يتحقق الصدق في الكلمة الصادقة، والموقف الصادق، والمنهج كذلك؛ كما يشمل الكذب الكلمة والموقف والمنهج الذي يسلكه الانسان. ومن حقق الصدق بلغ التُقى والإحسان.
شمولية الصدق
الصدق ليس محصورًا في صدق الكلمة وإن كان صدق الكلمة جزءً منه؛ الصدق هو الدين كله قال تعالى: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الزمر: 33 – 35).
فـ “التصديق” في الآية تصديق خاص ليس مجرد “تصديقًا خبريًا” بحيث يقول “هذا خبر صادق” أو “هذا رسول صادق”.. بل هو تصديق يستلزم أعلى درجات القيام بهذا الدين باطنًا وظاهرًا حتى كان صاحبه في قمة التمسك والحياة بدين الله تعالى.
معاناة الواقع من غياب الصدق
فافتقاد الصدق يؤدي إلى المخالفة لهذا الدين، أو التواني في أخذه، أو الخيانة في المواقف، أو انتهاج منهج مخالف مع العلم بالحق.. كل هذا افتقاد للصدق أو كذب صريح.
وهذا داء عام انتشر كثيرًا، وهو مسئول عن تأخر التمكين لهذا الدين.
فكم ممن علم الحق ولم يصْدُق في حمله .. وكم ممن تخلى عنه.
وكم ممن خانه أو باعه أو بدّله أو لبّسه .. وكم ممن زهد فيه وجعله أدنى المطالب!.
كم ممن يخالف عَملُه عِلمهَ، وباطنُه ظاهرَه، ومدخلُه مخرجَه، وسِرُه عَلانيتَه، وصورتُه في بيته صورتَه بين الآخرين..
وكم ممن يكتم الحق بل “يتواصى بكتمانه” فيوصى تلامذته وأعوانه ويتأكد منهم أنهم يكتمون الحق ولا يبوحون به إرضاءً لمن يرغب في إرضائه! شراءً لأضواء، أو طلبا لأمان، أو طلب شهرة لتذكرهم ألسنة كلها تراب من تراب.. فانية بالية.. لا وزن لها.. بل ويأملون أن تخلّد ذكراهم! تبًا لهم.
وكم ممن استؤمن على هذا الدين لينصره في موقف فخانه.. وكم ممن استؤمن على هذا الدين ليحمله فتخلى عنه وانصرف.. وكم ممن عقد صفقة أخذ فيها الدنيا!! وأعطى فيها أمانة أمة!!.
ولمن علم “وجيعته” هذه وقصد الاستشفاء والعافية قبل الهلاك فلينظر في كتاب الله تعالى:
ولهذا الأمر عدة مآخذ منها..
صدْق الموقف وكذبه
أنه قد عدَّ ربنا سبحانه صدق الكلمة صدقً؛ لكنه نص على أن الصدق في الموقف صدْق وإلا عُدَ صاحبه كاذبًا: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ (الأحزاب: 23 – 24).
وعدَّ ربنا سبحانه الموقف الذي يرجع فيه المؤمن عن إيمانه أنه كذب عظيم: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ۚ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۚ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ۚ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ﴾ (الأعراف: 88 – 89).
فعدّ شعيبٌ عليه السلام رجوعه ـ والمؤمنين معه ـ عن دينهم وموقفهم ليس مجرد “كذب” بل هو “كذب على الله وافتراء عليه”.
ذلك لأن الرجوع عن دين الله يتضمن رسالة مفادها أنه يرى أن ما كان عليه باطلاً فلذا رجع عنه، وأن موقف المشركين حق ولهذا عاد إليه، وأن ما وعده ربه في الآخرة كذبًا ـ حاش لله ـ فلهذا لم يصبر على أمره .. كل هذه الأباطيل رسائل يرسلها المرتد عن دينه وموقِفه الحق، وهى لازمة له، شاء أم أبى.
وانظر إلى آية النحل: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ * مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (النحل: 105 – 106).
فعلى هذا الوجه من التفسير يكون قوله تعالى: ﴿مَن كَفَرَ..﴾ الآية، هو تفصيل لوصف مَن وصَفَهم بالكذب في قوله: ﴿وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾
يعني: كأنك تسأل من هم الكاذبون الكاملون في الكذب والممتلئون به بحيث كأن ما سواهم لا يسمى كاذبًا، فيوصفون به دون غيرهم؟ قيل لك: ﴿مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ﴾ الآية.
ثم نص سبحانه على السبب الدافع لهذا الكذب والباعث عليه، فقال: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (النحل: 107).
فالكلمة الكاذبة كذب..
والموقف الباطل كذب..
والمنهج الباطل الذي يختاره الإنسان كذب.
﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ﴾ (النحل: 39)، فهم كاذبون في إنكارهم البعث أو الرسالة وكاذبون في شركهم، ﴿أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ﴾ (الصافات: 86)، فجعلهم مفترين إفكا “كذبا” في شركهم.
وكذلك وصفهم مفترين الكذب في قوله ﴿هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ (الكهف: 15).
منهج الحياة بين الصدْق والكذب
وهم كاذبون في منهج حياتهم.. وخصوصًا من عرف الحق فهو افتراء كذب على الله.
وأما التزام الدين وتطبيقـه وحملـه والثبات به في مواقـف المحن والإشهـاد؛ فهـذا هو الصـدق: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُم مَّا يَشَاءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۚ ذَٰلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الزمر: 33 – 35).
يقول البيضاوي: «﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ اللام للجنس ليتناول الرسول والمؤمنين لقوله: ﴿أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ وقيل هو النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد هو ومن تبعه كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾». (1)
وأمر الله أمرًا مباشرًا بالصدق: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة: 119).
وهذا الأمر يشمل كل هذه المواقف .. والآية بنفسها جاءت تعليقًا على الثلاثة الذين خُلفوا، وسواء كانت أمرًا لنا بالتزام الصدق في الكلمة كما صدقوا أن لا عذر لهم، أو كانت أمرًا لهم ولنا في الصدق في المواقف بعدم التخلي عن نصرة هذا الدين في أي وقت مهما كان العذر.. فالأمر يشمل الجميع، ويشمل كل ألوان الصدق.
فمهما تكلمنا عن عدم الجدية وعدم نصرة الدين وعن الخيانة في المواقف وفي الطريق الذي يسلكه العبد لنفسه أو للدعوة ـ في زعمه ـ فلن يبلغ أثر هذه الآيات؛ فأثرها أعظم.
من يشري نفسه لله
مأخذ آخر علاجًا لافتقاد الصدق وهو آية واحدة من كتاب الله قد لا يدرك الكثير أنها مباشرة في الصدق، وهي رأسٌ فيه، وهي علاج ناجع لمن تدبرها:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ﴾ (البقرة: 207)، يشري يعني: يبيع.
وهذا هو الصدق .. أن يبيع المرء نفسه ـ كاملة ـ لله ابتغاء مرضاته، ومعنى هذا ألا يبقى جزء في نفسك إلا وقد بعته لله؛ فلا يبقى من نفسك لنفسك شيء، ثم إن الله تعالى غنيّ عنك، فيعيد كل هذا لك ولمصلحتك وخيرك في الدنيا والآخرة، وأنت الذي كسب .. ففي النهاية تشتري نفسك.
والبداية أن تشريها “تبيعها لله” وخاتمة الأمر أنك “اشتريتها” وفككت رهانها: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ (المدثر: 38)، فهي مرهونة ومحتبسة بعملها فأما المؤمن فقد فك رقبته واشتراها.
يقول البيضاوي: «﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾، مرهونة عند الله، مصدر كالشكيمة، أطلقت للمفعول كالرهن، ولو كانت صفة لقيل: رهين ﴿إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ﴾ فإنهم فكوا رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم». (2)
ولا سبيل لفك الرقبة وشرائها إلا ببيعها جملةً لله.
ثم إن “البيع لله” في حد ذاته هو الفوز العظيم؛ فهو أولى بنا منا، فمن باع لله جزءًا ما من نفسه وأبقى جزءًا فلا بد له أيضًا من بذله، لكن لغير الله فلمن يبذله إذًا؟
للدنيا؟ ما أخسرك.
للشيطان؟ إنه عدوك.
لهواك؟ أوَ ينفعك؟ إنه يُرْديك.
أما “الصادق” فقد أراح نفسه وباعها جملةً لربه.. كلمةً وموقفاً وطريقةَ حياة.
مأخذ الزهد في الدنيا، والرغبة في الآخرة
فمن مآخذ الصدق الدافعة اليه الزهد في الدنيا وشراء الآخرة: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (الحديد: 20).
﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (يونس: 24).
ولما كانت هذه الدار دار الآفات والنقائص دعانا ربنا سبحانه بعدها إلى دار السلامة من كل آفة ومن هذه النقائص فقال: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ (يونس: 25).
فلما ظهرت حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، وفناء هذه وبقاء تلك؛ اندفعت النفوس للصدق مع ربها تعالى؛ شراء لما عنده وتصديقا بوعده.
ولهذا كان الترغيب في الآخرة دافعا للصدق فينظر في آيات الترغيب، والترهيب من النار دافعا للصدق ليهرب منها.
الحفاظ على التكريم
واحترام الإنسان لنفسه دافع للصدق: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ (التين: 4)، ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: 70).
فالإنسان لا يحافظ على تكريم الله تعالى له إلا إذا التزم المنهج الذي أنزله له مَن كرّمه.
وثمة مآخذ أخرى مفتوحة في هذا الكتاب .. ولينظر الإنسان أيها أنجع لنفسه وأيها يجد نفسه متجاوبة معها ومتأثرة بها.. أيها يبلغ إلى أعماق نفسه فليلزمها وليلح في طلب الاستشفاء بها، “ولْيكُن هِجّيراه: لا حول ولا قوة إلا بالله”. (3)
لعلهم يرجعون
الصدق نجاة لهذه الأمة؛ فهو ضرورة ملحّة.. فالكذب الذي يفشو اليوم يستلزم الفجور في قطاعات، ويستلزم الخيانة في قطاعات أخرى.
خيانة باع فيها من ائتُمنوا أمانات ضخمة، وفي لحظات فارقة، ومواقف مفصلية.
لهذا ندعو ونذكّر لعل الله تعالى ينفع بها عباده.. ولعلهم يرجعون.
…………………………………………….
الهوامش
- تفسير البيضاوي، جـ 1، ص 67.
- تفسير البيضاوي، جـ 1، ص 417.
- مجموع الفتاوى، جـ10، ص 137.