إنّ المقاطعة الاقتصاديّة نوع من النصرة من حيث العدم من الناحيتين المادّيّة والمعنويّة، حيث تدخل في الناحية المادّيّة باعتبار منع التعامل الاقتصاديّ مع الكيان المحتلّ وشركاته وشركات الدول الداعمة له والشركات الداعمة له في كل مكان، وفي ذلك تأثير مادّيّ ملموس حيث سيقلّ حجم التعامل مع هذه الشركات بيعًا وشراء وتعاملًا وسيقلّ عدد المتعاملين معها، وتدخل الناحية المعنويّة باعتبار…

تصاعد الإفساد الصهيوني في الفترة الأخيرة

منذ زراعة السرطان الخبيث الكيان الصهيونيّ في أرض فلسطين، وعالمنا يعاني شرهم وإفسادهم وقتلهم للآمنين، وقد تصاعد الإفساد الصهيوني في الفترة الأخيرة ابتداء من التدنيس المستمرّ للمسجد الأقصى، وإقامة الشعائر التلموديّة الباطلة من أجل تحقيق سيادتهم التامّة عليه تمهيدًا لهدمه وإقامة هيكلهم المزعوم مكانه، وتدنيسهم لعموم المقدّسات في فلسطين، ومرورًا بسجن الآلاف المؤلّفة من الرجال والأطفال والنساء من الفلسطينيين وغيرهم، والتنكيل بهم، وإطالة سجنهم وتكراره، وانتهاء بالقتل اليوميّ للفلسطينيين، وهدم بيوتهم، واجتياح المدن والمخيّمات، وغير ذلك من أنواع الإفساد وأشكاله، وهذا في الحقيقة لم يحدث مثله في تاريخ القضيّة.

الأمة الإسلامية: فرقة وضعف وغفلة

وقد عاني العالم العربيّ حالة شديدة من الإخفاق خصوصًا بعد انتكاسة الربيع العربي، فقد عادت القبضة الأمنية على شعوب المنطقة، لتقتل الثوّار في الطرقات، وتعتقل المخلصين من تيار الصحوة الإسلاميّة، وتطفئ جذوة الأمل في التغيير، وهذا أدّى إلى تفشّي مشاعر اليأس والقنوط، بل ولّد لونًا من الغفلة في ردّة الفعل، وقد تلقف اليهود هذه الفرصة الاستثنائية؛ لتنفيذ أهدافهم الخبيثة في المنطقة العربية والإسلامية وفي القلب منها فلسطين، فسارعوا في عمليّة تهويد القدس، وسعوا لإغلاق ملفّ القضيّة الفلسطينيّة من خلال مشاريع التطبيع والتحالف مع الدول العربية والإسلاميّة حيث طبَّعت الكثير من الأنظمة العربيّة والإسلاميّة خلال السنوات الأخيرة، أضف على هذا تحرّكهم الحثيث للتطبيع مع دول أخرى، وربط دول المنطقة مع الكيان الصهيوني في مشروع اقتصاديّ يحقّق السيادة التامّة لهذا الكيان، مع السعي لإمضاء صفقة القرن واحتلال غزة وتهجير أهلها إلى صحراء سيناء، وتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية ومناطق الـ48 إلى الأردن، وقد أدرك المجاهدون في غزة العزة خطورة الوضع، فأعدّوا العدّة لإيقاف مخططات هذا العدوّ الخبيث، فكانت معركة طوفان الأقصى تحقيقًا لسنن الله: ﴿فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [ سورة البقرة: 251]. فمن سنن الله أنّه يدفع المؤمنين ليردّوا اعتداء الكافرين حتّى لا تفسد الأرض، والصهاينة أئمة الفساد وسدنة الشر.

طوفان الأقصى يفتح الأمل أمام الأمة لاستعادة دورها

وكان من فضل الله سبحانه وتعالى أن يتجاوز هذا الطوفان العظيم قضيّة إيقاف مخطّطات العدوّ إلى فتح الأمل أمام الأمّة من أجل استعادتها لسيادتها، هذا بالإضافة إلى بعث روح الجهاد من جديد، وظهور معادن الرجال الداعية للحقّ والمسوّقة له، فالثبات على الحقّ والتضحية في سبيل الله ومن أجله يجذب الآخرين له، بل يثير مشاعل النور في قلوب المستضعفين ليتحرّروا من ربقة الظلمة، ولا جرم أنّه حان الوقت لكي تتحرّك الأمّة دعمًا لطوفان الأقصى بكلّ الأدوات والوسائل الممكنة، فهذا هو الوقت المناسب لكي يتحرك المسلمون لنجدة قدسهم ومسرى نبيّهم، وهذا هو الوقت المناسب للخروج من اليأس والقنوط، فسبحان مالك الملك، يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، وهو على كلّ شيء قدير.

ضرورة النصرة ومجالاتها

الفرع الأوّل: ضرورة النصرة

أنعم الله على هذه الأمّة الإسلامية بالتوحيد، التوحيد في كلّ ضروبها وأحوالها، وفي كلّ عبادتها واجتماعها، فربّها واحد.. ونبيّها واحد.. وقبلتها واحدة.. قال جلّ وعلا: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ﴾ [محمد: 19]. وأمّتها واحدة مرتبطة بالسابقين واللاحقين من المؤمنين.. قال جلّ وعلا: ﴿إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92]. وأوصال هذه الوحدة العقائديّة مرتبطة بالوحدة العضويّة الاجتماعيّة التي تجعلهم كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى، كما في الحديث: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”1(1) مسلم، ج4/ ص1999، رقم الحديث: 2586.، فالوحدة العقائديّة تستلزم الوحدة العضويّة والاجتماعيّة.

التناصر والموالاة بين المؤمنين من أصل الدين

وكذلك لا بدّ أن تصاحبهما الولاية بعضهم لبعض، قال الحقّ جلّ وعلا: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 71].

فهي ولاية في كلّ حال وفي كلّ أمر فيه طاعة لله عز وجل ولرسوله ﷺ، وإنّ تحقيقها مؤدٍّ لرحمة الله العزيز الحكيم، ويا لها من مكافأة لا تعدلها مكافأة، وقال الحق: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: 72- 74]. فهذه الآيات الكريمات توجب التناصر والمولاة بين المؤمنين وبعضهم لبعض كما قال المفسّرون2(2) انظر: الطبري، ج6/ص327. قال الجصاص: “أوجب عليهم التناصر والموالاة” (سورة الأنفال) قال ابن العربي: “قطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض، وجعل المنافقين بعضهم أولياء بعض، يتناصرون بدينهم، ويتعاملون باعتقادهم” انظر: ابن العربي، محمد بن عبد الله، أحكام القرآن، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان الطبعة: الثالثة، 1424 هـ – 2003 م، ج2/ص441. وهذا يشمل كلّ ما جاء في المولاة والتناصر، وكلّ ما جاء في البراءة من غيرهم وعدم موالاتهم، قال الكيا الهراسي: “وفي نفي الولاية، دليل على قطع الولاية بينهما في المال والنفس جميعًا”3(3) الكيا الهراسي، علي بن محمد، أحكام القرآن، ج2/ ص285..

الفرع الثاني: مجالات النصرة

يمكن تقسيم مجالات النصرة بتقسيم حاصر من حيث الوجود إلى جانبين:

النصرة من جانب الوجود: ويقصد به جانب وجود النصرة وجلبها وتحقيقها.

النصرة من جانب العدم: ويقصد بذلك درء كلّ ما يؤدّي إلى الخذلان وعدم النصرة.

وكلّ جانب من الجانبين ينقسم باعتبار الذات إلى ناحيتين:

الناحية المادّيّة: ويقصد بها كلّ ما له أثر حسّيّ، فيدخل فيها النصرة بالمال، والنصرة بالرجال، والنصرة بالمقاطعة الاقتصاديّة وعدم بيع البضائع والمواد.

الناحية المعنويّة: ويقصد بها ما له أثر لكنّه ليس حسّيًّا مادّيًّا، مثل: النصرة بالكلمة، والنصرة في الإعلام، والنصرة في كشف إجرام الصهاينة، والنصرة في كشف المتعاملين مع العدوّ الصهيوني والداعمين له وإساءة وجوههم.

 وعند الجمع بين التقسيمين تتكوّن عندنا مجالات النصرة بشكل عامّ، وهي كما يأتي:

النصرة من حيث الوجود المادّيّ، وذلك من خلال النصرة بالمال وبالمواد العينيّة، والنصرة بالرجال وأصحاب الخبرات والكفاءات كالأطبّاء والمهندسين والعسكريّين وغيرهم ممّن يحتاج إليهم.

النصرة من حيث الوجود المعنويّ، وذلك من خلال النصرة بالكلمة والإعلام، وتوعية الأمّة ونخبها بواجباتها في النصرة والإمداد.

النصرة من حيث العدم المادّيّ، وذلك من خلال المقاطعة بكلّ أشكالها، ومنها المقاطعة الاقتصاديّة.

النصرة من حيث العدم المعنويّ، وذلك من خلال الترويج لثقافة المقاطعة بكلّ أشكالها، وبيان خطورة الخذلان.

المقاطعة الاقتصاديّة نوع من النصرة

فكما تبيّن فإنّ المقاطعة الاقتصاديّة نوع من النصرة من حيث العدم من الناحيتين المادّيّة والمعنويّة، حيث تدخل في الناحية المادّيّة باعتبار منع التعامل الاقتصاديّ مع الكيان المحتلّ وشركاته وشركات الدول الداعمة له والشركات الداعمة له في كل مكان، وفي ذلك تأثير مادّيّ ملموس حيث سيقلّ حجم التعامل مع هذه الشركات بيعًا وشراء وتعاملًا وسيقلّ عدد المتعاملين معها، وتدخل الناحية المعنويّة باعتبار ما يجب أن يترافق مع المقاطعة من إعلام وإعلان وإساءة لوجه المتعاملين مع الكيان الصهيونيّ وشركاته والشركات الداعمة له وفضحهم.

الهوامش

(1) مسلم، ج4/ ص1999، رقم الحديث: 2586.

(2) انظر: الطبري، ج6/ص327. قال الجصاص: “أوجب عليهم التناصر والموالاة” (سورة الأنفال ) قال ابن العربي: “قطع الله الولاية بين الكفار والمؤمنين فجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض، وجعل المنافقين بعضهم أولياء بعض، يتناصرون بدينهم، ويتعاملون باعتقادهم” انظر: ابن العربي، محمد بن عبد الله، أحكام القرآن، راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلَّق عليه: محمد عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان الطبعة: الثالثة، 1424 هـ – 2003 م، ج2/ص441.

(3)  الكيا الهراسي، علي بن محمد، أحكام القرآن، ج2/ ص285.

المصدر

موقع  هيئة علماء فلسطين، “أحكام المقاطعة الاقتصاديّة للكيان الصهيونيّ وداعميه”، د. محمّد همام ملحم – أ. أنس ممدوح الأنصاري.

اقرأ أيضا

أهميّة المقاطعة، والأمثلة التاريخيّة عليها

طوفان الواجبات.. وواجبات الطوفان

دروس ووصايا من ملحمة الإباء في طوفان الأقصى

التعليقات غير متاحة