إن الله سبحانه أنزل الحق محكما ومفصلا، نورا صافيا. ولا يزال أهل الباطل يُدْلون بشبهاتهم المظلمة فتضل بعض القلوب. ولذا وجب دفعها ليظهر زيف الباطل ونصاعة الحق.
التعريف بالكتاب
المؤلف: الدكتور / فهد بن صالح العجلان .. مشاري بن سعد الشثري
الناشر: مجلة البيان
الطبعة: الأولى، 1437 هـ
عدد الأجزاء: 1
عدد الصفحات: 139
أهم الأفكار التي تناولها هذا الكتاب
لم يكن لسؤال حاكمية الشريعة خلال تاريخنا الإسلامي الممتد لمئات السنين أي حضور يذكر، فقد كانت حاكمية الشريعة من الأصول المحكمة الراسخة التي لم ينازع فيها أي مسلم، ولكن بعد أن تردت أحوال العالم الإسلامي، وتساقطت بلدانه تحت وطأة المستعمر، وانحلّت عرى الخلافة أصبح المستعمر مستبدا بكافة موارده، واستطالت يده لتعبث في كل مكونات العالم الإسلامي، وعلى رأسها هويته وتعليمه وثقافته، وحضرت حينها المرجعيات المزاحمة لمرجعية الشريعة في هذه اللحظة نشأت (سؤالات تحكيم الشريعة).
وهذا الكتاب يستعرض أبرز تلك السؤالات التي تهدف إلى إلغاء مرجعية الشريعة وتثير الشكوك حولها، وينزع إلى الحفر فيها داخليا، بتفكيكها، وكشف مُضمَراتها، والإبانة عما تضمنته من إشكالات منهجية كبرى، مع مناقشتها بجوابات مختصرة مكثفة.
وأصل هذا الكتاب مجالس بحث ونظر جمعت لفيفا من المهتمين بهذا الحقل المعرفي، استعرض فيها الكاتبان السؤالات وسوَّدا فيها أفكار الجوابات، ثم قام الكاتبان ببسط القول فيها، وتوسعة النظر في أنحائها، مع تحريرها والإضافة عليها.
محتويات الكتاب
يشتمل الكتاب على:
المقدمة
يقسم هذه السؤالات الى مجموعتين:
الأولى: المتعلقة بكيفية تطبيق الشريعة، وتحديات تطبيق الشريعة، وتفاصيل الأحكام الشرعية، والثابت والمتغير منها، ونحو هذه السؤالات التي تحمل سجالات فكرية واسعة.
الثانية: السؤالات المتعلقة بأصل تحكيم الشريعة، وهي االتي تثير الشكوك حول ذات المفهوم، وتنزع إلى إلغاء حقيقته.
وهي السؤالات الحديثة التي توجه اعتراضاتها على أصل مفهوم تحكيم الشريعة.
الشريعة الغامضة
ويناقش ما يقوله المرجفون بأن:
“وجود اختلاف بين الناس في تفسير الشريعة وإقامة أحكام الشريعة يعني عبثية المطالبة بتحكيم أمر غير متفق عليه كان ولا يزال محل احتراب وجدل، وقد راكمت المدارس الفقهية عبر القرون في تاريخ الإسلام رصيدا هائلا من الرد والنقض والاختلاف في تقرير الأحكام الشرعية، ولدى المعاصرين اختلافات أوسع، ومن ثم فأي شريعة نطبق..؟”.
وبرغم القِدم النسبي لهذا السؤال فإنه ما زال يُطرح بشكل مستمر، ولا يزال يحقق بعض الرواج.
وبصرف النظر عن بواعث هذا السؤال وطبقات مثيريه، يمكن الإجابة عن هذا السؤال ومضمراته عبر النقاط الآتية:
- حتمية الاختلاف بين الشرع والقدر.
- تعدد تفسيرات المفهوم لا يلغي فعاليته.
- الشريعة ليست لغزا.
- الموقف من تعدد التفسيرات.
الشريعة المشروطة
كثيرا ما يقول صاحب هذا السؤال في سياق دفعه لتحكيم الشريعة: ما الشريعة التي تريدون الحكم بها..؟
وهذا تركيب خاطئ للتساؤل، لأن الواجب على المسلم أن يسلّم أولا للشريعة، ثم يبحث عن أحكامها، لا أن ينظر أولا في الأحكام، ثم يقرر هل يؤمن بها أم لا..؟!.
ويبين أن مشكلة من يطرح هذا السؤال تكمن في أنه لم يُسلّم أساسا بضرورة الالتزام والانقياد للشريعة، فما زال في نفسه إشكالات تحوم حول تحكيم الشريعة.
الشريعة الموظفة
يقولون:
“إن تحكيم الشريعة والسعي في تطبيقها يجعل منها عرضة للتوظيف من مختلف الطوائف والحكومات، فيمكن لأي حكومة من خلالها أن تنهب المال وتقتل الناس وتعتقل الرجال وتكمم الأفواه بحجة تطبيق الشريعة، فلئلا يستغلها المستبدون الظالمون في قهر الناس وظلمهم يجب إبعاد الشريعة عن أن تتخذ وسيلة للفاسدين يحققون بها مآربهم”.
إننا حين ننظر في واقعنا المعاصر نجد أن الحالة الأضخم للتوظيف في النظم العربية والإسلامية لم تكن للشريعة، بل كانت للديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والتقدم وسيادة الأمة، فأكثر المجازر والمظالم كانت ترتكب باسم هذه المفاهيم، وكل النظم الساسية المعاصرة التي ثار عليها الناس كانت تحكم باسم الديمقراطية والحرية وسيادة الشعب.
الشريعة التاريخية
يقولون:
“إن تشريعات الإسلام نزلت في إطار زمني قابل لتطبيقها وتحكيمها، وكانت أحكامه محكومة بالظرف التاريخي الذي نزلت فيه، لكن هذا كله لم يعد ممكنا في زماننا، لأن هناك متغيرات كبيرة قد استجدَّت لا يمكن معها استجلاب ذات النظام القديم”.
يدعونا هذا السؤال للبحث في حقيقة هذه الدولة الحديثة وصفاتها، وهل هي فعلا متنافية مع تحكيم الشريعة مطلقا، بحيث لا يمكن قيام إحداهما إلا على أنقاض الأخرى؟
هناك قراءة سطحية لطبيعة النظام السياسي الإسلامي تكشف لنا عن خلل عميق في إدراك مفهوم تطبيق الشريعة، وكيفية بناء سياساته وأحكامه، فالدعوة إلى تحكيم الشريعة ليست دعوة إلى استنساخ تاريخي يطابق فيه بين ماضي وحاضر، وليست دعوة إلى نماذج سياسية معينة يستلزم تطبيقها هدم جميع النظم المعاصرة وتفكيك مؤسساتها؛ فهذا التصور بعيد جدا عن الشريعة وواقعيتها وطبيعة أحكامها.
إن شكل الدولة المعاصرة، وطريقة تقاسم السلطة فيها، والجوانب المعتمدة فيها، والمؤسسات القائمة هي من الأمور المتغيرة التي لا يلزم فيها المحافظة على نمط معين.
الشريعة المطبقة
يقولون:
“إن الشريعة في حقيقة الأمر مطبقة، وذلك أنا نرى الناس لا يحجزهم عن العبادات شئ، فها هم يصلون ويصومون ويزكون بحرية تامة، ولا يملك أحد منعهم من ذلك”.
يكمن الخلل في السؤال في مفهوم الشريعة عند من يثير هذا السؤال، فإنا نراه ينثر دعوى واسعة، لكنه يبرهن عليها بدليل ضيق لا يملأ أمداء تلك الدعوى، وذلك أنه وضع الشريعة في إطار معين يختلف تماما عن الإطار الذي دارت حوله رحى الخلافات بين الداعين لتحكيم الشريعة ومن يناهض أحكامها من خصوم الإسلام، فرأى أن هذا الإطار موجود، فلم يرَ بعد ذلك معنى لوجود خلاف في تطبيقها أو رفضها والحال أنها مطبقة.
يتكلم عن تطبيق مختلف ليس هو محل النزاع، يتحدث عن تطبيق للشريعة في حدودها الآمنة المتعلقة بالعلاقة الفردية بين العبد وربه من صلاة وصيام وزكاة وحج، يتحدث عن أن الناس يعبدون الله بكل حرية، وأن الآذان يرفع في المساجد، وأن الناس يجتمعون في الجمع والمناسبات والأعياد..
إن كل ما يسوقه من الأمثلة يقع في سياق التعبد الفردي المحض الذي لا يمس النظام، ولا يؤثر على القانون، ولا يصل لحد الإلزام والحكم، فهو يفسر تحكيم الشريعة بالتطبيق الفردي المحض المتعلق بعلاقة الإنسان بربه، دون أن يكون هناك أي بعد سياسي.
الشريعة المختزلة
يقولون:
“إن الشريعة التي يدعو إليها من ينادي بتحكيم الشريعة مختزلة، لا تمثل سوى رؤى قاصرة لأصحابها، فلا يسعنا والحالة تلك أن نقوم بتحكيمها، بل علينا أن نقف حائلا دون تحكيمها ما دامت كذلك”.
إن من لوازم تحكيم الشريعة أن تكون العصمة والقداسة للشريعة فقط، وأما الناس فمهما كان فضلهم وصدقهم واجتهادهم في تحكيم الشريعة فهم عرضة للخطأ والقصور، فالنقد الموجه لهم إن كان بعلم وعدل وموضوعية فهو نقد بناء، ومن الضرورة وجوده وتقبله، وهو من ضمانات تحقيق التحكيم الأمثل للشريعة.
فنقد أي جماعة أو مشروع أو داعية بأن لديه اختزالا نقدٌ لا غبار عليه إنِ التزم بمنهجية النقد الصحيحة ولم يخط ذلك النقد خطوة نحو المساس بمرجعية الشريعة.
ولابد من التأكيد دوما على ضرورة الشمولية في المطالبة بتحكيم الشريعة، وأن لا يفرط من تلك المطالبة شئ من أحكامها، وأن لا يستجر دعاة تحكيم الشريعة إلى التركيز على بعض الأحكام وإهمال البعض الآخر، وأن يعزز في وعي الناس جميعا أن تحكيم الشريعة هو الرجوع إليها في كافة شؤون الحياة بما يحقق سعادة الناس في دينهم ودنياهم، ويحقق لهم العدل والأمن والخير.
والحقيقة أن الاختزال وقع من خصوم تحكيم الشريعة، لا من الدعاة إليها، فهم الذين يثيرون هذه الأحكام بمناسبة وبغير مناسبة في وجه كل صوت يصدح بالمطالبة بتحكيم الشريعة أيا كان مصدره، وهم الذين اختزلوا الشريعة عن هذه الأحكام.. وذلك بسبب أنهم يعانون من مشكلة عميقة مع نصوص قطعية وأحكام مجمع عليها.. إنهم يسلطون أقلامهم على حزمة من الأحكام شتما وذما وتقريعا وتشويها، وحين يهب الفضلاء لتوضيح الموقف الشرعي الصحيح من هذه الأحكام تنطلق عليهم لائمة الاختزال..!
الشريعة المشوهة
يقولون:
“إن التطبيقات الواقعية والمحاولات القائمة لتحكيم الشريعة هي تطبيقات ومحاولات فاشلة وفاسدة طالها التشويه والانحراف عن حقيقة الشريعة، والانسياق معها. ومطاوعة الدعوات التي تنادي بتحكيم الشريعة إنما هو سعي في مزيد من التطبيقات المشوهة”.
يثير السؤال إشكالية وجود تطبيقات للشريعة في عصرنا الحاضر لم تكن ناجحة، ويفيض في الحديث عن كونها نماذج مشوهة قدمت صورة سلبية لتحكيم الشريعة.
وتفضي هذه المقدمة إلى التخلي عن حاكمية الشريعة والتزهيد فيها؛ ولكن يقتضي الواجب التشديد على ضرورة تطبيق السريعة التطبيق الأمثل، وتحقيق الضمانات، والوقوف في وجه كل الوسائل التي تحول دون ذلك.
أما الانطلاق من نقطة وجود تجارب مشوهة إلى تشويه تحكيم الشريعة بالكلية هو انطلاق مشوه لا يسير وفق منهج علمي موضوعي صحيح، فالاتكاء على ذلك التشويه المدعى للفرار من تحكيم الشريعة ضرب من التعسف ناتج عن رغبة وثابة للتخلص والتنصل من الشريعة بأي وسيلة.
إن عامة تجارب الحكم المعاصرة كانت بعيدة عن تحكيم الشريعة، بل إن كثيرا منها يُظهر المعاداة والخصومة مع المشروع الإسلامي، وعامة الأنظمة المعاصرة التي بليت بها الشعوب كانت تدعو إلى تطبيق الديمقراطية والحرية وسيادة الشعب واستقلال القضاء، ومارست أشد أنواع الظلم والقمع وانتهاك حقوق الإنسان، فإن كانت التجارب سببا لتشويه المفاهيم والتزهيد بها فأحظى المفاهيم بذلك: الديمقراطية والحرية، فبها كانت النظم تتمسح، وهي الشعارات التي رفعتها لسياستها.
وجه آخر من التشوه يتمثل في استبداد رجال الدين ـ على حد وصف المعترض ـ ومن يثير هذا الوجه يعتقد أن الاستبداد يبدأ من وجود فئة تفرض رأيها باسم الدين، وتفسر الدين بما ينتج الاستبداد الذي يتولى كبره علماءُ الدين والدعاة إلى تحكيم الشريعة.
والحقيقة أن الاستبداد ينشأ من وجود فئة أو قوة سياسية لا راد لحكمها ولا معقب لقضائها، تفعل ما تشاء وتظلم كما تشاء، ولا يستطيع أحد أن يخالف أمرها، ثم يمكن أن تدعم استبدادها بتحريف النصوص وتأويلها بما يوافق هواها، وهذا يأتي بوصفه عاملا مساندا للمستبد، وليس معطى يفسر به نشوؤه.
الشريعة المنتجة للنفاق..!
يقولون:
“إن تحكيم الشريعة وإكراه الناس على الانقياد لها يورث مجتمعا منافقا يقارف في السر ما يجانبه في العلن، وهذا مناف لمقصد الدين القائم على أنه ﴿لا إكراه في الدين﴾”.
ويقولون أن هذه الآية الكريمة تدل على نفي الإلزام بالشريعة، فهي تتفق بذلك مع المفاهيم الحداثية المعاصرة.
وأصل هذا السؤال والاعتراض يثار من جهات شتى؛ فثمة اتجاه يريد نفي أي التزام أو فرض في الشريعة الإسلامية، ويرى أن كافة الأحكام إنما تقوم على الاختيار والرضا.
أما الاتجاه الثاني فلا يرى أصحابه ـ من غير العلمانين أو الرافضين لها ـ عزل الدين عن الدولة، ولا تبنّي الرؤية العلمانية “اللادينية” في النظام السياسي، غير أنهم يقررون أن تحكيم الشريعة يؤدي إلى النفاق إلا أن يكون عبر سيادة الأمة ومشروعية الاختيار.
والسؤال يكشف عن خلل كبير في أصل مفهوم النفاق، وفي فهم كيفية نشوئه، وكذلك في فهم أحكام الشريعة والإلزام بها، ترتب على ذلك أخطاء كثيرة.
الشريعة التقليدية
يقولون:
“إن تحكيم الشريعة ينتج انتهاكا صريحا للحريات، لأنه مفهوم تقليدي لا يراعي التطور والتنامي الحضاري في حقوق الإنسان وصيانة الحريات، والدولة يجب أن تحكم بما يكفل حفظ الحريات والحقوق”.
أولا إنا نبحث أصلا عن مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وسواء كانت هذه الرؤية تقليدية أو تجديدية فهذا وصف غير مؤثر، فالقِدَم والجدية ليسا معيار حق وباطل.
والشريعة لها أصولها الفكرية ومرجعياتها القطعية، فهي تحاكم الآخرين وفق رؤيتها، ولا تنقاد لهم، فهي قائدة لا تابعة.
وتهمة انتهاك الحريات مفادها أن لديك مفهوما يخالف مفهومنا عن الحرية، وأنك تقيد من الحرية ما نطلقه، أو تطلق ما نقيده، وفقط.
والذي يتخذ من الشريعة مرجعية سيسقط هذا السؤال مباشرة، لأن الانتهاك المدعَى ليس جاريا على سنن الشريعة أصلا، بل هو انتهاك وفق الرؤية الليبرالية المناهضة للإسلام، فإن الشريعة لها مفهومها عن الحرية، وهو مفهوم أرقى وأعرق وأعظم من غيرها من الفلسفات.
خاتمة
يخلص إلى ثلاث حقائق راسخة وركائز حاكمة على أي سجال في هذا السياق:
الحقيقة الأولى: قطعية تحكيم الشريعة
فتحكيم الشريعة من الأصول القطعية المحكمة، وليس قضية فقهية اجتهادية، وهذه السؤالات انحرافات في التعاطي مع أصل محكم لا يقبل النزاع ولا النقاش، وذلك أن شأن الشريعة أجَلُّ من أن يدار النظر فيه قبولا وردا، فهو من محكمات الإسلام وأركانه.
الحقيقة الثانية: كيفية تحكيم الشريعة
التفريق بين البحث المتعلق بكيفية تحكيم الشريعة في الواقع، والبحث المتعلق برفض التسليم بأصل تحكيم الشريعة.
الحقيقة الثالثة: واقعية تحكيم الشريعة
تحكيم الشريعة لا يكون تحكيما شرعيا إلا إذا روعيت فيه الشروط الشرعية المتعلقة بفقه المصالح والمفاسد، وحدود القدرة والإمكان.
إن القلوب المؤمنة الموقنة لا تعدل بحكم الله تعالى حكم غيره (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، ولكن الشبهات قد تحجب رؤية تلك القلوب، وتحول بينها وبين نور حكم الله تعالى، فالواجب على المسلم حيال ذلك أن يجتهد في التمسك بأصل تحكيم الشريعة، ويحافظ على إحكامه، ويدفع عن قلبه أوضار الشبهات، فلا يضيع ثبات المحكمات بطوارئ الشبهات.
………………………………….
اقرأ أيضا:
- الإسلام ومشكلات الحضارة
- الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية
- عرض كتاب ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي
- عرض كتاب “الثبات والشمول في الشريعة الإسلامية”