حاجة النفوس الى الرزق لا انفكاك لها عنها ولا استغناء عن أنواعها طرفة عين. ونعم الله لا تُحصى. وقد تغفل الأنظار عن علاقة الرزق بالله بسبب الإلف والتكرار أو الغرور والتكبر.

مقدمة

من أشد الأمور التى تربط القلب المؤمن بالله، بينما يغفل عنها الحِسُّ المتبلد، أمر الرزق الذى يجريه الله على الإنسان من السماء والأرض.

فالمؤمن يشعر شعوراً دائماً بفضل الله عليه ورحمته؛ لأن الرزق الذى يفيضه الله على الإنسان من السماء والأرض.

والمؤمن يشعر شعوراً دائماً بفضل الله عليه ورحمته؛ لأن الرزق الذى يفيضه الله على الإنسان دائم لا ينقطع، ولو انقطع لحظة واحدة لما أمكن للإنسان أن يعيش.

ما هو الرزق..؟

وقد نتصور أحياناً أن الرزق محصور فى الطعام والشراب، أو الملبس والمسكن، أو المال الذى نشترى به الأشياء، ولكن الرزق فى الحقيقة أوسع من هذا بكثير ، لا يمكن للإنسان أن يحصيه: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ (النحل : 18).

فهل خطر ببالك أن الهواء الذى تتنفسه مكون من عناصر رتبت ترتيباً ربانياً بنسب معينة لتجعل الحياة صالحة على ظهر الأرض، وأنه لو قَلّت نسبة الأكسجين فى الهواء لتعذرت الحياة، ولو زادت لاشتعل كل ما على الأرض..؟!

وهل خطر ببالك أن الجاذبية القائمة بين الأرض والشمس من جهة، وبين الأرض والقمر من جهة أخرى قد قدّرها الله سبحانه بحُسبان دقيق: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ (الرحمن:5). بحيث إنه لو كان جذب الشمس للأرض أكبر من قدْره الحالى لاقتربت من الشمس أكثر، وصارت الحرارة عليها لا تطاق، فماتت كل الأحياء، ولو كان جذبها للأرض أقل لابتعدت عن الشمس أكثر، فصارت البرودة عليها لا تطاق، ولماتت كل الأحياء..!

أنه لو اقترب القمر إلى الأرض فزادت الجاذبية بينه وبينها لطغى الماء ـ وقت المد ـ فأغرق كل سطح الأرض وأهلك كل الأحياء؟!

وهل عرفت أن دورة الليل والنهار لازمة لحياة الأحياء، ولولاها ما استقامت الحياة ولا ترعرعت الأرض، لأن الكائنات الحية كلها تحتاج إلى وقت تسكن فيه، ووقت من نوع آخر تنشط فيه..؟

﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (القصص : 71 – 73).

ذلك ـ وغيره ـ من ألوان الرزق التى ننساها أحياناً ونحن نعدد الأرزاق التى أفاضها الله على الإنسان، وهى ـ إلى جانب أنواع الرزق الأخرى ـ نعم ربانية يذكرها القلب المؤمن بالحمد والشكر. ولكن الحِس المتبلد يمر عليها بغير التفات، أو يجنح به الغرور أحياناً أن يقول كما يروى القرآن عن قارون: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ (القصص : 78). أى حصَّلْته بقدرتى وجهدى لا من عند الله..!

لذلك يعرض القرآن موضوع الرزق بطريقة تهز الوجدان المتبلد ليتيقظ إلى الحقيقة، وهى أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وأن الأرزاق كلها من عند الله، وأن الإنسان مهما بذل من جهد فهو لا ينشئها فى الحقيقة، إنما يعمل فيها بسُنة الله ومشيئته، ولكن المنشئ هو الله.

رزق إنبات الزروع

﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ (الواقعة: 63 – 74).

إن الإنسان يحرث الأرض ويلقى البذور فيها فيخيل إليه أنه هو الذى زرع..! أى أنه هو الذى أنبت الزرع..! فهل حقيقة هو الذى يصنع ذلك..؟ وهل هناك قوة فى الوجود كله ـ إلا القدرة الربانية المعجِزة ـ تستطيع أن تحرك البذرة للنمو، وتخرج منها ذلك الزرع المختلف الألوان والأشكال والطعوم..؟ تُرَى لو أن الله لم يودع هذه البذرة سر الحياة، هل كان أهل الأرض جميعاً يستطيعون أن يحركوها من مكمنها لتنمو وتثمر..؟!

من أجل ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾..؟ ثم يلفت الحس إلى جانب آخر من المسألة يغفل عنه الإنسان حين يتبلد حِسه على المشهد المكرور، فينسى ما فيه من إعجاز الله القدير، إن الإنسان تعوّد أن يرى الزرع نامياً ينتقل من مرحلة إلى مرحلة حتى تطلع الثمرة، فيظن ـ فى غفلته ـ أن الأمور تسير هكذا من تلقاء ذاتها. وأنه لا بد حين يضع البذرة أن تنمو حتى تخرج له الثمرة، وينسى أن الله هو الذى يخرجها له، من أجل ذلك يقول الله له: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ﴾! فلو شاء الله لم ينبته أصلاً، ولو شاء كذلك أنبته ثم جعله حطاماً دون أن يثمر..! ولو حدث ذلك لظللتم تقلّبون القول بينكم، تقولون: غرمنا جهدنا ومالنا ولم يثمر الزرع، أو تقولون: وقع علينا الحرمان..!

رزق الماء

والإنسان يرى الماء نازلاً من السماء ولكنه يغفل ـ حين يتبلد حِسُّه ـ عن أن الله هو الذى أنزله، فيتوهّم أنه ينزل هكذا من تلقاء نفسه، أو قد يصيبه الغرور كما وقع من الإنسان المعاصر الذى يعيش فى الجاهلية الحديثة المسيطرة على الناس فى أوربا مع كل ما عندهم من التقدم المادى، فيظن أنه هو الذى ينزل المطر من السماء؛ لأنه استطاع أحياناً أن يلقى مواد معينة بالطائرات فوق السحب فيسقط المطر..!

يغفل هؤلاء وهؤلاء عن الحقيقة، وهى أن الله سبحانه وتعالى هو الذى يُنزّل المطر فى الحقيقة، بمشيئته وقدَره، وبالسُّنة التى أودعها فى الكون لتؤدى إلى تحقيق مشيئة الله وقدره. فإذا كان بخار الماء يتثاقل حين يبرد السحاب فى طبقات الجو العليا، أو حين يصطدم السحاب بجبل مرتفع، فلا يعود الهواء قادراً على حمله، فينزل فى صورة مطر؛ فمن الذى صنع ذلك كله..؟ من الذى جعل هذا من طبيعة بخار الماء؟ تُرى لو أن الله لم يودِع بخار الماء هذه الخصائص أكان المطر ينزل من تلقاء نفسه حين يتكاثف..؟! وإذا كان إلقاء بعض المواد على السحاب بالطائرات يؤدى ذات الهدف فيجعل بخار الماء يبرد فيتكاثف فينزل فى الصورة التى يسمونها “المطر الصناعى”! فهل كانت طائرات الأرض كلها، والبشر جميعاً يقدرون على شىء من ذلك لو لم يسخر الله الماء لينزل من السماء إلى الأرض بحسب سنن معينة أودعها فيه..؟!

ومرة أخرى يلفت القرآن الحِس إلى جانب آخر من المسألة، فإن المطر ينزل فى صورة ماء عذب سائغ للشراب، فيظن الحس الغافل أنه ينزل على هذه الصورة من تلقاء نفسه..! فيذكّره القرآن بالحقيقة، إن الله هو الذى أنزله فى صورته العذبة تلك رحمةً منه بخلقه، وإنه لو شاء لجعله مالحا شديد الملوحة لا يصلح للشرب ولا لتنمية النبات. افلا يستحق الله الشكر على نعمته تلك..؟

رزق الطاقة

والإنسان يوقِد النار وينسى قدرة الخالق من ورائها، حين يراها ميسرة بين يديه يشعلها حين يشاء. فمن أنشأ الشجرة التي تتوهج منها النار..؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى الخالق المنعم الوهاب..؟ وما يصْدُق على الشجرة يصْدُق على غيرها من ألوان الوقود الموجود اليوم.. كله من عند الله.

ثم يذكّر القرآن الإنسان بجانب آخر من المسألة؛ عن أن الله قد جعل هذه النار التي يوقدها الإنسان في الأرض تذكرة تذكره بالنار الكبرى التي تنتظره في الآخرة لو عصى الله، في ذات الوقت الذي جعلها متاعًا للمسافرين المحتاجين للدفْ ولما ينضجون عليه الطعام.

وينتهي السياق حين يهز الوجدان بذلك العرض كله بدعوة الإنسان ـ وهو في حالة تأثره وانفعاله الوجداني ـ أن يسبح باسم ربه العظيم، الذي أفاض عليه كل تلك الأرزاق..!

﴿قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ * اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ﴾ (إبراهيم : 31-34).

﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِّلشَّارِبِينَ * وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل : 66-69).

خاتمة

من أشد المداخل حساسية لنفس الإنسان وقلبِه مدخلُ الرزق؛ فكم ممن غوى بسببه أو طغى، وكم ممن غفل عن مصدره وهو الله ـ فطلب الرزق من غيره ضعفا وانهزاما. وقد قال تعالى ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (العنكبوت: 17).

فيجب النظر والتفكر في مصدر الرزق، والتفريق بين السبب وبين الخالق الذي أجرى الأسباب، ولو شاء أن يغيرها لفعل، ولو شاء لما اعتاد الخلق انتاج مسبَباته ألا ينتج لفعل، ولو شاء أن يمتنع عن الجريان لفعل، ولو شاء أن يُجري الرزق من حيث لا يدري العبد لفعل. فلا أحقَّ ولا أنجع من التوجه نحو رب العالمين خالق الرزق ومُجريه ومُجري أسبابه.

…………………………………..

اقرأ أيضا:

المصدر:

  • أ. محمد قطب، رحمه الله. كتاب “ركائز الإيمان”، ص24-28.

التعليقات غير متاحة