ما من شيء يحيي القلوب كما يحييها القرآن؛ إذا أحسنت تلقي كلام ربها تعالى وتدبره، وإذا طلبت فيه الشفاء ولم تبخل على نفسها بكرمه وتاثيره العميق.

مقدمة

من السماء ينزل المطر فتحيا به الأبدان. ومن السماء ينزل القرآن فتحيا به القلوب.

وقد كان في دعاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم أنه يدعو برب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية أنه دعاء بربوبيته تعالى لثلاث من الملائكة وكلهم تعالى بأسباب تحيا بها الأبدان في الدنيا “ميكائيل” وبما تحيا به القلوب “جبرائيل” وبما تحيا به الأبدان بعد الموت “إسرافيل”.

فمن أراد الحياة الحقيقية، حياة قلبه؛ وشفاء صدره وذهاب وساوسه وتخضيد شهواته، ورفع شبهاته فليطلب دواءه وشفاءه في كلام ربه؛ ذلك الحبل الواصل بين الرب عباده.

مناصحة ذاتية

الله الله يا نفسُ بتدبر القرآن..

الله الله أن يكون لكِ ورد يومي من التدبر لا يفوتك مهما كانت الأعباء..

يا نفسُ ألا ترين كثيراً من الصالحين وكيف يتحدثون عما يرونه من فرق مبهر في حياتهم، وفرقاً عظيماً في فهمهم وصحة نظرهم واستقرار تفكيرهم ببركة هذا القرآن..

ألا ترين كثيراً من الصالحين كيف يبثّون شجواهم عما يجدونه في أنفسهم بعد تلاوة القرآن.. يتحدثون عن شئ يحسون به كأنما يلمسونه من قوة الإرادة في فعل الخيرات والتأبّي على المعاصي.. وراحة النفس في صراعات المناهج والأفكار واحترابات التيارات..

بل تأملي يا نفسُ كيف تشرّف النبي ذاتُه بالقرآن..!

حال رسول الله مع التدبر

تأملي يا نفسُ كيف كانت حال النبي قبل القرآن، وحال النبي بعد القرآن، كما قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ۚ مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ﴾ (الشورى:52)، وقوله تعالى: ﴿بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ (يوسف: 3)..

فانظر بالله عليك كيف تأثرت حال النبي بعد إنزال القرآن عليه، بل انظر ما هو أعجب من ذلك وهو حال النبي بعد الرسالة إذا راجع ودارَس القرآن مع جبريل كيف يكون أجود بالخير من الريح المرسلة كما في البخاري، هذا وهو رسول الله الذي كمل يقينه وإيمانه، ومع ذلك يتأثر بالقرآن فيزداد نشاطه في الخير، فكيف بنفوسنا الضعيفة المحتاجة إلى دوام العلاقة مع هذا القرآن..

بل انظر كيف جعل خاصية الرسول تلاوة هذا القرآن فقال: ﴿رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً﴾ (البينة: 2).

وانظر إلى ذلك التصوير الشجي لحال أهل الإيمان في ليلهم كيف يسهرون مع القرآن ﴿أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ (آل عمران: 113).

أترى أن الله جل وعلا ينوّع ويعدد التوجيهات لتعميق العلاقة مع القرآن عبثاً؟  

فتارةً يحثنا صراحة على التدبر ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ (النساء:82).. وتارةً يحثنا على الإنصات إليه ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (الأعراف: 204).. وتارةً يأمرنا بالتفنن في الأداء الصوتي الذي يخلب الألباب لتقترب من معاني هذا القرآن ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ (المزمل:4).. وتارةً يأمرنا بالتهيئة النفسية قبل قراءته بالاستعاذة من الشيطان لكي تصفو نفوسنا لاستقبال مضامينه ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ (النحل:198) .. وتارةً يغرس في نفوسنا استبشاع البعد عن القرآن ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا﴾ (الفرقان:30).. وتارات أخرى ينبّهنا على فضله، وتيسيره للذكر فهل من مُدَّكر، وعظيم المنة به..الخ الخ؛ كل ذلك ليرسخ علاقتنا بالقرآن..

أيا نفسُ.. هل ترين ذلك كله كان اتفاقاً ومصادفة لا تحمل وراءها الدلالات الخطيرة..؟!

مع القلوب الصخرية

الحديث عن قسوة القلب حديث ذو شجون، ومن رزايا هذا الزمن أن صرنا لا نستحيي من المناصحة عن قسوة القلب بينما قلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة.. لكن دعنا يا أخي ندردش دردشة المحبوسين يتشاجون لبعضهم كيف يهربون من معتقلات خطاياهم..

يا أخي والله لقد قرأت كثيراً كثيراً في كتب الرقائق والايمانيات والمواعظ، وجربت كثيراً من الوسائل التي ذكروها، وأصْدُقُك القول أنني رأيتها محدودة الجدوى، لا أنكر أن فيها فائدة، لكن ليست الفائدة الفعلية التي كنت أتوقعها، ووجدت العلاج الحقيقي الفعال الناجع المذهل في دواء واحد فقط، دواء واحد لا غير؛ وكلما استعملته رأيت الشفاء في نفسي، وكلما ابتعدت عنه عادت لي أسقامي، هذا العلاج هو بكل اختصار (تدبر القرآن).

دع عنك كل ما يذكره صيادلة الإيمان، ودع عنك كل عقاقير الرقائق التي يصفونها، واستعمل (تدبر القرآن) وسترى في نفسك وإيمانك وقوّتك على الطاعات وتأبّيك على المعاصي وراحة نفسك في صراعات المناهج والأفكار شيئاً لا ينقضي منه العجب.

كل تقصير يقع فيه الإنسان، سواء كان تقصيرا علميا بالتأويل والتحريف للشريعة، أو كان تقصيراً سلوكياً بالرضوخ لدواعي الشهوة، فإنه فرع عن قسوة القلب.

كيف تحدث قسوة القلب؟

وهل تعلم كيف تحدث قسوة القلب؟ قسوة القلب ناشئة عن البعد عن الوحي، ألا ترى الله تعالى يقول: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ (الحديد:16).

أرأيت يا أخي؟ إنه طول الأمد..!

لما طال بهم الأمد قست قلوبهم، ولو جددوا العهد مع الوحي لحيَت قلوبهم.

فإذا قسا القلب تجرأ الإنسان على الميل بالشريعة مع هواه، وإذا قسا القلب تهاون الإنسان في الطاعات واستثقلها، وإذا قسا القلب عظمت الدنيا في عين المرء فأقبل عليها وأهمل حمل رسالة الإسلام للناس، وإذا قسا القلب ضعفت الغيرة والحمية لدين الله.

ما العلاج إذاً..؟

العلاج لما يَحِيك في هذه الصدور هو مداواتها بتدبر القرآن. بالله عليك تأمل في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس:57).

هكذا تقدم الآية المعنى بكل وضوح “وشفاء لما في الصدور” ..

ولكن ما الذي في الصدور..؟!

في الصدور شهوات تتشوّف، وفي الصدور شبهات تنبح، وفي الصدور حُجبٌ غليظة، وفي الصدور طبقات مطمورة من الرَّيْن ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (المطففين:14)

وهذه الدوامات التي في الصدور دواؤها كما قال الله: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾ (يونس:57).

فإذا شُفيت الصدور وجدَت خفة نفس في الطاعات، وإذا شُفيت الصدور انقادت للنصوص بكل سلاسة ونفرت من التأويل والتحريف، وإذا شفيت الصدور تعلقت بالآخرة واستهانت بحطام الدنيا، وإذا شفيت الصدور امتلأت بحمل هَمِّ إظهار الهدى ودين الحق على الدين كله.

وأعجب من ذلك أنه إذا شفيت الصدور استقزمت الأهداف الصغيرة؛ تلك الأهداف التي تستعظمها النفوس الوضيعة.. الولع بالشهرة، وحب الظهور، وشغف الرياسة والجاه في عيون الناس، وشهوة غلبة الأقران..

النفوس التي شفاها هذا القرآن.. ترى كل ذلك حطاما إعلاميا ظاهره لذيذ فإذا جرَّب الإنسان بعضه اكتشف سخافته، وأنه لا يستحق لحظة من العناء فضلاً عن اللهاث سنوات، فضلاً عن تقبّل أن يقوم المرء بتحريف الوحي ليقال فلان الوسطي الراقي الوطني التنموي الحضاري النهضوي التقدمي..إلخ إلخ من عصائب الأهواء التي تعشي العيون عن رؤية الحقائق..

هل تظن يا أخي أن تحريف معاني الشريعة لا صلة له بقسوة القلب..؟! أفلا تقرأ معي يا أخي قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ﴾ (المائدة:13).

على أية حال.. دعنا نعيد قراءة آية الشفاء ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس:57).

يا الله .. هل قال الله: ﴿وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾..؟ نعم إنه شفاء لما في الصدور.. هكذا بكل وضوح.

خاتمة

هذا القرآن يا أخي له سحر عجيب في إحياء القلب وتحريك النفوس وعمارتها بالشوق لباريها جل وعلا.. وسر ذلك أن هذا القرآن له سطوة خفية مذهلة في “صناعة الإخبات والخضوع” في النفس البشرية كما يقول تعالى: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ﴾ (الحج:54) فإذا أخبتت النفوس، وانفعلت بالتأثر الإيماني، انحلّت قيود الجوارح، ولهَج اللسان بالذكر، وخفقت الأطراف بالركوع والسجود والسعي لدين الله؛ كما يصوّر الحق تبارك وتعالى ذلك بقوله: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ (الزمر:23).

لاحِظ كيف تقشعر .. ثم تلين. إنها الرهبة التي تليها الاستجابة، وذلك هو سحر القرآن..

………………………………….

المصدر:

  • الشيخ إبراهيم السكران، كتاب ” مجمــوع نسائم القــــرآن”، ص2-7.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة