يوقظ القرآن الحس البشري من مداخل شتى، من مظاهر الكون الى الموت والحياة، الى الأحداث والتدبير الرباني المقصود ليعلم أن وراء التدبير قوة فاعلة هي يد الله القدير.
مقدمة
تجرى الأحداث حول الإنسان وفى خاصة نفسه من مولده إلى مماته. بعضها أحداث كونية كالليل والنهار وتعاقبهما المستمر، وطلوع الشمس وغروبها، وطلوع القمر وتدرّج أوجهه من أول الشهر حتى يكون بدراً ثم يتضاءل حتى يختفى، والسحاب والمطر والبرق والرعد وتعاقب الفصول.. إلخ. وبعضها أحداث فى محيط البشر من ميلاد وموت، وصحة وضعف، وطفولة وشباب وكهولة وشيخوخة، وغنى وفقر، وعِز وذل …. إلخ .
أثر أحداث الحياة على المؤمن
تمر هذه الأحداث على المؤمن فيجد لنفسه فيها عبرة، ويعلم أن من ورائها تدبيراً حكيماً لإله حكيم، هو الذى يُجرى الأحداث بعلمه وحكمته وقدرته، وهو الذى يدبر أمر الكون كله، فلا يَحدث فى هذا الكون الهائل العريض إلا ما يريده الله، ولا يتم أمر من أمور الكون إلا على الصورة التى يريدها الله.
أثر أحداث الحياة على الغافل
أما الغافل المتبلد الحِس فيمر بهذه الأحداث، سواء منها الأحداث الكونية أو الأحداث التى تقع فى محيط البشر، دون أن يتنبه من غفلته، ودون أن يتيقظ لما فيها من دلالة على وجود الله، وتفرّده بالملك فى هذا الكون، وتفرده بتدبير الأمر كله، ومن ثم تمر به الأحداث وهو سادر فى غفلته لا يفيق..!
ويجئ القرآن فيهزه من غفلته هزاً ليطّلع على الحقيقة الكامنة وراء الأحداث..!
وكما يعالج القرآن آيات الله فى الكون، (للمزيد؛ انظر: القرآن والوجدان .. آيات فى الكون)، وظاهرة الموت والحياة (للمزيد؛ انظر: القرآن والوجدان .. ظاهرة الموت والحياة)، وجريان الرزق (للمزيد؛ انظر: الرزق .. والإيمان بالله)، فيحيلها جديدة حية كأنما يتلقاها الإنسان لأول مرة، كذلك يعالج أمر الأحداث الجارية بما يزيل عن النفس غشاوتها، ويزيل عن المشاعر تبلدها، فينفعل الوجدان ويتأثر، ويتيقظ القلب ويستشعر.
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (البقرة : 164).
فى هذه الآية الواحدة يلفت القرآن الحس البشرى إلى مجموعة كبيرة من الأحداث الكونية التى يمر بها الإنسان الغافل دون تنبه إلى دلالتها، بحكم الإلف والعادة. ولكن القرآن يوقظ هذا الحس المتبلد ليرى هذه الآيات الكونية ويدرك أنها لا يمكن أن تحدث من تلقاء نفسها، ولكن وراءها تدبيراً وحكمة.
طريقة القرآن لإيقاظ الحس
وإذا تدبرنا الآية نجد أن القرآن يصل إلى الغاية المقصودة ـ وهى إيقاظ الحس المتبلد ـ بطريقتين فى آن واحد:
الأولى: حشد عدد كبير من الأحداث الجارية
وذلك فى معرض واحد، فهناك السماوات والأرض، وهناك اختلاف الليل والنهار (بمعنى تعاقبهما المستمر، وبمعنى اختلاف طولهما على مدار الفصول)، وهناك جريان السفن فى البحر، وهناك المطر النازل من السماء، والحياة النابتة فى الأرض، والدواب المنبثة فى أرجائها، وهناك تصريف الرياح، وهناك جريان السحاب المعلق بين السماء والأرض.
وهذا الحشد ذاته يوقظ الحس؛ فقد يتبلد هذا الحس فلا يلتفت لتلك الأحداث الجارية وهى فرادى، كل منها يقع على حدة فى وقت منفصل عن الآخر، ولكنها حين تحشد هكذا وتعرض بهذا التوالى وبذلك التجمع فإن الحِس لابد أن يستيقظ، وهو يتتبعها بخياله واحدة إثر الأخرى، فلا يجد فرصة يغفل فيها أو يستنيم، وهى تلاحقه بهذه السرعة، لا يكاد ينتهى من تتبع واحدة حتى تكون الأخرى قد لحقته!
الثانية: ربط الوجدان بهذه الأحداث
وذلك عن طريق لفت الحس إلى الحركة الدائبة فى هذا الكون؛ فالمشهد الثابت الذى لا يتحرك قد يسهل على الحِسّ أن يتعود عليه فيتبلد ولا يعود المشهد يثيره. أما الحركة المستمرة فلا يمكن للحس أن يتبلد إزاءها، ولابد أن يلتفت ويتيقظ.
فالآية تبدأ بخلق السماوات والأرض، وهو حدث قديم لم يشهده الإنسان ولكنه يرى آثاره ماثلة أمامه. ولكن السياق القرآني لا يدع صورة الخلق ساكنة أمام الحس بل يحرك الصورة بتحريك مفرداتها. فالليل والنهار يدوران ويختلف طولهما فى أثناء تعاقبهما المستمر، والفُلك تجرى فى البحر بما ينفع الناس، والماء النازل من السماء يتسم بالحركة كذلك، وهى حركة النزول نحو الأرض.
ولكن الحركة لا تنتهى هنا: فمن هذا المطر النازل يخرج النبات الحي من الأرض التي كانت مجدبة من قبل، والتعبير القرآني يقول: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ فيصور الأرض كانت ميتة فتحركت بالحياة بعد نزول المطر، كما يقول فى سورة الحج: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ (الحج : 5)..
ولكن الحركة لا تنتهى هنا كذلك؛ بل تستمر لتصوّر الدواب جاءت تسعى أكل النبات الذى أخرجته الأرض بالمطر، والتعبير القرآن يقول: ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ﴾ والبث حركة فى جميع الاتجاهات فى وقت واحد. ثم يجئ ذكر الرياح وهى متحركة بطبيعة الحال، فإنها لا تسمى رياحاً إلا إذا تحركت حركة شديدة ملموسة.
وأخيراً يذكر السحاب متحركاً كذلك مسخراً بين السماء والأرض..
وهكذا تشمل الحركة كل الكائنات، ويتملاها الحس فى حركتها الدائبة فينفعل بها ويتحرك معها.
ولا تنس كذلك أن التعبير القرآني يلفت الحس البشري في أثناء عرض هذه الحركة المستمرة إلى الله سبحانه وتعالى، الذي تحرك قدرته كل هذه الأحداث: ﴿وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ﴾، وهكذا يذكر لفظ الجلالة الصريح مرة ويعود الضمير عليه مرتين متواليتين بعد قوله ﴿فَأَحْيَا﴾ وقوله ﴿وَبَثَّ﴾، ثم يلفت إليه الحِس مرتين أخريين فى قوله تعالى: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ وقوله: ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ﴾، إذ الإشارة واضحة إلى أن الذى يصرف الرياح هو الله، والذى يسخر السحاب هو الله.
وبهذه الوسائل كلها يوقظ القرآن وجدان البشر إلى الأحداث الجارية فى بِنْية الكون وفى حياة الناس.
وانظر الى مواضع أخرى وما فيها من هذا النسق لتعيَ عن ربك تعالى خطابه..
﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ۖ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ۖ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (آل عمران : 26-27).
﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ۖ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَىٰ آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ * فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ ۖ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ﴾ (الروم : 48-54).
خاتمة
يترافق الكتابان؛ المنظور في الكون والمقروء من السماء، كلاهما، في خطاب الحس البشري فإن غفل عن هذا خاطب قلبَه ذاك؛ ليصل كلام الله وخلقه الى القلب البشري ليوقظه ويعرفه بربه ويربطه به؛ ليعمل صالحا ويلتزم منهجه ويستعد للقاء الله؛ فتصلُح له الآخرة؛ تلك التي فيها الأبد القادم. فالحمد لله على رحمته الغامرة.
…………………………………
المصدر:
- أ. محمد قطب، كتاب ركائز الإيمان، ص28-31.