربر “البتر”- وتقودها امرأة لقبها العرب بالكاهنة، واسمها “داهيا بنت ماتية”، وكانت على جانب كبير من المهارة والقدرة، وتمكنت من تجميع قبائل جبال “الأوراس” تحت إمرتها، حتى أصبح “جميع من بإفريقية من الروم منها خائفون وجميع البربر لها مطيعون” حسب تعبير المؤرخين.

الجولة الأولى لحسان بن النعمان: النصر ثم الهزيمة

1- خرج حسان بن النعمان من مصر أوائل سنة 74هـ/ 693م” على رأس جيشه، ووصل به إلى “طرابلس”، فانضم إليه من كان هناك من المسلمين، ثم سار إلى “إفريقية” ودخل “القيروان” حيث أعد نفسه للغزو.

وقد اتبع حسان خطة عسكرية جديدة أساسها مقابلة أعدائه من الروم والبربر، كل على حده، حتى يسهل القضاء عليهم. وبدأ بالروم، فاتجه بكل قواته إلى “قرطاجنة”، وهي عاصمة “إفريقية” القديمة، ومصدر المقاومة الثابت، ولم يكن أحد من القادة السابقين قد تمكن من فتحها، فضرب عليها الحصار، وكان بها عدد كبير من الروم، خرجوا عن بكرة أبيهم للقتال مع ملكهم فنصره الله عليهم، وقتل منهم خلقا كثيرا، وفر الباقون في المراكب إلى جزائر البحر وخاصة نحو “صقلية”.

2- وبعد هزيمة القرطاجنيين تصدى حسان بن النعمان لتحالف “بيزنطي/ بربري” جديد. فقد حاول الروم أن ينتقموا من المسلمين لاستيلائهم على “قرطاجنة”، فاجتمعوا في موضع يسمى “صطفورة”، وأمدهم البربر بعسكر عظيم، فزحف إليهم حسان، وقاتلهم حتى هزمهم، وتمخضت المعركة عن عدد كبير من قتلى التحالف البيزنطي البربري، وعلى إثرها فر بمن بقي من الروم إلى مدينة “باجه” خائفين، وتراجع البربر إلى مدينة “بونة”. ثم انصرف حسان إلى مدينة “القيروان” فأقام بها حتى برئت جراح أصحابه.

3- بقي أن يتصدى حسان للتجمع البربري الضخم والشرس في منطقة جبال الأوراس في الداخل، بقيادة “الكاهنة” التي تمكنت -كما ذكرنا- من تجميع قوي البربر ورئاستها لهم بعد مقتل “كسيلة الأوربي”. وكان حسان قد أدرك أن هذا التجمع له خطورة قصوى، ولابد من التصدي له، وأنه إن تمكن من التغلب عليه فقد دان له المغرب كله، وسقطت فيه آخر قاعدة ضخمة للمقاومة، وقد ذكر ابن عذارى هذا المعنى في قوله: “لما دخل حسان القيروان أراح بها أياما، ثم سأل أهلها عمن بقي من أعظم ملوك إفريقية، ليسير إليه فيبيده أو يسلم، فدلوه على امرأة بجبل أوراس يقال لها الكاهنة، وجميع من بإفريقية من الروم منها خائفون، وجميع البربر لها مطيعون، فإن قتلها كان لك المغرب كله، لم يبق لك مضاد ولا معاند”.

ولذلك توجه إليها حسان بجيوشه والتقى معها عند وادي “مسكيانه”. ورغم ما تقوله النصوص التاريخية من أن الجيش الإسلامي كان في أعلى الوادي “أي في مركز استراتيجي جيد”، وأن جموع البربر كانت في أسفله فإن القتال المرير انتهى بهزيمة حسان هزيمة منكرة أدت إلى ضياع كل “إفريقية” وراتداد المسلمين إلى حدود مدينة “قابس” .

ويصف المؤرخون هذا اللقاء بأن الفريقين “اقتتلوا قتالا شديدا، فعظم البلاء، وظن المسلمون أنه الفناء، وانهزم حسان بعد بلاء عظيم، فاتبعته “الكاهنة” بمن معها حتى خرج من حد قابس، فأسلم إفريقية، ومضى على وجهه، وأسرت من أصحابه ثمانية رجال، وقيل: ثمانين رجلا”. وقد سمي الوادي الذي وقعت فيه المعركة بـ “وادي العذارى” لكثرة من قتل فيه من زهرة شباب المسلمين.

وعلى إثر هذه الهزيمة استرد الروم عاصمتهم “قرطاجنة”، وكان استردادهم لها متسما بالقسوة والعنف، فقد أعدوا أسطولا كبيرا بقيادة البطريق يوحنا، وهاجموا المدينة “سنة 78هـ/ 697م”، وتمكنوا من الفتك بالحامية العربية الموجودة فيها، حتى ليقال: إن قائد الحملة كان يباشر قتل المسلمين بيده.

وقد كتب حسان إلى الخليفة بخبر هذه الهزيمة وما ترتب عليها، وكان مما قال: “إن أمم المغرب ليس لها غاية، ولا يقف أحد منها على نهاية، كلما بادت أمة خلفتها أمم، وهي من الحفل والكثرة كسائمة النعم”. فعاد الجواب يأمره أن يقيم حيث وافاه، فورد عليه فيه “برقة”، فأقام بها، وبنى هناك قصورا عرفت بصورة حسان. وهكذا اضطر المسلمون إلى التخلي عن فتوحهم في المغرب للمرة الثالثة خلال عشر سنوات فقط “من 65- إلى 74هـ”، وتطلب الأمر إلى خمس سنوات طوال لاسترجاع البلاد التي سادتها تلك المرأة الكاهنة.

الجولة الثانية: النصر والتمكين النهائي

تأخر وصول المدد من الخليفة لمدة تصل إلى خمس سنوات، وقيل: ثلاث سنوات، وهي مدة طويلة جعلت الكاهنة صاحبة الشأن في تصريف شئون “إفريقية”. وكان مما فعلته -وأجمع عليه المؤرخون القدامى- أنها اتبعت ما يسمى “حرب الأرض المحروقة”، وهي سياسة حربية تقوم على التخريب، وترك الأرض خرابا أمام الخصم حتى لا ينتفع بخيراتها ويزهد في الإقامة بها. وقد درست الكاهنة موقف العرب والمسلمين، وعرفت أنهم عائدون بعد حين كما فعلوا من قبل، فعمدت إلى تخريب المدن والقرى، وهدم الحصون، وحرق أشجار الزيتون والكروم. ويروي المؤرخون قولها للبربر: “إن العرب إنما يطلبون من إفريقية المدائن والذهب والفضة ونحن إنما نريد منها المزارع والمراعي، فلا نرى لك إلا خراب بلاد إفريقية كلها، حتى ييئس منها العرب، فلا يكون لهم رجوع إليها آخر الدهر”.

ولقد أخطأت “الكاهنة” هدفها وظنت أن المسلمين إنما يقدمون للسلب والنهب والاستيلاء على المدن والذهب والفضة كما كان يفعل الغزاة سابقا، ولم تعرف أنهم حملة رسالة، ومبلغي دعوة، ودعاة إلى دين الله تعالى. وقد عجل هذا الفعل منها بالقضاء عليها، وجعل أهل البلاد من الروم خاصة وأتباعهم من الأفارقة يفرون إلى جزائر البحر، بل ويستغيثون بحسان بن النعمان فيما نزل بهم من خراب.

هزيمة الكاهنة وإسلام ولديها

أما بالنسبة لحسان فقد قضى مدة السنوات الخمس يستعد لخوض المعركة الفاصلة ويأخذ لها الأهبة كاملة، واستطاع -من خلال التخابر والاستطلاع- أن يعرف مواطن القوة والضعف في صفوف العدو. وعندما أتم حالة الاستعداد، ووصلته الأمداد من جنود العرب وفرسانهم وممن انضم إليهم من مسلمي البربر سار إلى الكاهنة، والتقى بها مع جيشها، وتمكن من هزيمتها وقتلها، “واقتحم جبال الأوراس عنوة، واستلحم فيه زهاء مائة ألف”.

وكان من ثمرات هذا النصر المبين أن سارع كثير من البربر يطلبون الأمان ويعلنون الإسلام والطاعة، لكن -لما يعرفه حسان من كثرة ارتداد البربر- “لم يقبل أمانهم إلا أن يعطوه من جميع قبائلهم اثني عشر ألفا يكونوا مع العرب مجاهدين، فأجابوه، وأسلموا على يديه”.

ومن الجدير بالذكر أن حسان بن النعمان حينما تحرك بالجيش لمحاربة الكاهنة أدركت أن نهايتها قريبة. وعلى الرغم من أنها لم ترض بالاستسلام ووجدت أن ذلك من العار؛ لأن الملوك لا يستسلمون فإنها رأت أن تأخذ لولديها الأمان، وينضموا إلى جانب حسان. وقد أسلما وحسن إسلامهما، وأصبحا من المجاهدين المسلمين، وعهد حسان إليهما بالقيادة.

هكذا قضى العرب المسلمون على آخر حركة للمقاومة قام بها أهالي البلاد، إذ كانت الكاهنة هي الحصن الأخير الذي احتمى وراءه البربر والروم، فلما سقطت انتهت كل مقاومة، ولم يبق أمام العرب بعد ذلك إلا “غبار قبائل”.

الاستيلاء على قرطاجنة الباب الذي يأتي منه الروم

أما عن “قرطاجنة” التي استعادها الروم “سنة 78هـ” بعد حملة حسان بن النعمان الأولى فقد سار إليها حسان، وطرد منها الحامية الرومية التي استقرت فيها بقيادة البطريق يوحنا، واستولى على المدينة عنوة وقام بتخريبها حتى “صارت كأمس الغابر” كما يقول ابن عذارى. ولم يعد لها بعد ذلك أثر يذكر، غير أن الفرنسيين عندما احتلوا إقليم تونس -في العصر الحديث- أحيوها من جديد في صورة ضاحية لمدينة تونس الحالية، وعرفت باسمها الفرنسي، وهو “قرطاج” وقد أصبحت الآن جزءا من مدينة تونس.

وإذا كان عمرو بن العاص عندما دخل “الإسكندرية” فاتحا -في المرة الثانية- أقسم ليهدمن سورها، فإن حسان بن النعمان قرر أن يتخلص من “قرطاجنة” كلها، وهي الباب الذي يأتي منه الروم، وذلك بسبب تطرفها وصعوبة الدفاع عنها.

أعمال حسان بن النعمان الإصلاحية في المغرب وبداية التحول الفعلي لأهل البلاد إلى الإسلام:

بهذا يكون حسان بن النعمان قد أتم فتح “إفريقية” و”المغرب الأوسط”، ورأى أن عليه -قبل أن يسترسل في إكمال الأعمال العسكرية- أن ينظم هذه البلاد الواسعة التي دانت بعد ما يقرب من ستين “60” عاما منذ بدأ عمرو بن العاص فتحها “سنة 21هـ/ 642م”؛ فقام ببعض الأعمال الإنشائية والإدارية المهمة، كان لها الأثر البعيد في بلاد المغرب، وتثبيت الإسلام فيها إلى آخر الدهر إن شاء الله، فمن ذلك:

1- أنه اهتم بعمران مدينة “القيروان” على نحو تتسع معه لجموع العرب والمسلمين التي سكنتها حتى أصبحت المدينة جديرة بمركزها كعاصمة للبلاد بدلا من “قرطاجنة”، كما أنه جدد مسجدها وأحسن بناءه، وأقام في المدينة يوجه منها شئون البلاد ويدير أحوالها. وقد عمرها المسلمون حتى انتشر فيها العمران، واتسعت رقعتها.

2- ولم يكن حسان مطمئنا من ناحية الروم، وكان يرى أن سقوط “قرطاجنة” وتخريبها لا يمنع من عودتهم إلى مكان آخر من الساحل، فعول على إنشاء ميناء إسلامي جديد على مقربة من “قرطاجنة” ليشرف على البحر، ويحول بين الروم وبين الاقتراب. ومن هنا شرع في بناء مدينة “تونس” “سنة 84هـ/ 703م”، وتزويدها بدار صناعة لبناء الأساطيل.

وعلى الرغم من أن “تونس” لم تزد -عند إنشائها في عهد حسان بن النعمان- عن محرس صغير به بعض المساجد والمباني السكنية ودار صناعة السفن -فإنها ستصبح بعد ذلك بثلاثين سنة في ولاية عبيد الله بن الحبحاب “116-123هـ” ثغر إفريقية الكبير، ويتكون فيها أسطول عظيم يغزو المسلمون به جزيرة “صقلية” وجنوب إيطاليا، بل وجنوبي فرنسا، ويمهدون به السبيل للسيطرة على غرب البحر الأبيض المتوسط.

3- وكان حسان بن النعمان أول من أدخل البربر بشكل منظم في الجيش العربي الإفريقي وحرص على أن يشرك معه نفرا من أهل القبائل في حروبه، وجعل اشتراكهم معه في الحرب شرطا لتأمينهم، أي إنه فرض الخدمة العسكرية على أهل البلاد، جنبا إلى جنب مع العرب. وكانت تلك خطوة موفقة استطاع بها حسان أن يضمن ولاء البربر، وأن يحبب إليهم الإسلام. وإذا كان الغرض من الفتح الإسلامي هو نشر الإسلام والتعريب -وتلك هي رسالة المسلمين- فإن انضمام البربر إلى الجيش العربي، يعني دخولهم في الإسلام.

ولم يكتف حسان بأن يشرك هؤلاء البربر في حروبه ويجعل لهم نصيبا من الغنائم وإنما رتب لهم أعطيات تصرف لهم من بيت المال، وساوى بينهم وبين العرب في هذا العطاء وفي المعاملة، فأحبه البربر، وأخلصوا للدولة، حتى صاروا -فيما بعد- نواة لفتح شبة الجزيرة الإيبيرية “إسبانيا”.

4- اهتم حسان بتعليم البربر القرآن وأصول الإسلام، وعهد بهذه المهمة إلى ثلاثة عشر فقيها من أفاضل التابعين. وبطبيعة الحال كان تعليم القرآن لهؤلاء البربر وغيرهم يعني تعليمهم اللغة العربية، ونشر الأخلاق الإسلامية، واكتسابهم إلى العروبة بصفة نهائية، وبذلك سار التعريب جنبا إلى جنب مع الإسلام منذ البداية.

5- قسم الأراضي خططا للبربر، أي اختص كل قبيلة بخطة تتصرف بها، وتؤدي مالها، وتكون مسئولة عنها.

6- دون الدواوين، أي نظم شئون الحكومة، وعين الموظفين على نواحي الإدارة؛ من خراج، وزكاة، وجند، وما إلى ذلك، واختارهم من ذوي الحزم والحصافة، ومن ذوي الدين والإخلاص والنزاهة.

7- اعتبر أرض المغرب مفتوحة صلحا لا عنوة، فأقر البربر على ما بيدهم من الأرض، ومعنى ذلك أن يؤدوا عنها “الخراج”. أما الأراضي التي كانت ملكا للبيزنطيين ومن قاوم الفتح من الأفارقة فقد اعتبرها حسان مفتوحة عنوة، ولذا اعتبرها من أملاك المسلمين، واعتبر من وجدهم عليها موالي لهم، فكان لهذه الناحية أثر طيب في نفوس البربر.

8- عين القضاة في النواحي المختلفة للفصل في الخصومات، والحكم بين الناس بكتاب الله، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم.

وبهذه التنظيمات الإدارية والمالية التي وضعها حسان بن النعمان دخل تاريخ “إفريقية” الإسلامية في دور جديد، وتحولت إلى قاعدة إسلامية ينطلق منها المسلمون إلى ما يليها غربا. ولهذا يعتبر هذا الفاتح العظيم من أكابر بناة الدولة الإسلامية، والفاتح الحقيقي لبلاد المغرب. وقد استحق -عن جدارة- أن يسمى “الشيخ الأمين”.

ثانيا: ولاية موسى بن نصير، واستقرار الفتح “85-95هـ/ 705-714م”

وبعد سنة واحدة من إنشاء ميناء تونس جاء قرار عزل حسان بن النعمان عن ولاية المغرب في أواخر “سنة 85هـ/ 705م”، أو في أوائل “سنة 86هـ” وعين موسى بن نصير مكانه أميرا على البلاد.

والحق أن حسان بن النعمان -وإن كان قد مهد “إفريقية” و”المغرب الأوسط” -فإن المغرب الأقصى لم يكن قد تمهد أمام المسلمين، وهذا ما وقع على كاهل موسى بن نصير، ولا شك أنه أفاد من تجارب الفاتحين السابقين، وكانت حملاته أشبه بنزهات عسكرية -كما يقال- “لأن الإقليم كان قد عرف من قبل جهاد المسلمين وبأسهم، وحرصهم على تمام الفتح، كما أن عددا من البربر لا يستهان به دخل الإسلام وعرفه، وأن عددا منهم شارك في الجهاد مع حسان بن النعمان كما عرفنا، بالإضافة إلى ما عرف من مهارة موسى بن نصير وحنكته وحبه للجهاد”.

وقد بدأ موسى أعماله الحربية بالقضاء على بقايا جيوب المقاومة في “إفريقية”، فسير كتيبة من خمسمائة فارس إلى قلعة “زغوان” -على مسيرة يوم من القيروان- فتم فتحها، ودخل القيروان من سبيها عشرة آلاف. هذا، في الوقت الذي أرسل فيه “موسى” أبناءه على رأس مجموعات من الجند لإخضاع المناطق المحيطة بالقيروان، وقد نجحوا في تحقيق ما خرجوا من أجله، وكان الهدف من الحملات تأمين الخطوط الخلفية إذا ما خرج “موسى” للجهاد في المغربين: الأوسط والأقصى.

توجه موسى -بعد ذلك- إلى المغرب الأوسط لتوطيد أقدام الفتح فيه، إكمالا لما قام به حسان بن النعمان، وقد “رأى أن البربر قد طمعوا في البلاد” -كما يقول ابن خلدون- حيث بدأت بعض العناصر البربرية من المهيمنين على هذا الإقليم في التحرك، وهم من قبائل “زناتة” و”هوارة” و”كتامة”، يقودهم رجل يدعوى “طامون”. وكان على موسى -لكي يتهيأ له السيطرة التامة على المغرب الأوسط- أن يقضي على قوة هذا الرجل مثلما سبق لحسان أن قضى على الكاهنة من قبل. وبالفعل تمكن موسى من القضاء عليه، وأرسله إلى مصر حيث قتل هنالك.

وقد ظهرت آثار هذا النصر سريعا، فبدأت القبائل -وعلى رأسها “كتامة”- في طلب الأمان، وإرسال الرهائن، دليلا على الدخول في الطاعة وصدق النوايا.

وبذلك تمكن موسى من السيطرة على المغرب الأوسط، وبقي عليه أن ينطلق إلى “المغرب الأقصى”، لقتال القبائل التي ما زالت خارج سيطرة المسلمين. ويبدو أن أخبار موسى وانتصاراته قد وصلت إلى سكان هذا الإقليم فعرفوا أنهم لا طاقة لهم به، فهربوا أمامه، وسهل عليه فتح الإقليم بسرعة واضحة، فمال إلى المدن الكبرى ومواطن التجمعات البربرية، فافتتح “درعة” وصحراء “تافيلالت” في “السوس الأقصى” -أو سجلماسة- وسيطر على قبائل “صنهاجة” و”المصامدة”، وأخضعها كلها للإسلام، فدخلوا فيه طوعا، وولى عليهم واليا.

وبعد أن تم لموسى إخضاع هذه المناطق في جنوب المغرب الأقصى تطلع نحو إقليم طنجة -في الساحل الشمالي الغربي- التي كانت للأمير الرومي “يوليان” منذ أيام عقبة بن نافع ، فنجح في انتزاع “المدينة” وما حولها لأول مرة، وكان “بها من البربر بطون من البتر والبرانس ممن لم يدخل في الطاعة”. وقد ترك موسى على ساحل “طنجة” حامية عسكرية للرباط تتكون من ألف وسبعمائة “1700” رجل من العرب، واثني عشر “12” ألف من البربر، وولى عليهم قائده ومولاه البربري “طارق بن زياد”.

وبذلك تم فتح “المغرب الأقصى” كله، عدا مدينة “سبتة” الساحلية القريبة من “طنجة”، امتنعت على المسلمين لمناعتها، وبقية في يد “يليان” إلى حين.

وقد رأى موسى بن نصير ضرورة تأمين هذا الفتح المجيد عن طريق غزو جزيرة صقلية التي كان من الممكن أن يتخذها اليزنطيون قاعدة لضرب المغرب. ولقد مهد لذلك بالاهتمام بعمران مدينة تونس، وتوسيع دار الصناعة بها، ثم جهز حملة بقيادة “عياش بن أخيل”، فسار بالأسطول إلى جزيرة صقلية، ونزل على مدينة فيها تسمى “سرقوسة”، “فغنمها وجميع ما بها، وقفل سالما غانما”.

وعلى الرغم من أن هذه الغزوة كانت سريعة، وعاد منها المسلمون بمغانم وفيرة، فإنها تعد بداية لنشاط المسلمين الواسع في الحوض الغربي للبحر المتوسط، الذي سيتحول شيئا فشيئا إلى بحيرة إسلامية، وخاصة بعد فتح إسبانيا “الأندلس” -“92هـ/ 711م”- ثم فتح صقلية في أوائل القرن الهجري الثالث، وبالتحديد “سنة 212هـ/ 827م”.

ولم يكتف موسى بالنواحي العسكرية، وإنما بدأ بمهمة أخرى لا تقل أهمية عن جهاده الحربي، وهي تثبيت الإسلام، وتعليم اللغة العربية؛ فقد عهد إلى الدعاة بتعليم البربر القرآن الكريم، وتفقيهم في الدين1. كما أنه حرص على حسن معاملتهم، وأشركهم في حكم البلاد كما فعل حسان بن النعمان، ويتضح ذلك من تولية طارق بن زياد على “طنجة” عاصمة المغرب الأقصى. وسيقود طارق -فيما بعد “92هـ/ 711م”- جيشا كبيرا، جله من البربر، لفتح شبه الجزيرة الإيبيرية “إسبانيا”، وحمل رسالة الإسلام لأول مرة عبر البحر إلى القارة الأوربية من ناحية الغرب، بعد أن فشل المسلمون كثيرا في دخول هذه القارة -عبر القسطنطينية- من الشرق.

من نتائج الفتح الإسلامي للمغرب

ولا شك في أن الفتح الإسلامي لبلاد المغرب قد أحدث تغييرا دينيا وسياسيا واجتماعيا، وهو ما عجز عنه الغزو الروماني أو البيزنطي لهذه البلاد؛ وكان ذلك لاختلاف الهدف بين الفريقين، فعلى حين كان المسلمون يتطلعون إلى نشر الدين الإسلامي واستمالة البربر نحوه، وزيادة مساحة الدولة الإسلامية، كان البيزنطيون يهدفون إلى استعباد الشعوب واستغلال ثروات البلاد.

من أبرز نتائج الفتح الإسلامي لبلاد المغرب

1- انتشار الإسلام بين قبائل البربر، وإرشادهم إلى العقيدة الصحيحة السهلة، ولذا تحمت قبائل البربر للدين الإسلامي، وانضموا تحت لوائه لنشره والدفاع عنه، وتمتع البربر بجميع الحقوق التي كان يتمتع بها سائر المسلمين آنذاك.

2- تصور المجتمع البربري، وتغيرت عاداته وتقاليده بعد الفتح الإسلامي واحتكاك البربر بالفاتحين.

3- بدأت اللغة العربية في الانتشار بين البربر، وساعد على انتشارها كونها لغة الدين الجديد، مما رغب البربر في تعلمها حتى يتفقهوا في الدين، ويتعلموا قواعد الإسلام، فضلا عما كان لتعريف الدواوين على مستوى الدولة الإسلامية في عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان، من أثر في انتشار اللغة العربية في جميع أرجاء الدولة الإسلامية حتى صارت لغة الإدارة الحكومية، فضلا عن كونها لغة الدين والفكر والثقافة الإسلامية.

4- ساهم البربر مساهمة كبيرة في الجيش الإسلامي، وبخاصة عندها فتح العرب ميدانا جديدا كانوا يتحرقون شوقا إلى مثله، وهو ميدان الأندلس لنشر الإسلام، لكان “طارق بن زياد” قائد حملة الفتح من البربر، وكان معظم قادة الجيش منهم.

5- إنشاء عاصمة إسلامية بالمغرب لتكون حاضرة من حواضر نشر الإسلام ألا وهي القيروان.

6- إنشاء عدد من المساجد كان لها دور عظيم في نشر الثقافة الإسلامية، فهي منارات العلم، ومراكز الإشعاع الحضاري.

7- وأخيرا فإن من أبرز النتائج السياسية للفتح: إبراز القوة الإسلامية وتصديها للروم -العدو الدائم للمسلمين- وكسر شوكتهم، وبسط النفوذ الإسلامي، وانحسار سلطان الدولة البيزنطية.

ومن خلال هذه المعطيات يمكن القول: إن الفتح العربي الإسلامي لبلاد المغرب لم يكن فتحا عسكريا، وإنما كان -في المقام الأول- فتحا حضاريا، أثر في الحياة العامة المغربية تأثيرا كبيرا، وحقق لها وحدتها في الدين واللغة.

المصدر

كتاب: “موجز عن الفتوحات الإسلامية”: د طه عبد المقصود عبد الحميد أبو عُبيَّة، صـ79-91.

اقرأ أيضا

مراحل الفتح الإسلامي للمغرب: فتح إفريقية

مراحل الفتح الإسلامي للمغرب: برقة وطرابلس

الفتوحات في الجانب البيزنطي

التعليقات غير متاحة