يقولون: أن من رفض أن يحكم بالشريعة فلا يلزم بها؛ فلا بد أن يختارها ويؤمن بها، وحين لا يكون مؤمنا بها لا يكون ملزما، كما خير الله في هذه الآية نبيه صلى الله عليه وسلم في أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم، ولو كان الحكم ملزما لما حصل اختيار…فهل هذا الفهم صحيح؟
أساس الخلل في كثير من الانحرافات المعاصرة
أستاذ فاضل كان كثيرا ما يكرر على مسمعي هذه الكلمات:
(أساس الخلل في كثير من الانحرافات المعاصرة أنها تعتمد على بعض النصوص وتترك بعضا، فأخذها ببعض النصوص جعلها تظن أنها تعتمد على الشريعة، ولو نظرت في النصوص جميعا لظهر لها الانحراف بشكل جلي).
وما أكثر الوقائع التي جعلتني أتذكر هذه الكلمات! وأكثر شيء شدني فيها أنها تفسر حالة بعض الانحرافات التي تستدل (بصدق) بآيات من القرآن أو بأحاديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يعلم -قطعا- أنه مخالف لأحكام الشريعة، وتأباه قواعدها وأصولها، ولا يقول به فقيه، وهو أحد تطبيقات اتباع المتشابه الذي حذرنا الله تعالى منه في كتابه {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7].
هل من رفض أن يُحكم بالشريعة فلا يُلزم بها؟!!
تذكرت هذه الكلمات مرة أخرى قبل أيام لما رأيت بعض الناس يستشهد بقول الله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42].
يستدل بها على أن من رفض أن يحكم بالشريعة فلا يلزم بها؛ فلا بد أن يختارها ويؤمن بها، وحين لا يكون مؤمنا بها لا يكون ملزما، كما خير الله في هذه الآية نبيه صلى الله عليه وسلم في أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم، ولو كان الحكم ملزما لما حصل اختيار.
صدمت من هذا الاستدلال؛ لأن هذه النتيجة تضرب حكما قطعيا من أحكام الإسلام؛ فكيف استهان أن يضرب هذا الأصل بمجرد فهم عارض طرأ عليه؟!
وحتى لو جهل الباحث عن الحق معنى هذه الآية، فمن العقل والحكمة أن ينظر في النتيجة التي يأخذها من الآية؛ فلا يمكن أن يأتي بها على حالة يراها ممزقة لأحكام وآيات كثيرة؛ فأين هو من قول الله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 48]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65]، ونحو هذه الدلائل القاطعة أن الإسلام حاكم على الجميع، ولا يجوز تجاوزه أو التخيير في حكمه بمجرد أن أحدا أو جماعة لا تريد ذلك.
إذن، ما تفسير قول الله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]؟
لأهل التفسير اتجاهان في تفسير هذه الآية:
الاتجاه الأول: يرى أنها منسوخة بقول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49].
والاتجاه الآخر: يرون أنها غير منسوخة، وأنه لا تعارض بينها وبين قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]؛ لأن المقصود أنه مخير، فإذا حكم وجب الحكم بما أنزل الله1[1] انظر: تفسير الطبري:10/ 325 – 330..
وبناء عليه، يرى بعض الفقهاء أنه يلزم القاضي أن يحكم بينهم إذا ترافعوا إليه2[2] هو مذهب الحنفية، والقول الجديد عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة، انظر: بدائع الصنائع: 2/312، والحاوي: 9/307، والمغني: 10/190.، ويرى آخرون أنه لا يلزم القاضي أن يحكم بين أهل الكتاب حين يأتوه3[3] هو مذهب المالكية، والحنابلة، والقول القديم عند الشافعية، انظر: الذخيرة: 3/458، والمغني: 10/190، والحاوي: 9/307..
جواز تحاكم أهل الكتاب إلى القاضي المسلم فيما لا يلزمهم من أحكام الإسلام
وعلى كلا اتجاهي التفسير، وعلى كلتا الرؤيتين الفقهيتين فالحكم يتعلق بجزئية معينة، هي تحاكم أهل الكتاب إلى القاضي المسلم فيما لا يلزمهم من أحكام الإسلام؛ فالآية لا تتحدث عن (أهل الإسلام) الذين يلزمهم أن يحكموا بالإسلام في كافة قضاياهم، ولا تتحدث عن (أهل الكتاب) فيما يلزمهم من أحكام الإسلام؛ إنما موضوع الآية في بعض الأحكام التي جعلت الشريعة لأهل الكتاب بأن لهم أن يتحاكموا فيها إلى دينهم، فإن اختاروا التحاكم إلى المسلمين، فهل يلزم المسلمين الحكم بينهم؟
هذا هو محل الآية، هو في الحكم بين أهل الكتاب فيما لا يلزمهم، فجاء هذا الاستدلال ليجعله حكما عاما لجميع الناس مسلمهم وكافرهم، ويجعله حكما عاما لكافة القضايا، ولو أدى لعدم الحكم بالإسلام؛ فضرب في أصول الإسلام يمنة ويسرة من حيث يظن أنه يستدل بآية قطعية الثبوت والدلالة! وهي مشكلة قد لا تظهر للقارئ إلا بعد أن ينظر في النصوص كلها، فيتضح له عمق هذا الإشكال ومخالفته القطعية؛ لهذا كان العلماء يوصون بأهمية الرجوع لكلام أهل العلم بكتاب الله قبل الحكم؛ لأنهم ينظرون في النصوص جميعا؛ فلا يقعون في مثل هذه الانحرافات والأخطاء الفادحة.
من محكمات الشريعة المجمع عليها
فهذا الخطأ صدم برأيه المتسرع أمرين محكمين من محكمات الشريعة التي أجمع العلماء عليها:
المحكم الأول:
أن المسلم لا يحـكم في النظام الإسلامي بغير الإسلام أبدا، وحتى لو اختلف مع كتابي فيجب الحكم بينهم بحكم الإسلام، وهو محل وفاق بين العلماء، وفيه ما لا يحصر من نقولات الإجماع؛ فمنها -مثلا-:
- (فأما إذا كان التحاكم بين مسلم وذمي ومعاهد، وجب على الحاكم أن يحكم بينهم قولا واحدا -سواء كان المسلم طالبا أو مطلوبا-؛ لأنهم يتجاذبان إلى الإسلام والكفر، فوجب أن يكون حكم الإسلام أغلب)4[4] الحاوي في فقه الشافعي: 9/308..
- (واتفقوا -فيما أعلم- على أنه إذا ترافع مسلم وكافر أن على القاضي الحكم بينهم)5[5] الذخيرة: 10/112..
- (وإن تحاكم مسلم وذمي وجب الحكم بينهما بغير خلاف؛ لأنه يجب دفع ظلم كل واحد منهما عن صاحبه)6[6] المغني: 10/191..
- (فأما إذا تحاكم إلينا مسلم وذمي، فيجب علينا الحكم بينهما، لا يختلف القول فيه؛ لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة)7[7] تفسير البغوي: 3/59، وانظر: شرح السنة للبغوي: 10/287..
وغيرهم ممن نقل هذا الإجماع المحكم8[8] انظر: تفسير الخازن: 2/55، واللباب في علوم الكتاب لابن عادل الدمشقي: 7/343، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 6/148، وتفسير الجلالين ص144، وفتح القدير: 2/61..
وإذا كان هذا في مسلم مع كتابي؛ فكيف -إذن- إن كان بين مسلمين؟
فليس للمسلم خيار في قبول الشريعة أو رفضها {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، بل إن رفضها يعتبر في النظام الإسلامي جناية تستحق العقوبة وليس المكافأة!
المحكم الثاني:
أن هذا ليس في كل القضايا، بل في بعض القضايا التي تركتها الشريعة لأهل الكتاب، وليس في كل الأحكام؛ فإن (الأمة أجمعت على أن أهل الذمة داخلون تحت سلطان الإسلام، وأن عهود الذمة قضت بإبقائهم على ما تقتضيه مللهم في الشؤون الجارية بين بعضهم مع بعض بما حددت لهم شرائعهم).
فحكم الإسلام شامل بعدله ورحمته وكماله جميع المنضوين تحت سلطانه، غير أنه ترك لغير المسلمين بعض الأحكام، فجعل لهم أن يتحاكموا فيها بينهم؛ لأن حكم الإسلام فيها أنهم غير ملزمين بأحكام المسلمين، وذلك مثل عباداتهم وأنكحتهم ومعاملاتهم وما يستحلونه كشرب الخمر، وأما ما تجاوز ذلك فهم ملزمون فيه بأحكام الإسلام.
وثم اختلاف في فروع المذاهب الفقهية في حدود ما يختص بغير المسلمين فعله مما لا يجوز للمسلمين فعله، سيصل قارئها لنتيجة قطعية ظاهرة هي أن ثم مساحة معينة (بشروطها) فقط هي التي لا يلزمهم فيها حكم الإسلام، وهي التي جرى الخلاف فيها فيما لو جاؤوا، هل يلزم الحكم بينهم؟ لأنها مساحة تركتها الشريعة لهم، ولن يجد أحدا يقول: إنهم مخيرون في أحكام الإسلام كلها، بل هم متفقون على لزوم أحكام الإسلام عليهم في الجملة9[9] انظر في المذاهب الأربعة: بدائع الصنائع: 7/113، والذخيرة للقرافي ص457 – 458 و 326، والحاوي للماوردي: 14/386 – 387، والمغني: 10/190، وعند المفسرين انظر: المحرر الوجيز: 2/226، والجامع لأحكام القرآن: 6/185، والتحرير والتنوير: 6/205 – 206..
خلاصة هذا الكلام كله:
أن حكم الآية خاص بأهل الذمة فقط، وخاص ببعض أقضيتهم، لكن هذا تحول بكل تهاون وعجلة إلى أن يكون شاملا للمسلمين، وشاملا لكل القضايا، من دون أن يتروى قائله قليلا في هذه النتيجة التي تضرب في المحكمات من حيث لا يشعر!
فعجبا؛ كيف يستدل بآية قرآنية ليقع في هذا الخطأ الفادح؟!
وفيه عبر:
1 – ضرورة النظر في النصوص جميعا، وأن الاستدلال بالنص الشرعي لا يكفي ما لم يضم لجميع النصوص في الـباب؛ حتى يتضح مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
2 – ضرورة مراجعة كلام أهل العلم والنظر في أقوالهم وتفسيراتهم؛ فمن الكسل المعرفي والعجز العلمي أن يخوض المسلم في مثل هذه القضايا الكبيرة، وهو خلو الذهن عن الاستفادة من تراث قرون تعاقبت فيها الأذهان والأقلام في التحرير والنظر والتدبر في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
3 – ضرورة صيانة أحكام الشريعة من التفسيرات العاجلة التي يدفعها ضغط واقع معين أو حاجة ماسة ما؛ فيجد المسلم نفسه يتقبل كثيرا من الأقوال والتفسيرات، متخففا من الأصول المنهجية والقواعد العلمية في النظر والاستدلال؛ لأن ثم قوة دافعة تجعله لا يقف عندها كثيرا.
الهوامش
[1] انظر: تفسير الطبري:10/ 325 – 330.
[2] هو مذهب الحنفية، والقول الجديد عند الشافعية، ورواية عند الحنابلة، انظر: بدائع الصنائع: 2/312، والحاوي: 9/307، والمغني: 10/190.
[3] هو مذهب المالكية، والحنابلة، والقول القديم عند الشافعية، انظر: الذخيرة: 3/458، والمغني: 10/190، والحاوي: 9/307.
[4] الحاوي في فقه الشافعي: 9/308.
[5] الذخيرة: 10/112.
[6] المغني: 10/191.
[7] تفسير البغوي: 3/59، وانظر: شرح السنة للبغوي: 10/287.
[8] انظر: تفسير الخازن: 2/55، واللباب في علوم الكتاب لابن عادل الدمشقي: 7/343، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 6/148، وتفسير الجلالين ص144، وفتح القدير: 2/61.
[9] انظر في المذاهب الأربعة: بدائع الصنائع: 7/113، والذخيرة للقرافي ص457 – 458 و 326، والحاوي للماوردي: 14/386 – 387، والمغني: 10/190، وعند المفسرين انظر: المحرر الوجيز: 2/226، والجامع لأحكام القرآن: 6/185، والتحرير والتنوير: 6/205 – 206.
اقرأ أيضا
من أخطر صور الشرك.. شرك الطاعة والاتباع