قد يترتب الكثير على موقف ثبات لشخص ما، إما لأهله أو لإخوانه أو لأمته؛ إما بيانًا لحق شرعي، أو فضحًا لظلم، أو منعًا لخيانة ما.

مقدمة

كثير من الحق قد يظهر ويبقى في التاريخ كله ويُحيي آلافًا وآلافًا بسبب موقف شخص أو عُصْبة. وكثير كذلك ضاع وفُقد وتسبب في إذلال الأمة في مرحلة ما، بل وابتلاع أعدائها لها، بسبب موقف خائن، أو تراجع، أو جهل.

والإنسان موقف، والرجل موقف. تتغير أحداث كثيرة ويتغير خط أمة، ويتغير خط التاريخ بسبب موقف شخص ما أو عصبة ما.

والمطلوب للموقف المُرضي لله تعالى العلم والبصيرة، وقوة التوكل، والإخلاص لرب العالمين، وحصيلة سابقة ورصيد سابق في المعاملة مع الله تعالى.

المواقف بين الصدق والكذب

والموقف المرضي لله تعالى هو من الصدق كما قال تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ [الأحزاب: 23]. وأصل النحب النذر، ثم استعمل للموت.

والتغير في الموقف كذب على الله تعالى ﴿قَـدِ افْتَرَيْنَـا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا﴾ [الأعـراف:  89]، ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ * مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ﴾ [النحل: 105 – 106].

ولكن كم ممن خان وضيّع حقوقا للأمة أو أخر بيان الحق الذى يجب أن تعلمه، فتسبب فى استمرار غربة الإسلام واستضعاف أهله وضياع مقدرات الأمة وامتلاك أعدائها لها بسبب رغبات شخصية تافهة والانفصال عن طموحات الأمة، أو بسبب ضعف شخصى افتقد صاحبه الاعتصام بالله تعالى والتوكل عليه؛ فيقعد المسلمون بسبب هذه الصفقات الخاسرة أربعين أو خمسين سنة أو قرونا فى أثر هذه الخيانات. والأمثلة كثيرة ومحزنة.

وشفاء هذا هو أن يعيَ المؤمن أن النجاح في الموقف إنما هو حصيلة لرصيد سابق لابد أن يعدّه. وهذا واضح في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 155].

وأن يعلم المؤمن أن النجاح جائزة: ﴿امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾ [الحجرات: 3].

وأن ينظر إلى صدقه ويراجعه ويفتش فيه؛ فمن تعود الصدق صدق في موقفه كأنس بن النضر.. وما فعله في غزوة أحد. (1صحيح مسلم، جـ 3، ص 1512)

وكحديث الرجل الذي قال: إنما بايعتك على أن أرمي بسهم هاهنا فأدخل الجنة. (سنن النسائي، جـ 4، ص 60. قال الشيخ الألباني: صحيح)

وأن يعلم أن الكذب واكتسابه والتعود عليه قد يخونك في موقف أنت في أشد الحاجة إلى رحمة الله ليثبتك، والمعصية سبب الخذلان، يقول ابن القيم: «تالله ما عدا عليك العدو إلا بعد أن تولى عنك الوليّ، فلا تظن أن الشيطان غلب ولكن الحافظ أعرض». (2الفوائد، جـ 1، ص 68)

نماذج النجاح التي جُعلت أسوة للبشرية

موقف نوح عليه السلام

﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ[يونس: 71].

موقف هود عليه السلام

﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [هود: 54 – 56].

وكلاهما كان عنده من التوكل ورؤية الأمور بيد الله تعالى ما جعله يقف مثل هذا الموقف.

موقف المؤمن في سورة يس

﴿وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾ [يس: 25].

موقف مؤمن آل فرعون

﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا﴾ [غافر: 28 – 29].

وموقف السحرة

﴿قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى﴾ [طه: 72 – 76].

 موقف أصحاب البروج

﴿النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج: 5 – 10].

وليستقي منهم كيف صمدوا فيصمد. كان في أصحاب البروج ناس عاديون رجال ونساء ضعاف وشيوخ حتى الصبي .. حتى أنطقه الله.

مواقف معاصرة وقريبة

موقف عمر المختار

استمر عمر المختار في قيادة المقاومة في بلاده حتى وقع في الأسر، وخلال اعتقاله ومحاكمته في برقة خمس أيام، حيث اعتقل في مدينة البيضاء في 11 سبتمبر (1931) ونفذ حكم الإعدام فيه في 16 من الشهر ذاته.

مشهد إعدام المختار كان تاريخيا ومهيبا، فقد حضر نحو 20 ألف من الأهالي والمعتقلين، ليشاهدوا قائدهم الذي قاوم الاحتلال، ينفذ فيه حكم الإعدام ليكون هذا المشهد والحدث رادعا لهم، وعاملا يثبط هممهم كي لا يطالبوا باستقلالهم.

مساعي إيطاليا باءت بالفشل، فكان مشهد إعدام عمر المختار شرارة أوقدت اللهيب في نفوس الليبيين، الذي ثاروا على المحتل حتى نالوا استقلالهم مستغلين تلقي القوات الإيطالية ضربات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية.

موقف المودودي

أصدرت محكمة العسكر قرارها بإعدام المودودي، في محاكمة صورية كالتي يساق إليها الإسلاميون في مصر وتركيةا وإندونيسيا، والعديد من أقطار المسلمين الرازحة تحت كابوس العسكريين.

ويصف مرافقه خليل أحمد الحامدي موقفه وهو يتلقى ذلك الحكم الظالم فيقول: «لقد استمع إلى هذا القرار بوجه باسم وقلب مطمئن، ولم يزد على قوله «الحمد لله على كل حال».

وجاء الضابط ليسلمه نص القرار وهو يقول: «يمكنك أن تقدم الاسترحام خلال أسبوع»، وفوجئ بقول الشيخ في الرد على عرضه: «لن أسترحم أحداً لأن أحكام الموت والحياة لا تصدر من الأرض، بل من السماء، فإذا قدر الله لي موتي فلن يستطيع أحد إنقاذي، وإذا قدر الله الحياة فليس بمقدور أحد أن يضرني قيد شعرة».

ثم توجه الأستاذ إلى إخوانه الحاضرين تلك المحاكمة بقوله: «لا يقدم أحد منكم أي استرحام بشأني، وأؤكد بذلك على والدتي وأخي وزوجتي وأولادي جميعاً». (3أبو الأعلى المودودي: «لو جلست فمن سيبقى واقفاً؟!» د/ خالد النجار)

موقف سيد قطب

يقول الشيخ عبد الله عزام بأنه سمع “حميدة قطب” تقول:

“جاءني مدير السجن الحربي “حمزة البسيوني” يوم (28) أغسطس (1966)، وأطلعني على قرار الإعدام الموقّع من “عبد الناصر” بإعدام “سيد قطب” ثم قال: إن إعدام الأستاذ سيد خسارة للعالم الإسلامي والعالم أجمع. وأمامنا فرصة لإنقاذ الأستاذ من حبل المشنقة، وهي أن يعتذر على التلفاز فيخفف عنه حكم الإعدام ثم يخرج بعد ستة أشهر من السجن بعفو صحي. هيا فاذهبي إليه لعلنا ننقذه.

قالت “حميدة”: فتوجّهت إليه لأبلّغه الخبر فقلت له: إنهم يقولون إن اعتذرت فسيعفون عنك. فربّت “سيد” على كتفي قائلاً: عن أي شىء أعتذر يا حميدة؟ عن العمل مع الله؟ والله لو عملت مع أية جهة غير الله لاعتذرت، ولكني لن أعتذر عن العمل مع الله. ثم قال: اطمئني يا حميدة، إن كان العمر قد انتهى فسينفّذ حكم الإعدام، وإن لم يكن العمر قد انتهى فلن ينفّذ حكم الإعدام. ولن يغني الاعتذار شيئًا في تقديم الأجل أو تأخيره”. (4مجلة المجتمع، تاريخ العدد: 11/ 11/ 1986)

النظر في عبودية الموقف نفسه

يجب تدبر قوله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ﴾ [الأنفال: 45]، فالمطلوب هو أن تعلم أن عندك قوة ولا بد من استعمالها كاملة، فتثبُت أنت بقدر طاقتك عالمًا بعظم الموقف وخطورة التراجع، وتعلم أن ما ستفعله فى هذا الموقف من ثبات أو تراجع مكتوب عليك وباسمك في الآخرة، وألا تستضعف نفسك. وهذا واضح في أمره تعالى بالثبات ﴿فَاثْبُتُواْ﴾ والله تعالى يأمر بهذا وهو يعلم سبحانه تفاوت الناس في قدراتهم. هذا جانب لكنه لا يكفي.

فالجانب الآخر: ﴿وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً﴾، والذكر ليس فقط باللسان بل لسان مواطئ لقلب وجسد موجود حيث أمره الله ويفعل ما أمره الله؛ فالاعتصام بالله والافتقار له، والاستعانة بحوله وقوته؛ أساسٌ للثبات.

وتأكيدًا لنفس المعنى هو هذا النموذج:

﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ [آل عمران: 173].

فـ 1- ﴿زَادَهُمْ إِيمَاناً﴾.        2- ﴿وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾.

فمن وقف بحول نفسه وقوته فشل. وأما التوكل فلا يتحقق شرعًا إلا إذا قدّم العبد السبب ثم يفوض الأمر لله تعالى محسنا للظن به مستيقنا فيه معتمدا عليه تعالى الاعتماد الكامل ومفوضا الأمر اليه.

خاتمة

وكم من ضعيف كان كأمة، وكم من ضعيف كان أقوى من أمة، وكم من ضعيف أنقذ أمة. أو أنقذ أهله. أو حتى ينقذ نفسه.

ومواقـف الإشهـاد هذه قد تكون في مـوقف فتنـة في عقيدة (5كمواقف الصحابة الكرام، ثم كموقف الإمام أحمد، وكمواقف الشهداء في العصر الحديث الذين وقفوا في وجه العلمانية (اللادينية)) أو موقف أمام شهوة وهوى، أو موقف أمام تخويف وإيعاد.

……………………………..

الهوامش:

  1. صحيح مسلم، جـ 3، ص 1512.
  2. سنن النسائي، جـ 4، ص 60. قال الشيخ الألباني: صحيح.
  3. الفوائد، جـ 1، ص 68.
  4. أبو الأعلى المودودي: «لو جلست فمن سيبقى واقفاً؟!» د/ خالد النجار.
  5. مجلة المجتمع، تاريخ العدد: 11/ 11/ 1986.
  6. كمواقف الصحابة الكرام، ثم كموقف الإمام أحمد، وكمواقف الشهداء في العصر الحديث الذين وقفوا في وجه العلمانية (اللادينية).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة