الذين يفتقدون للحد المقبول من العلم بالسياسة الشرعية والوعي السياسي الواقعي، ويتصدرون للفتوى يأتون بالغرائب والشذوذات، وربما يصطفون هم وأتباعهم عن حسن نية في خندق أكابر المجرمين الذين أعلنوا الحرب على الإسلام وعلمائه ودعاته.

نقد فتيا الشيخ مصطفى بن العدوى المتعلقة بإباحة الإعانة على بناء السجون لنظام السيسي القمعي*

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه أما بعد..

فهذه الفتيا التي بين أيدينا هي مجرد أنموذج من فتاوى أقوام لهم نصيب وافر من العلم بالكتاب والسنة، ولكن يفتقدون للحد المقبول من العلم بالسياسة الشرعية والوعي السياسي الواقعي، لذلك يأتون بالغرائب والشذوذات، وربما يصطفون هم وأتباعهم عن حسن نية في خندق أكابر المجرمين الذين أعلنوا الحرب على الإسلام وعلمائه ودعاته.

سئل الشيخ مصطفى بن العدوي عن حكم عمل مهندس في بناء السجون في بلد فيه ظلم واعتقالات لمظلومين.

فأجاب بأن هذا العمل حلال والإثم على من يسجن الناس ظلما، لأن المساجين أكثرهم أشرار. فعقبت السائلة بأن المسألة تتعلق بالواقع الراهن أو كما قالت.

مناقشة الفتوى التي تجيز المشاركة في بناء سجون الطواغيت

والكلام مع الشيخ مصطفى العدوي في هذا المقام يبنى على معرفة تكييف السجون محل السؤال حتى يقع الحكم على مناطه الحقيقي. فأقول وبالله تعالى أتأيد:

إن سجون النظام المصري داخلة ضمن منظومة حكم لا ديني فاقد للشرعية الدينية والشرعية الدستورية.

النظام المصري فاقد للشرعية الدينية

فأما كونه فاقدا للشرعية الدينية فهذا أوضح من الشمس في نحر الظهيرة. فهو نظام لا ديني قمعي انتحل حق السيادة التي هي خالص حق الله تعالى وحده لا يشاركه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل لذلك فهذا النظام يرفض تطبيق الشريعة ويجرم السعي للتمكين لها ويعاقب على ذلك بالقتل والتعذيب والسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة؛ ويسمى الواجبات الظاهرة المتواترة التي من هذا القبيل إرهابا وتطرفا وتشددا.

بناء السجون يأتي في سياق حرب شاملة ممنهجة على الإسلام والمسلمين

فليست سجونه كسجون ملوك الإسلام الذين كانوا ملتزمين بالشريعة، وفيهم ظلم وجور، يوقعهم في البغي والظلم والعدوان فيسجنون بعض الناس كما فعلوا بأئمة الإسلام. ففي هذه الحالة تكون إعانتهم على بناء السجون منكر عظيم قد لا يصل إلى درجة الكفر لتوارد الشبهة على المحل فإن سجن العلماء في العصور الإسلامية لم يكن لأجل سعيهم لإقامة الشريعة لأن الشريعة كانت مهيمنة على كل مرافق المجتمع والدولة ولكن يشوبها ظلم وجور وانحراف عن شبهة وتأويل.

أما اليوم فالعلماء يسجنون ويقتلون بتهمة السعي لتطبيق الشريعة والسنة والتمكين لدين الإسلام وإفراد الحق سبحانه بالحكم. وما نقمت منهم الصليبية الصهيونية وعملاؤها من الأنظمة العميلة إلا لأجل إيمانهم بالله تعالى حَكَما وبشريعته دستورا، فالتنكيل بهم لأجل دينهم ليس مجرد كبيرة، بل هو حرب معلنة شاملة ممنهجة على الإسلام والمسلمين تسير وفق خطة مدروسة محددة وواضحة.

ويشبه هذه القضية قضية القتل العمد فالأصل عند أهل السنة والجماعة أن القتل كبيرة وليس كفرا، ولكن لو قتله لأجل دينه وسعيه للتمكين لشريعة الإسلام فإن هذا كفر مجرد وليس كبيرة من الكبائر فيجب التفريق بين نوعَيْ القتل: متى يكون كبيرة ومتى يكون كفرا.

وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية هذا التفريق الدقيق فقال عليه رحمة الله تعالى: (أما إذا قتله على دين الإسلام: مثل ما يقاتل النصراني المسلمين على دينهم: فهذا كافر شر من الكافر المعاهد فإن هذا كافر محارب بمنزلة الكفار الذين يقاتلون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهؤلاء مخلدون في جهنم كتخليد غيرهم من الكفار. وأما إذا قتله قتلا محرما؛ لعداوة أو مال أو خصومة ونحو ذلك فهذا من الكبائر؛ ولا يكفر بمجرد ذلك عند أهل السنة والجماعة وإنما يكفر بمثل هذا الخوارج؛ ولا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد عند أهل السنة والجماعة؛ خلافا للمعتزلة الذين يقولون بتخليد فساق الملة)1(1) الفتاوى الكبرى (3/385)..

النظام المصري يفتقد الشرعية الدستورية

وأما كونه فاقدا للشرعية الدستورية فلأنه قد انتهك مبدأ (السيادة للشعب) فرغم أنه مبدأ جاهلي في نظر الشريعة، إلا أن نظام السيسي لم يلتزم به وانقلب على إرادة الشعب. فالسيادة في نظام السيسي إنما هي للعصابة الحاكمة لذلك يبدو جليا أنها سيادة فوضوية كسيادة قطاع الطريق.

وعليه، فإن الإعانة على بناء السجون للأنظمة اللادينية لتسجن من لا ينبغي أن يسجن من العلماء والمصلحين هو جريمة كبرى يأثم صاحبها كما يأثم أمثاله من كل من أعان على إهدار الشريعة والتمكين للقوانين والأنظمة اللادينية.

ضرورة الإلمام بالسياسة الشرعية وواقع الأمة لمن يتصدر للفتوى

والغريب أن الشيخ مصطفى العدوي على علم بإجرام السيسي وحزبه بحق الإسلام والمسلمين في مصر فإن هذا مما استفاض بل تواتر تواترا يغني عن طلب أدلة إثباته فلا شك أن هذه الفتيا ناكبة عن الكليات والمقاصد والأصول.

ومن تأمل هذه الفتيا ونظائرها أدرك السر في وجوب رد الأمر إلى فقهاء الحديث المتمرسين بالسياسة الشرعية ومدارك الأحكام العالمين بواقع الأمة الواعين بمؤامرات الأعداء الذين يعلمون خير الخيرين وشر الشرين قال شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى: (والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا، دون أهل الدنيا الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم، ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا)2(2) المستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 220)..

والمثير للغرابة أن الشيخ العدوي عندما سئل عن عمل المهندس في بناء سينما منع من ذلك، وقال: (لا تساعد على الفساد).

ومن تأمل ببصيرة العلم وآثر الإنصاف قطع بأن الإعانة على بناء السجون اللادينية أعظم ضررا من الإعانة على بناء دور السينما؛ وفي كلٍّ مفاسد جسيمة وأضرار عظيمة.

تحريم إعانة أهل الفساد من الأنظمة وغير الأنظمة

إن الأصل في هذا الباب هو تحريم إعانة أهل الفساد من الأنظمة وغير الأنظمة من الأفراد والكيانات والجماعات على كل إثم وعدوان؛ وأعظم ذلك وأغلظه إعانتهم على ما فيه توهين دعائم الإسلام وتقوية دعائم الشرك والانحلال والإباحية فإن إباحة ذلك هو من أعظم التعاون على المنكر ولا يصير به العبد من أعوان الظلمة فحسب بل يصير به من الظلمة أنفسهم كما صرح به طائفة من السلف كالأوزاعي وأحمد لأنه لولا هؤلاء الأعوان ما ظلم الحكام والملوك ولا جاروا. فالإعانة على الظلم والفساد ممنوعة بنص الآية: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2]

وهذا التعاون المنهي عنه متنوع ومتفاوت ولكن في العادة لا يقوم للأنظمة قائمة إلا بأربعة أركان:

الركن الأول: الآلة القمعية.

وهي أوتاد الأنظمة كما قال تعالى: (وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ) [ص: 12] فأوتاده هم أعوانه الذين لولاهم ما علا في الأرض. ويدخل فيها دخولا أوليا كل معين على بناء السجون والمعتقلات ومراكز التعذيب للمسلمين.

الركن الثاني: الدين الفاسد.

وأصحاب الدين الفاسد ينصرون الشرك والتنديد من جهتين:

الجهة الأولى: أنهم يدعون إلى غير الله تعالى ويثبتون الولاية الدينية للأنظمة اللادينية ويصبغون عليها الصبغة الشرعية كصبغة الخلفاء الراشدين والملوك الصالحين لتبرير جرائم التنكيل بالعلماء والدعاة المصلحين.

والجهة الثانية: أنهم يشوهون أنصار الشريعة والسنة وينفرون منهم فينعتونهم بنعوت من يستحق الوعيد فينعتونهم بالخوارج والمبتدعة والحزبيين ثم ينزلون في حقهم أحكام الخوارج والمبتدعين. وما أحداث ليبيا إلا أصدق وأعظم برهان على ذلك.

الركن الثالث: الإعلام المأجور

وهو الذي يقوم بالدعاية لهذه الأنظمة ويزين صورتها أمام العالم ويشنع على معارضيها على اختلاف مشاربهم ويشوه صورتهم.

الركن الرابع: المال

وبه تشترى الذمم، وكل وسائل الفساد والإباحية والإغراء، وبه تبنى به السجون والمعتقلات ومراكز التعذيب وبه تشترى الآلة القمعية.

وعندما نقارن بين هذه الأركان الأربعة نلحظ أن أشدها ضررا وأعمقها أثرا وتمكينا للباطل هو أصحاب الدين الفاسد فهم أخبث الأصناف وأشدها حربا على الإسلام والمسلمين لأن الآلة القمعية والمال والدعاية الإعلامية لا يفيد أي منها ما لم يكتسب النظام الشرعية الدينية. فهؤلاء هم الذين يخدرون شباب الأمة فهم بحق أفيون الشعوب.

بناء السجون إعانة لأكابر المجرمين

ولا يخفى على المتتبع أن السجون في النظام المصري فيها التعذيب والتقتيل وشتى صنوف الإهانة والتنكيل. فالمحكوم عليهم بالإعدام مثلا في قضايا الدفاع الشرعي عن الدين والشرف والمال يسجنون ويعذبون ويهانون ثم ينفذ فيهم حكم الإعدام. فكل من شارك في ذلك بالفتيا أو القضاء والحكم أو التنفيذ أو غيرها من أوجه الإعانة كان شريكا في الجريمة وما يترتب عليها.

وأيضا قد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك إن طالت بك مدة أن ترى قوماً في أيديهم مثل أذناب البقر يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله)3(3) أخرجه مسلم (2857)..

وقوله: (ليأتين على الناس زمان يكون عليكم أمراء سفهاء، يقدمون شرار الناس ويظهرون بخيارهم ويؤخرون الصلاة عن مواقتيها، فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا)4(4) رواه أبو يعلى وابن حبان في صحيحه، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا عبد الرحمن بن مسعود وهو ثقة..

وعند الطبراني: (سيكون في آخر الزمان شرطة يغدون في غضب الله ويروحون في سخط الله)5(5) رواه الطبراني. وصححه الألباني..

فهذه الأحاديث نص في تحريم إعانة الظالمين الذين يؤخرون الصلاة عن مواقيتها فكيف بمن لا يدعون إليها ويدعون إلى تركها وترك شعائر الإسلام فمناط التحريم هو الإعانة على الإثم والعدوان لذلك كانت إعانة الخلفاء الراشدين والملوك الصالحين من أعظم الطاعات وأجل القربات لأنها إعانة على البر والتقوى فالكلام إنما هو في إعانة أكابر المجرمين الذين وقفوا أعمارهم وإمكاناتهم على حرب الإسلام نيابة على الصليبية الصهيونية.

العبرة بمناط الإعانة على الحق والعدل، أو الباطل والظلم

وليس المحذور في الوظيفة من حيث هي، وإنما المحذور في تكييفها الشرعي فكل من أعان على إقامة الحق وإزالة الظلم أو التخفيف منه فهو مأجور؛ وكل من أعان الباطل وشايع الظلم فهو شريك في الإثم سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل جندي وهو يريد أن لا يخدم؟ فقال: (إذا كان للمسلمين به منفعة وهو قادر عليها لم ينبغ له أن يترك ذلك لغير مصلحة راجحة على المسلمين)6(6) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 533)..

فالعبرة بمناط الإعانة على الحق والعدل، أو الباطل والظلم؛ ومن هناك يتحدد الحكم الشرعي في كل الأعمال والمواقف. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إذا كان ولي الأمر يستخرج من العمال ما يريد أن يختص به هو وذووه فلا ينبغي إعانة واحد منهما إذ كل منها ظالم كلص سرق من لص، وكالطائفتين المقتتلتين على عصبيه ورئاسة؛ ولا يحل للرجل أن يكون عونا على ظلم؛ فإن التعاون نوعان:

الأول: تعاون على البر والتقوى: من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين؛ فهذا مما أمر الله به ورسوله. ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية؛ متوهما أنه متورع. وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع إذ كل منهما كف وإمساك.

والثاني: تعاون على الإثم والعدوان كالإعانة على دم معصوم أو أخذ مال معصوم أو ضرب من لا يستحق الضرب ونحو ذلك فهذا الذي حرمه الله ورسوله)7(7) مجموع الفتاوى (28/ 283)..

وقال أبو بكر المروزي: لَّما سجن أحمد بن حنبل جاء السجان فقال له: يا أبا عبد الله الحديث الذي روي في الظلمة وأعوانهم صحيح؟ قال الإمام أحمد:  نعم. قال السَّجَّان : فأنا من أعوان الظلمة؟ قال الإمام أحمد: فأعوان الظلمة من يأخذ شعرك ويغسل ثوبك ويصلح طعامك ويبيع ويشتري منك، فأما أنت فمن الظلمة أنفسهم8(8) سير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص: 1059)..

من النهي عن إعانة الظالمين إلى النهي عن الركون إليهم

وأيضا فإن نصوص الشريعة لم تنه عن مجرد إعانتهم بل تعدت ذلك إلى النهي عن الركون إليهم، فقال تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) [هود: 113]

والركون أخص من مجرد الإعانة فهو مطلق الميل والسكون إليهم والاعتماد عليهم والرضا بهم. وليس النهي عنه مقصورا على الكفار، بل هو عام فيحرم الركون إلى الكفار وإلى الظالمين، وهو الذي صححه القرطبي والشوكاني.

فالركون إلى الظالمين يورث عدم الإنكار عليهم، وهو منهي عنه، فكيف بإعانتهم على تعذيب المسلمين وقتلهم التي هي بلا شك أعظم من عدم الإنكار.

قال ابن كثير: (عن ابن عباس: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا. وهذا القول حسن، أي: لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بباقي صنيعهم)9(9) تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 354)..

وتأمل كيف فسر النهي عن الركون إليهم باستعانتنا بهم لأن ذلك ذريعة للرضا بصنيعهم، فكيف يكون القول في إعانتنا لهم.

فالله تعالى نهى عن الركون، فتدخل إعانتهم على بناء السجون أو إعانتهم بما يمكنهم ويقويهم ويوهن فسطاط المصلحين في عموم النهي من باب الأولى وهو مفهوم الموافقة أي القياس في معنى الأصل بحيث يكون المسكوت عنه وهو إعانتهم أولى بالحكم من المنطوق.

وأيضا فإن من مقاصد الشريعة في هذا الباب وجوب تخفيف الظلم إن وقع العجز عن إزالته بالكلية، وهو مقصد داخل في عموم قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن: 16]، فالميسور لا يسقط بالمعسور. وهذا المقصد يناقض من كل وجه إباحة إعانتهم على ظلمهم وصيالهم وقهرهم لعلماء الإسلام وللجماعات الإسلامية القائمة بأمر الإسلام. فمن أباح إعانتهم على بناء السجون ومراكز التعذيب فقد أباح إعانتهم على قتل المعصومين وتعذيبهم وانتهاك أعراضهم.

العبرة بالشرع وليس بالقوانين الوضعية

وأيضا فإن قول الشيخ مصطفى بن العدوي بأن السجون فيها أشرار، يقصد أن فيها جنائيين، وجعل من ذلك سببا مبيحا للإعانة على بنائها.

وهذا استدلال غريب ولولا أني سمعت كلامه على اليوتيوب صوتا وصورة لما صدقت هذا الأمر. فإن العبرة في هذا المقام بالعصمة، والعصمة قضية شرعية لا وضعية، لا يزول حكمها إلا بالشرع. فالشرع هو الذي يحدد مناط زوال العصمة، لذلك فإن زوالها بالأحكام الوضعية لا يغير حقيقتها في الشرع، فالعبرة بالشرع ولا عبرة بغيره بل حكم غيره لاغ لا يلحقه التصحيح ولا الإجازة.

وهذا الأمر يبنى على قاعدتين:

الأولى: التجريم بما عده الشرع جريمة.

الثانية: العقوبة عليه بما جعله الشرع عقوبة.

والمخالفة عن إحدى هاتين المقدمتين هو عين الظلم والفساد والافتيات على حق الحاكم الأعلى سبحانه وتعالى.

إن القوانين الوضعية تجرم ما ليس جريمة في الشرع، بل تجرم القيام بجملة من الواجبات الظاهرة المتواترة. ولا تجرم القيام بجملة من المحرمات الظاهرة المتواترة، بل تجعلها من الحريات الشخصية المكفولة بنص الدستور.

كما أنها تعاقب على القيام بجملة من الواجبات الظاهرة المتواترة، ولا تعاقب على القيام بجملة من المحرمات الظاهرة المتواترة، وما عاقبت عليه عاقبت بما لا يعد في الشريعة عقوبة، لذلك كان باطلا. وقد نص النبي على البطلان بقوله: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)10(10) رواه البخاري (2697). أي مردود باطل.

فإن العبد المعصوم إذا كان مظلوما (أي لم يرتكب ما عدته الشريعة جريمة) وعوقب بالسجن أو القتل كان إثم ذلك على كل من شارك في عقوبته من قريب أو بعيد.

من صور موالاة وإعانة الطواغيت

وأيضا فإن الإفتاء بما فيه إعانة لنظام السيسي القمعي اللاديني فيه موالاة صريحة له وقد نهانا الله تعالى عن موالاة أعداء الشريعة وهذا من المعلوم بالضرورة الدينية. قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) [الممتحنة: 1].

وأيضا لو فرض أن السجين حكم عليه بالقتل ثم نفذ فيه الحكم، فإن المعين على قتله يكون شريكا في الإثم سواء أعان بإعطاء الشرعية أو بالفتيا أو الدلالة أو الحكم أو غيرها من أوجه الإعانة بل مجرد الرضا بقتله _وهو أمر قلبي_ يعد جريمة، فعند أبي داود: (إذا عُملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها)11(11) أخرجه أبو داود (4345).، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أما المقتول ظلما إذا كان معصوما فإن كان الدال عليه متعمدا فعليه القود)12(12) الفتاوى الكبرى (3/398).. فإن من بذل الشرعية، ومن أصدر الحكم، ومن تولى القبض والحجز والسجن، ومن تولى النقل إلى مكان التنفيذ هم في الإثم كمن نفذ.

وقد اتفق العلماء على أن من قتل غيره ظلما بأمر السلطة التي تواتر ظلمها وقمعها بحيث لا يخفى على الناس، أنه آثم بذلك، يجب في حقه القصاص، وإنما الخلاف في القاتل الذي لم يعلم ظلم السلطة في خصوص هذا القتل، فهذا إذا كان ملتزما طاعة السلطة في كل الأحوال مع علمه بظلمها فإن عليه القود ولو لم يعلم ظلمها في خصوص هذا القتل.

الهوامش

* رابط الفتيا https://youtu.be/FykEvbYvjIQ

(1) الفتاوى الكبرى (3/385).

(2) المستدرك على مجموع الفتاوى (3/ 220).

(3) أخرجه مسلم (2857).

(4) رواه أبو يعلى وابن حبان في صحيحه، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا عبد الرحمن بن مسعود وهو ثقة.

(5) رواه الطبراني. وصححه الألباني.

(6) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 533).

(7) مجموع الفتاوى (28/ 283).

(8) سير السلف الصالحين لإسماعيل بن محمد الأصبهاني (ص: 1059).
(9) تفسير ابن كثير ت سلامة (4/ 354).
(10) رواه البخاري (2697).

(11) أخرجه أبو داود (4345).

(12) الفتاوى الكبرى (3/398).

المصدر

مقال للدكتور سليم سرار منشور على صفحته.

اقرأ أيضا

فقه النوازل في ضوء الكتاب والسنة (3-7) علوم ضرورية، فقه الموازنات والأولويات

فقه الحديبية.. فقه تنازلات أم موازنات..؟

القنديل والمنديل .. وما يجري على الدين من تبديل (4-4) مواقف مظلمة

إلى علماء الأمة ودعاتها .. اتقوا اللَّهَ وكونوا مع الصّادقين

 

التعليقات غير متاحة